فتحت الانقسامات التى وقعت فى صفوف حركة تمرد الباب لموجة جديدة من الهجوم والانتقادات التى توجه كل حين للشباب المصري، حيث تجددت الاتهامات لهذا الجيل بعدم وضوح الرؤية لديه وعدم اكتسابه لملكات ممارسة السياسة وإدارة ما تحويه من صراعات، الأمر الذى يؤدي إلى تكرار الانقسامات بين صفوفه. ولعل هذه ليست هى المرة الأولى التى يواجه فيها الشباب مثل تلك الاتهامات، فمن يراجع التراث الفكري قبل ثورة 25 يناير سوف يلاحظ بوضوح كم الكتابات التى وصمت هذا الجيل بالسلبية وعدم الاهتمام بالشأن العام والعزوف عن المشاركة: سياسية كانت أو اجتماعية، بل وصل الأمر إلى حد اتهام جيل الشباب فى انتمائه ووطنيته. ويبدو أن هذه الموجات من الانتقادات لن تكون الأخيرة، ليس فقط فى ضوء ما هو متعارف عليه من صراع تقليدي بين الأجيال، وإنما أيضاً بسبب خبرة عقود طويلة جرى فيها حرمان تلك الأجيال الشابة من حقوقها الاجتماعية والسياسية، فنزلت إلى الساحة تحمل معها آثار التجريف الذى أصابها وأصاب المجتمع المصري ككل. وبصفة عامة فإن أوضاع الشباب وتعدد مشكلاته، بل والحالة التى صار عليها المجتمع المصرى من ركود سياسي وأزمات اقتصادية لعدة عقود قد تركت ظلالها الداكنة على رؤية واقع هذا الشباب وعلى استقراء مستقبله إلى الحد الذى يئس فيه البعض من إمكانية إسهام هذا الجيل فى أية عملية للتغير الاجتماعي. فحوالي ثلث عدد الأميين فى مصر يقعون فى الفئة العمرية من 15 إلى 35 سنة، كما أن أكثر من 80% من المتعطلين هم تحت سن التاسعة والعشرين، و82% منهم لم يسبق لهم الالتحاق بأي عمل، مما يؤكد أن البطالة فى مصر هى بطالة شباب فى الأساس. ولعل أبرز الآثار السلبية لتلك الأوضاع هى ما يتعلق بتراجع قدرة الشباب على تكوين أسرة والاستقلال بحياتهم، وهو ما أطلق عليه ظاهرة تأخر بدء الحياة المستقلة، أو طول مرحلة انتظار الدور «waithood» إذ يدخل الشباب فى فترة جمود طويلة يظلون فيها منتظرين فى صفوف البطالة، ويمنعهم العجز المالي عن الزواج أو امتلاك مسكن مستقل فيعيشون عالة على أسرهم. ومن جهة أخرى، فقد عانى هذا الجيل من الشباب من الحرمان من خوض أية تجارب سياسية أو التمرس فى دروبها منذ صدور لائحة 1979 الطلابية والتى حرمت النشاط السياسي داخل الجامعات. وقد عجزت المؤسسات الرسمية المسئولة عن هذا الشباب على مدى عقود عن وضع سياسة قومية واضحة المعالم تحشد قواه حول القضايا القومية أو تنمي طاقاته وقدراته فى مواجهة مشكلاته المتعددة. كذلك عجزت المبادرات المختلفة للحزب الحاكم قبل الثورة عن أن تملأ الفراغ الإيديولوجي والسياسي لدى الشباب، وظلت تمثل بناءات فوقية مجتثة الجذور وعديمة الجدوى، ولم يكن حال أحزاب المعارضة بأفضل منها على الإطلاق. ومن هنا كان لتفجر ثورة 25 يناير على يد الشباب من الثوار وقع المفاجأة على المجتمع المصري، فبرغم ضيق الفرص أمام الشباب اقتصادياً وسياسياً، إلا أن هذا الجيل قد استفاد من تطور تكنولوجيا المعلومات وما أدى إليه من ذوبان الحدود الثقافية وتقلص قبضة الدولة على فكر الإنسان المعاصر، الأمر الذى أسهم فى نضجه فأضحى أكثر قدرة على المعرفة من الأجيال التى سبقته، وأكثر انفتاحاً على الفرص المتاحة أمام نظرائه فى العالم والتى يفتقر هو إليها إلى حد كبير. وقد كان امتلاك الشباب لمهارات التواصل الاجتماعي أحد عوامل نجاح الحشد لثورة 25 يناير، فاستطاع أن يقود الشارع ويحفز الملايين إلى النزول للميادين لإسقاط النظام، وهو ما عجزت عنه النخب وأحزاب المعارضة لعشرات السنين. وهكذا بشرت هذه الثورة بقدوم جيل جديد إلى الحياة السياسية فى مصر ينهى حالة العزوف عن المشاركة، ويضع حداً لاستمرار انفراد جيل شاخ وركدت على يديه كل مظاهر الديناميكية السياسية وعجز عن التعاطي مع معطيات العصر فأفقد المجتمع حيويته. وتصاعد سقف التوقعات لدى هذا الشباب فى احتلال بؤرة الاهتمام القومي، أملاً فى أن تأتى ثورة يناير بنظام وطني يحقق المطالب التى نادت بها ويفتح الآفاق أمامه للمشاركة فى صنع المستقبل. ولكن عوامل عدة أجهضت هذه الآمال: حيث توارى الشباب خلف النخب والجماعات الأكثر تنظيماً، والتى كانت تنتظر الفرصة السانحة للوثوب على كرسي السلطة. كذلك انزلق الشباب فى مخاطر الاستقطاب السياسي، فظهر عدد ضخم من ائتلافات الشباب وتجمعاتهم بدلاً من تجميع طاقاتهم فى تيار فكري أو تنظيم سياسي يعبر عنهم، الأمر الذى ترتب عليه هدر تلك الطاقات فى معارك فرعية والتناحر فيما بينهم، مما ترك المجال واسعاً لتيار الإسلام السياسي الذى تصدر المشهد دون عناء. ونتيجة لقلة خبرة هذا الجيل وحداثة اهتمامه بالشأن العام افتقر الشباب للذاكرة السياسية التى تمكنه من الفرز بين القوى الفاعلة على المسرح السياسي بعد الثورة وإدراك أبعادها وأغراضها الحقيقية، ومدى ارتباطها بالقوى الخارجية المناوئة لإحداث التغيير الحقيقي على أرض مصر، ومن هنا انحاز من عرفوا «بعاصرى الليمون» إلى جانب مرشح الإخوان فى الانتخابات الرئاسية رفضاً لممثل النظام الذى تم إسقاطه، فكانت أصوات هذه الكتلة من شباب الثورة هى التى أتت بجماعة الإخوان إلى حكم مصر. وفى خضم الممارسات الفاشية لنظام الإخوان وإخفاقاته المتتالية انطلقت موجة أخرى من توجيه سهام النقد إلى الشباب، فكيلت له بعض الأقلام الاتهامات بقصر النظر والتخلي عن الثورة، وركزت على ما يعاني منه من فقدانه للقيادة وافتقاره للرؤية وتسببه فى ضياع الهدف الاستراتيجي للثورة وهو إقامة نظام بديل لما سقط. وحينما سادت سحابة اليأس من هذا الشباب فاجأت الجميع حركة زتمردس بنزولها إلى الشارع وتواصل شبابها مرة أخرى مع المطالب الشعبية المتزايدة المنادية برحيل نظام الإخوان، فكانت ثورة 30 يونيو التى أطاحت به بالفعل. وبغض النظر عما يثار حول حركة زتمردس فإن الحقيقة التى لا يمكن إنكارها هى أن هذا الجيل من شباب مصر بحشده لحركة الجماهير مرتين فى أقل من ثلاث سنوات قد تمكن من إسقاط نظام ديكتاتوري مستبد، كما أنهى أيضاً مشروع الإسلام السياسي فى حكم مصر الذى ظل ينمو طوال أكثر من ثمانين عاماً. ولم يكن هذا الدور بجديد على شباب مصر الذى طالما قاد قاطرة الحركة الوطنية منذ زعامة مصطفى كامل لها، وأشعل الحركة الطلابية لثورة 1919، وما تفجرت ثورة يوليو 1952 ذاتها إلا على يد شباب الضباط الأحرار. وقد ظل طلاب الجامعات وشباب العمال دوماً يحملون مطالب الحرية والديمقراطية وهموم رجل الشارع فى تظاهراتهم وفى الحركات الاحتجاجية التى شاركوا فيها، والتى مثلت مؤخراً الإرهاصات القوية لثورة 25 يناير. وبالرغم من هذا التاريخ الطويل لعطاء الشباب المصري إلا أنه لا يزال مستبعداً من خريطة الطريق إلى المستقبل الذى يحلم به لوطنه فى ظل استمرار انغلاق دائرة السلطة أمامه. بل إن الأكثر خطورة هو ما تقوم به القوى السياسية على اختلاف مشاربها من استغلال شباب الثورة واستخدامهم فى الصراع السياسي منذ يناير 2011، الأمر الذى نقل اليهم أمراض النخبة المصرية من تناحر وتصارع وإعلاء للمصالح الضيقة وانعدام المصداقية. وكنتيجة للتجربة المتعثرة لمصر ما بعد الثورة فإن قطاعاً ليس قليلاً من الشباب الذى شارك فى الثورتين قد أصابه الإحباط، وقرر أن يعود أدراجه إلى غياهب عدم الاهتمام بالشأن العام مفسحاً المجال لمن سرقوا أحلامهم كي يتصدروا مرة أخرى المشهد السياسي فى مصر، فى الوقت الذى تم فيه تركهم فريسة سهلة لمحاولات التخوين وزرع الشك فى نفوسهم تجاه كل الرموز الوطنية، ليعيشوا واقعا يلفه الضباب، ويفقدوا آمالهم فى مستقبل أفضل. والحقيقة التى يجب الاعتراف بها هى أن أجيالاً متعاقبة قد ارتكبت الخطيئة الكبرى بالتقصير فى التنشئة السياسية والاجتماعية للجيل الحالي من الشباب، كما سرقت منه الفرص التى كان هو أحق بها ليتمرس فى الحياة السياسية وليتبوأ مكانه ودوره فى صنع حاضر ومستقبل الوطن. ولم تعد مصر الآن تملك ترف تحمل فاتورة إخفاقات جديدة فى استثمار طاقاتها الشبابية، فهذا الشباب هو مالك المستقبل وصاحب الحق فى قيادة مسيرة التغيير الاجتماعى. ولن تغني اللقاءات والحوارات التى يعقدها بعض المسئولين مع طائفة أو أخرى من الشباب، أو اقتراح إنشاء مفوضية أو هياكل فوقية أخرى عن وضع السياسات والبرامج التى تواجه بحسم مشكلاتهم المزمنة، وتفتح المجالات أمام الاستفادة من طاقاتهم المعطلة. وعلى من يراهن على إزاحة الشباب عن المشاركة فى هذه المرحلة الحرجة أن يعي خبرات التاريخ، فقد يدخل الشباب المصرى فى مرحلة كمون ويعيش سنوات من الصبر على حاضر يغيب فيه عن المشهد، ولكنه رغم ذلك يختزن بداخله مشاعر الانتماء والغيرة على هذا الوطن التى ما تلبث أن تتفجر لتصل إلى أقصى مدى. وبرغم كل ما يعانيه من أزمات اقتصادية أو مظاهر خلل اجتماعي أو عدم استقرار سياسي، يظل هذا الشباب هو حامل مشعل الأمل، ويظل نقاؤه ووطنيته الرصيد الدائم لمصر الذى ينبغي استثماره بدلاً من إضاعته وهدر طاقاته. لمزيد من مقالات د.نجوى الفوال