انشغلت بمفهوم الحضارة منذ سبعينيات القرن الماضى عندما عنونت به ثلاثة مؤتمرات فلسفية دولية بالقاهرة هى على النحو الآتي: «الفلسفة والحضارة» (1978) و«الاسلام والحضارة» (1979) و«مستقبل الحضارة الاسلامية» (1981) الذى ألغاه الرئيس السادات بسبب قراره بفصلى من الجامعة. والذى دفعنى إلى ذلك الانشغال بشيوع مدرسة فلسفية فى النصف الثانى من عشرينيات القرن الماضى فكرتها المحورية أن المفاهيم التى ليس لها مقابل حسى فى العالم الخارجى تُحذف من مجال الفلسفة لأنها، فى هذه الحالة، تكون بلا معنى. وبناء عليه حُذف مفهوما الحضارة والثقافة بدعوى أن ليس فى الامكان الاشارة إليهما حسياً فى العالم الخارجي. ومن ثم كانت الغاية من تنظيم تلك المؤتمرات مشروعية البحث الفلسفى فى هذين المفهومين، خاصة أنهما أصبحا من قضايا العصر. ولا أدل على ذلك من أن صموئيل هنتنجتون أستاذ علم الاجتماع بجامعة هارفارد قد أصدر كتاباً عنوانه «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي» ( 1997)، أى قبل بداية القرن الحادى والعشرين بثلاث سنوات. وقد أثار هذا الكتاب جدلاً حاداً فى جميع المؤسسات الثقافية الدولية بالإضافة إلى وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. وقد انتهى هنتنجتون إلى نتيجة مفادها أن الصراع القادم لن يكون إلا صراعاً بين الغرب والعالم الإسلامى أو بالأدق بين الغرب والأصولية الاسلامية التى ترفض الحداثة وتوابعها من علمانية وتنوير وثورة علمية وتكنولوجية. وإذا كانت الأصولية الاسلامية هى المتحكمة فى العالم الإسلامى فهل معنى ذلك أن ثمة حضارتين: حضارة غربية وحضارة اسلامية، وأنهما متناقضتان إلى الحد الذى يرى أحد الطرفين ضرورة إقصاء الآخر؟ والسؤال اذن: هل فى الامكان إزالة ذلك التناقض لكى نتفادى الإقصاء؟ حاولت الجواب عن هذا السؤال فى المؤتمر الذى عقدته «الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير» بالقاهرة فى عام 2000 تحت عنوان «حضارة واحدة وثقافات متعددة». وقد اخترت هذا العنوان عنواناً لبحثي، وموجزه أن ثمة حضارة واحدة مسارها من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلاني. وفى هذا المسار العام تنشأ ثقافات تخص مجتمعات تعيش كلها تحت مظلة حضارة واحدة. ونصف الثقافة التى تقترب من الفكر العقلانى بأنها ثقافة متحضرة، ونصف الثقافة التى تقترب من الفكر الأسطورى بأنها ثقافة متخلفة. أُمثل لأدلل على صحة ما أذهب إليه بحوارين أحدهما كان بين الثقافة الفرعونية والثقافة اليونانية، والآخر كان بين الثقافة الاسلامية والثقافة الأوروبية. والسؤال بعد ذلك: ماذا كان مصير الحوار الأول؟ منقول عن الوثائق التاريخية أن فلاسفة اليونان فى قديم الزمان قد جاءوا إلى مصر ليتتلمذوا على يد كهنة مصر فى الطب والهندسة وهما علمان عمليان وليسا علمين نظريين. وهما عمليان بسبب استنادهما إلى أسطورة عودة الروح فنشأ الطب من أجل تحنيط جسم فرعون لكى يظل كما هو عندما تعود إليه روحه. أما الهندسة فقد ابتدعت من أجل بناء الأهرامات والتى هى عبارة عن مقابر لأن اللفظ الذى يطلق على كل من الهرم والمقبرة هو لفظ واحد باللغة الهيروغليفية. وكانت الغاية من بناء الأهرامات أن تكون مكاناً مناسباً لدفن جسم فرعون حتى عندما تعود إليه روحه فإن الحياة تستقيم مرة أخرى. وعندما حضر الفيلسوف اليونانى فيثاغورس (مولود فى عام 580ق.م.) إلى مصر وجد أن لفظ الهندسة باللغة الهيروغليفية يعنى «مسح الأرض» أو «قياس الأرض». ومعنى ذلك أن الهندسة محصورة فيما هو عملى دون أن ترقى إلى ما هو نظري. ومن هنا ابتدع فيثاغورس مفهوم «البرهان» لكى يرقى بالهندسة إلى المستوى النظرى فتقترب من الفكر العقلانى وتبتعد عن الفكر الأسطورى المتمثل فى أسطورة عودة الروح. وترتب على مفهوم البرهان تأسيس علم المنطق عند أرسطو، وبناء على تأسيس علم المنطق استطاع أقليدس تأسيس علم الهندسة نظرياً مستنداً إلى مفهوم البرهان على نحو ما هو وارد عند أرسطو. وترتب على ذلك أن اقتربت الثقافة اليونانية من الفكر العقلانى فاستحقت أن تتصف بأنها ثقافة متحضرة، وبقيت الثقافة المصرية ملتزمة بأسطورة عودة الروح فاستحقت أن تتصف بأنها ثقافة متخلفة. والسؤال بعد ذلك: ماذا كان مصير الحوار الثاني؟ دخلت الثقافة الاسلامية فى حوار مع الثقافة الأوروبية عندما تأثرت أوروبا بعلم القانون فى الطب لابن سينا وكتاب «البص ريات» للحسن بن الهيثم وكتاب «الكيمياء» لجابر بن حيان، وبناء عليه استحقت الثقافتان بأن يقال عنهما إنهما ثقافتان متحضرتان. إلا أن الحوار بين الثقافتين قد توقف بسبب دخولهما فى مسار مضاد للحضارة. فقد دخلت الثقافة الأوروبية فى مسار العصور الوسطى المظلمة، وكذلك دخلت الثقافة الاسلامية فى ذلك المسار عندما ألف الغزالى كتاب «تهافت الفلاسفة» ( 488م) الذى كفر فيه الفلاسفة المسلمين مثل الفارابى وابن سينا لتأثرهم بالفلسفة اليونانية الوثنية فنشأ مناخ التكفير فى المشرق العربى ثم بدأ يشيع فى المغرب العربي، والغاية منه تكبيل العقل، ومن ثم يمكن أن يقال عن الثقافة الاسلامية فى ذلك الزمان بأنها ثقافة متخلفة وقد ظلت كذلك على هذا النحو حتى هذا القرن. أما الثقافة الأوروبية فقد تجاوزت تخلفها عندما تأثرت بالفكر العقلانى عند ابن رشد الذى كانت قد أُحرقت مؤلفاته واتُهم بالكفر والزندقة فى العالم الاسلامى، إذ نشأ فيها تيار تنويرى سُمى «بالرشدية اللاتينية» والذى خصَب المسار الحضارى بوجه عام والمسار الأوروبى بوجه خاص فأصبحت الثقافة الأوروبية جديرة بأن يقال عنها إنها ثقافة متحضرة. أما بعد فهذه الفذلكة مجرد وجهة نظر فى المسألة الثقافية وعلاقتها بالمسألة الحضارية، وأنت بعد ذلك وما تشاء من قبول هذه الوجهة مع محاولة إثرائها، أو رفضها مع البحث عن بديل. لمزيد من مقالات مراد وهبة