يطلق التونسيون بمرح على «الباجى قائد السبسي» الذى حل أولا فى سباق انتخابات الرئاسة، وبفارق نحو عشر نقاط عن منافسه فى الجولة الثانية الرئيس المؤقت «منصف المرزوقي» تسمية « بجبوج» ( Bajboj ). ولما سألت عن السر وراء هذه اللفظة ذات الجرس الموسيقى العالى، والتى تشير الى رجل عمره 88 عاما قال «محمود رمضان» القيادى فى حزبه « نداء تونس» :»بجبوج تعكس أنه قريب للناس ومحبوب .وهذا اللفظ لم يظهر إلا منذ نحو العامين بعدما أسس حزبه فى مواجهة حزب حركة النهضة الاسلامية ليترجم علاقة خاصة نسجها التونسيون والرجل . وهم حتى فى القرى النائية يدللونه باللفظة نفسها «.وعندما سألت وهل كان التونسيون يطلقون الفاظ تدليل على بورقيبة مؤسس الجمهورية والذى اشتهر «قائد السبسى « بأنه يتشبه به أجاب:» لا .. بورقيبة كان بعيدا، رغم انه محبوب «. لعل عبقرية صناعة زعيم بعدما تخطى الثمانين، واحياء سيرة سياسى انقطع عن الاضواء لنحو عشرين عاما تتلخص فى هذا الجمع فى الخيال الشعبى بين ثلاثة عناصر : صورة الأب فى استعادة ماكان من علاقة مؤسس الجمهورية التونسية بشعبه .. و جعل الرجل قريبا وعاديا بكلمة التدليل تلك.. والقدرة على استعادة هيبة الدولة . وهذه العبقرية تجعل من « الباجى « ظاهرة لافتة فى السياسة العربية، وليس فى تونس وحدها. وتفيد نشأة الرجل بأنه يأتى الى تونس القرن الحادى والعشرين حاملا ميراثا عتيقا أبعد حتى من صلته ببورقيبة الذى هيمن على المجال الوطنى السياسى منذ الأربعينيات، وحتى أجبره الرئيس المخلوع «بن على « على الخروج من السلطة عام 1987 . فهو نشأ فى عائلة قريبة من البايات الحسينيين حكام تونس ما قبل الاستقلال (حتى اعلان الجمهورية 1957) . ولقب « قايد السبسى نفسه محمول على شحنة تاريخية فى هذا السياق .فهو يعنى « الشخص المسئول» عن رعاية مزاج الباى، واعداد نرجيلة الدخان فى قصره». ولد فى ضاحية «سيدى بو سعيد» شمالى العاصمة فى زمن الاحتلال الفرنسى .وتحديدا عام 1926 . وبمكان الميلاد فى هذا الحى القديم الراقى، وببشرته البيضاء وعيونه زرقاء اللون ينتمى الى من يطلق عليهم « البلدية « ( بكسر الباء)..أى أهل المدن الساحلية والعاصمة التى تمتد جذورهم البعيدة الى الأتراك والشراكسة، وأخلاط أوروبية وفدت الى إيالة تونس مع الدولة العثمانية ( عام 1574). وثمة هنا فى الانقسام بين أهل الساحل رجال التجارة والإدارة و أهل الداخل ( الوسط والجنوب والشمال الغربى غير المطل على البحر ) من فلاحين ورعاة مايفسر الثقل الانتخابى للباجى وحزبه «نداء تونس» فى المناطق الأولى التى تشكل نحو 55 فى المائة من سكان البلاد. اخلاص «قائد السبسي» للعلمانية، ومدنية الدولة تعود خلفياته الى انه لم يكن «زيتونيا» .فلم يتلق تعليما دينيا فى هذه الحاضرة الاسلامية الأهم فى المغرب العربي. بل بدأ تعليمه صبيا فى «المدرسة الصادقية» الأكثر إخلاصا لتقاليد الثقافة العربية بنكهة تونسية محلية وحداثية متطورة . وهى مدرسة عريقة تعلم فيها ايضا « بورقيبة» و « الشاذلى القليبى « الأمين العام الأسبق للجامعة العربية . إلا ان علمانية «الباجي» لا تحول بينه وبين الاستشهاد بكثافة فى خطبه الجماهيرية بآيات القرآن والأحاديث النبوية . وهذا الى حد أن أكثر من مراقب فى تونس حدثنى عن أن الرجل يتفوق على «راشد الغنوشى « رئيس حركة «النهضة « فى الاستشهاد بالآيات والأحاديث. كما يسترجع أبياتا وفيرة من الشعر العربى و الأمثال العامية .وكل هذ تحفظه ذاكرة حديدية وتستدعيه بديهة حاضرة لاتفتقد الى الفكاهة والعبارات اللاذعة. ولقد تابع «قائد السبسى» تعليمه الجامعى فى باريس عاصمة دولة الاحتلال فدرس المحاماة . المهنة التى امتهنها بكفاءة. وكان بمكانه دائما العودة الى مكتبه فى العاصمة كلما كانت عواصف السياسة وتقلباتها تقذف به بعيدا عن السلطة . ومع ذلك يمكن القول بأن الرجل العائد الى السلطة فى تونس بقوة دخل السياسة دخولا مريحا . فهو بحكم صغر سنه ( 12 عاما ) لم يكن فاعلا فى الحدث الوطنى الشهير فى 6 إبريل 1938 حين تظاهر التونسيون طلبا للبرلمان والاستقلال . فقمعهم جنود الاحتلال الفرنسى بوحشية فى قلب العاصمة ،مما خلف قتلى وجرحى ومعتقلين. وهو انخرط فى صفوف الحزب الدستورى الحر بزعامة بورقيبة قبيل سنوات معدودة من الاستقلال، وفيما كان الحزب وزعيمه قد حسما لصالح خيار «السلمية والمرحلية « فى التفاوض مع فرنسا. ولذا قال عنه «بورقيبة « فى إحدى خطبه : «الرجل لم يدخل السجن أبدا أثناء الكفاح الوطنى .. كان صغير السن وحييا يتجنب الظهور « . وعلى هذا النحو لم يكن «قايد السبسي» حول « بورقيبة « منفيا أو سجينا فى سنواته السابقة الصعبة . وبكل ثقة فإنه لا يحسب على قادة حركة التحرر الوطنى فى عقدى الخمسينيات والستينيات بأى حال . فالرجل مرة أخرى «ابن جهاز الدولة « . وهكذا فبعد انخراطه الآمن فى عضوية حزب «بورقيبة» قبيل الاستقلال بسنوات معدودة التحق بمكتب «الطيب المهيري» أول وزير داخلية لتونس الجمهورية. وفى عام 1963 إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة بنحو عام واحد تولى رئاسة ادارة الأمن الوطنى .ثم صعد الى منصب وزير الداخلية نفسه عام 1965 إثر وفاة « المهيري». ولاشك ان هذه السنوات أعطت السياسى العائد الى السلطة خبرة فى إدارة الملفات الأمنية . وهو أمر تنشده قطاعات من التونسيين ناقمة على الانفلات والفوضى بعد الثورة . فى حكاية «السبسى « مع السلطة وبورقيبة تذبذبات بين الاقتراب والابتعاد. وهو مسار يعكس علاقة معقدة مع « المجاهد الأكبر « ثم مع خلفه «بن على» . فبعد ان صعد وزيرا للدفاع فى عامى 69 1970 وسفيرا بباريس فى العامين التاليين ( أهم سفراء تونس بالخارج ). انزلق فى عقد السبعينيات الى جفاء وخصومة مع «بورقيبة» . فجمد نشاطه بالحزب الحاكم .ثم طرده زعيمه من الحزب عام 1974 لينضم بعدها الى حركة معارضة بقيادة أحمد المستيرى « الاشتراكيين الديمقراطيين « . لكنها لم تكن من تلك الحركات التى لاحقها « بورقيبة « بقسوة فى هذا العقد مثل «مجموعة آفاق « (برسبكتيف ) اليسارية .وهكذا مرة أخرى لم يعرف السجون. وهو حتى مختلف عن «المستيري» .ووفق ماقاله «عزونة» الذى عرفه عن قرب خلال سنوات دارسته فى باريس مطلع السبعينيات:» الباجى لا يقطع مع النظام .وهو رجل إصلاح من داخل الحزب الحاكم على عكس المستيري.. لذا سرعان ما افترقا وعاد قائد السبسى الى الحزب». وبحلول عقد الثمانينيات عاد «قايد السبسي» للأضواء.وشغل منصب وزير الخارجية لنحو خمس سنوات متواصلة بين 1981 و 1986. يتمتع «قائد السبسي» بمرونة وبرجماتية سياسية داهية و صعد الى رئاسة أول برلمان فى عهد بن على خلال عامى 1990 1991 . ولكن بعدها ظل الرجل لنحو عشرين عاما بعيدا عن اضواء السياسة .يدير مكتب محاماته .و يرعى أعمال أسرته التجارية . ويفسر المقربون منه هذا الابتعاد بأن «قايد السبسي» أدرك زيف وعود بن على فى الإصلاح فآثر الابتعاد والسلامة .وبقى فى بيته لايعارض ولايؤيد . كما أن الرئيس المخلوع اتضح له انه لايستطيع الاستمرار فى التعويل عليه الى جانبه، وذلك وفق ما يقول « بن رمضان».لكن لدى الدكتور «رياض الصيداوي» عالم الاجتماع السياسى مدير المركز العربى للدراسات السياسية والاجتماعية بجنيف تفسيره عن غياب « قايد السبسى « وصمته طوال هذه السنوات، قال عندما التقيته فى تونس :» الرئيس المخلوع بن على كان يحجب كل الوجوه السياسية التى قد تنافسه يمينا، او يسارا ،او حتى داخل الحزب الدستورى الحاكم . هذا ولأنه بالأصل يفتقد الى كاريزما اعلامية .فلا يستطيع إلا ان يخطب من ورق يقرأه. لقد منع الجميع من الظهور فى وسائل الإعلام .وكان من الطبيعى بعد سقوطه ان تظهر كاريزمات «. ومثلما خرج عاد بعد نحو عشرين عاما بدون جلبة أو كثير لغط. فكان رجل المرحلة الانتقالية عندما تولى رئاسة الحكومة بعدما أطاح اعتصام الشباب امام مقر الحكومة بالقصبة فى قلب العاصمة فى فبراير 2011 بحكومة «محمد الغنوشي» آخر رئيس وزراء فى عهد بن على .وواقع الحال ان لدى عودة الرجل الى السلطة كان نحو 40 فى المائة من التونسيين ( الشباب) قد ولدوا بعد خروجه من المشهد السياسى . ولم يكونوا قد سمعوا عنه . وكما قال لنا الطالب «مهدى بوقرة» :»لم نكن نعرف عنه سوى انه كان وزيرا فى عهد بورقيبة «. وربما لم تكن هناك اعتراضات جدية فى وجه توليه رئاسة الحكومة، لأن صلاحيات رئيس الوزراء وقتها كانت محددة بإدارة جهاز الدولة والحفاظ عليه وهو مانجح فيه باقتدار ولاتتصل بصياغة مستقبل المرحلة الانتقالية .فقدجرى ترك هذه المهمة الى هيئات تعكس طموح المجتمع المدنى . وعندما التقيت « الباجي» فى مقر الحكومة بالقصبة فى 26 أكتوبر 2011 أى بعد ثلاثة أيام فقط من انتخابات المجلس التأسيسى الذى فاز فيه حزب النهضة الاسلامى بالأكثرية بدا حذرا حين أبلغنى بأنهم « سيحكمون .لكن نياتهم عند الله «. وبالفعل سلمهم السلطة فى 24 ديسمبر من العام نفسه. لكن بعد أقل من عام بدأ مسيرة معارضة لحكومة النهضة وحكم الترويكا « ائتلاف بين النهضة وحزب المؤتمر بقيادة الرئيس المؤقت منصف المرزوقى و حزب التكتل بقيادة مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي». وسرعان ما أسس حزب « نداء تونس « فى العام التالى من عناصر متنافرة من حقوقيين ويساريين قدامى وتجمعيين ( نسبة إلى حزب بن على الحاكم المنحل) وليبراليين ورجال أعمال يتحلقون حول « كارزميته « واستدعائه لتراث الدولة الوطنية البورقيبية ومنجزاتها فى مجانية التعليم، وتحرير المرأة والحداثة. ونجح «قايدالسبسى « فى ان يحول حزبه الوليد الى القطب الثانى فى الحياة السياسية فى مواجهة النهضة والاسلاميين وحلفائهم . وهكذا وضع تونس على طريق نظام الحزبين الكبيرين( النداء والنهضة)، وهو أمر يروق للأوروبيين، كما علمت من مصادر عديدة فى تونس. صباح الأحد الماضى اتضح عند الاقتراع فى جولة الانتخابات الرئاسية الأولى أن الشباب عازف عن المشاركة مقارنة بالأكبر سنا . لكن عندما خرجت «ريم مزوغي» ( 25 سنة ) من مركز الاقتراع فى الحى الشعبى بالعاصمة «باب الخضراء» أبلغتنى أنها اختارت « بجبوج» .عللت ذلك بأنه على الشعب ان يعطيه فرصة فى الحكم « فهو لديه هيبة و خبرة ومن عهد بورقيبة ..ولعل وعسي». لكن هناك من يرى بالمقابل بأن المرشح الأرجح فرصا لرئاسة تونس مع جولة الإعادة قبل نهاية العام الحالى ومعه حزبه لا يملكان حلولا ، خاصة لأوضاع اقتصادية ومعيشة متفاقمة . وكما قال الشاب « شندول»:» الناس تحت وقع صدمة النهضة ..فشلت وأخافتهم .. والمرزوقى أساء لهيبة منصب رئيس الدولة..وجاء الباجى وحزبه رد فعل .. وسرعان ما ستأتى لحظة الحقيقة.. لحظة الاختبار «. إلا ان مايجمع بين هذه الشابة وهذا الشاب ثقة فى قدرة التونسيين على تغيير حكامهم ان اخفقوا، وبأن البلاد من الصعب عودتها الى الديكتاتورية .وببساطة قالت «ريم» : " على الأقل أصبح عندنا حرية تعبير، ولن نفرط فيها "