احتفت الأممالمتحدة أخيرا بيوم السعادة العالمى وفيه يتم تصنيف الدول وفقاً لمدى سعادة شعوبها بحسب معايير تتعلق بمدى ما يتاح لها من حرية وما يقدم من خدمات تؤدى إلى تحسين حياة المواطنين، بالإضافة لمدى تفشى الفساد فى الداخل ومعدلات طول العمر. وقد جاءت مصر وفقاً لهذا التصنيف فى المركز السابع عشر عربياً وال 132 دولياً. وهناك مآخذ عديدة على المنهجية المتبعة. وبغض النظر عن عدم حياد مثل تلك التقارير تجاه مصر بعد ثورة 30 يونيو، فإن المتأمل لأحوال الشعب المصرى لابد أن يلحظ بوضوح سمات العبوس والتجهم التى صارت تكسو وجوه المصريين والتى حلت محل ابتسامة شعب كان دائماً ما يوصف بأنه «ابن نكته» وقادر على السخرية من آلامه وأحزانه والتغلب عليها بإيمانه بالله وبالثقة فى الخير الذى يحمله له دائماً المستقبل. ولا نستطيع أن نعزو غياب ملامح الأمل والتفاؤل لدى غالبية الشعب المصرى فقط إلى السنوات الثلاث الأخيرة التى حفلت بخبرات عدم الاستقرار السياسى وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بصفة عامة. فالواقع أن ملامح التجهم والضيق والضجر قد كست وجوه أغلب المصريين منذ سنوات طويلة عاشوا خلالها مظاهر القهر والركود فى الحياة السياسية، كما عانوا أيضاً من أجل الحصول على حقوق ومتطلبات أساسية للعيش الكريم فى وطن ازدادت فيه الهوة بين من يملكون وبين من لا يملكون. مما لا شك فيه أن تفجر ثورة 25 يناير قد سرى بروح جديدة فى جميع أرجاء مصر بعد أن فرض الشعب إرادته فى إسقاط النظام، وأثبت لنفسه قبل العالم قدرته على الفعل وعلى التغيير بعد أن لفه الجمود عشرات السنين. وقد أبهر شباب مصر العالم حين نظم نفسه بعد 11 فبراير فى جماعات تلقائية لتنظيف الشوارع وتجميل الميادين التى اعتصم بها، كما قام بتنظيم المرور وحماية الشوارع والمنشآت بعد الانفلات الأمنى الذى ساد فترة. حينئذ كانت الفرصة سانحة «لعودة الروح» للشعب المصري، وكانت الحاجة ملحة لوجود قيادات ونخب تعبر بالأمة فوق الآلام والمحن التى سرقت ابتسامتها، وتستثمر هذه الهمة التى سكنت أرواح الشباب وتبث فيهم الأمل فى غدٍ أفضل. ولكن على النقيض فإن الحكومات المتعاقبة وقتها لم تمتلك الجسارة أو حتى الرغبة فى استثمار هذه اللحظة التاريخية الفارقة، وبدلاً من إدارة الأمور بالحسم والحزم دخلت فى عقد الصفقات وإدارة المواءمات بين الفرقاء المتنازعين على السلطة. ولا يحتاج الأمر إلى شرح ما تراكم على نفوس ومشاعر المصريين من هموم وآلام وهم يعيشون محاولات سرقة الثورة وتزييف الهوية القومية لمصر ومسخ شخصيتها الوسطية المتفردة على مدار التاريخ، وذلك خلال عام مر عليهم كالدهر من حكم جماعة الإخوان. بل إن الوضع قد ازداد سوءا مع تحول الصراع السياسى إلى نزيف شبه يومى للدم المصري. وقد عز على المصريين أن يشاهدوا كيف رخص هذا الدم فى مشهد لم تعتده فى تاريخها الحديث، إذ طالما بذل المصريون بشرف دماءهم الغالية دفاعا عن الوطن ضد القوى الخارجية وليس فى مواجهة بعضهم البعض. وأدت أصالة هذا الشعب إلى اختزانه لآلامه وأحزانه وتفجيرها فى موجة جديدة من الثورة فى 30 يونيو، معلناً فيها رفضه العبث بهويته وإصراره على تحرير إرادته واسترداد ثورته. ومرة ثانية خلع الشعب أحزانه بسقوط نظام الإخوان، ونفض عن ثوبه اليأس والقنوط، مستبشراً بما يحمله الالتحام مع جيشه من آمال فى الوصول بمصر إلى ما تستحقه من مكانة. لكن للمرة الثانية يعز الزمان على مصر بنخبة ترتقى إلى مستوى طموحات هذا الشعب، وبدلا من أن يترجم من تولوا الأمر المطالب التى حملتها الثورتان إلى خطوات فعلية على أرض الواقع فإنهم نكصوا على أعقابهم، ومن بين أصابع اليد المرتعشة والأنظار المتجهة إلى الخارج تسربت الآمال والأحلام التى احتوتها مطالب الثورتين، وأدى البطء فى اتخاذ القرارات - بل العجز عنه أحياناً - إلى منح المخططات الرامية إلى تفكيك الدولة الفرصة فى غرس الفرقة والانقسام داخل جبهة 30 يونيو نفسها. وفى وسط هذا المناخ المرتبك والملتبس لا يتوقع أحد أن تحلق الروح المعنوية للشعب المصرى فى الآفاق العليا، فالوطن أضحى مستهدفاً فى حرب آلياتها وأطرافها متعددة، وما يزرع فى الحلق غصة أن بعض هذه الأطراف ينتمى إلى هذا الوطن. ويربط البعض بين السنوات التى تلت نكسة 1967 وبين الفترة الراهنة، فربما لم تعش مصر فى تاريخها الحديث سنوات أحلك من تلك التى تلت هذه النكسة، إذ كانت الصدمة كبيرة كبر الأحلام التى حملها جيل ثورة 1952، ومع ذلك فقد التف الشعب حول زعيمه ورفض تنحيه عن الحكم فى إصرار على تجاوز الهزيمة. وبعد أيام قليلة خرجت الأغانى الوطنية التى تحض على التماسك وتزرع الأمل فى النصر، كما لعبت الدراما السينمائية والمسرحية دورها فى نقد الأوضاع التى أدت إلى هزيمة 1967 بل انتقاد النظام الناصرى صراحة. وقد ارتفع شعار صلابة الجبهة الداخلية جنبا إلى جنب مع شعار لا صوت يعلو على المعركة، وتقبل جموع الشعب الكثير من التضحيات أملاً فى استعادة الكرامة والعزة الوطنية. أما فى المشهد الراهن فإن الثورة لم تترجم نفسها فى حركة فنية أو تنعكس على ما ينتج من أعمال درامية، وفيما عدا النذر اليسير من الإنتاج الشعرى والغنائى لم تشهد الساحة الفنية أعمالاً يتغنى بها الثوار، بل أعيد إنتاج بعض ما صدر خلال الحقبة الناصرية. وقد انشغل بعض الفنانين بممارسة السياسة بدلا من أن يقوموا بدورهم فى إثراء الفن المصرى بإنتاج يزرع الأمل فى وجدان المصريين ويوحد صفوفهم ويشحذ همتهم فى إعادة بناء الوطن، ومن ثم فقد خلا المشهد من قوى البناء فى مقابل انتشار معاول الهدم. وقد يرى البعض أن تراكم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية على مدى عقود قد يكتب على المصريين أن يستمروا أسرى للمعاناة والإحباط، طالما أن الفجوة كبيرة بين آمال هذا الشعب وطموحاته وبين قدرة النخبة السياسية على تحقيقها. ولكن وقائع الاستفتاء على دستور 2014 جاءت خير مثال لقدرة هذا الشعب على العبور إلى الأمل، إذ حول المصريون الحدث إلى عرس شعبى بهيج انطلقت فيه الزغاريد فى لجان التصويت معلنة التحدى لكل الإحباطات التى تحيط بهم. وتأتى الانتخابات الرئاسية كلحظة تاريخية جديدة تحتم على مصر أن تنتفض انتصاراً لأهداف ثورتها، وأن تنفض عن وجهها غبار اليأس والقنوط، فالتحديات المصيرية التى نواجهها الآن لا تمنح من يحيا على أرضها رفاهية الاختيار بين الأمل أو اليأس. ولقد كانت قوة هذا الوطن دائما وأبدا فى موارده البشرية، ومن ثم فإنه لا سبيل أمام القادم لحكم مصر غير استنهاض الهمم وإشعال العزم والعزيمة فى نفوس المصريين بإرساء قواعد العدل والمساواة فى ربوع الوطن، ووقتها سيذهل المصريون العالم مرة أخرى.