صاغ الفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت (1569-1650) مفهومه الشهير "انا أفكر ، إذن انا موجود" ليدلل على أهمية العقل. ألا ان هذا العقل بقى فى نطاق تجريدى وناقش الفلسفة فى خطوطها الفكرية والعامة ولم يلق اهتماما الى الحياة الفعلية ودور الفرد فى هذه المنظومة المنطقية الشاملة، وهو الامر الذى واصله هيغل. الا أن كيركگورد لم يكتفِ بالمنطق والعقل لادراك الوجود الانساني، بل سعى الى البحث عن موقع الفرد فى الوجود" أريد ..لا أريد"، او بمعنى أدق ، عبر عبارته الشهيرة التى حملت عنوان كتابه الأهم " أما/ أو" ، ثم واصله فى معظم نصوصه خصوصا " مراحل على طريق الحياة" و"الخوف والرعشة" (1843). وقد ركز كيركگورد فى هذه الاعمال على الأنا، التى تكمن فيها الأرادة الذاتية وينطلق منها اختيار الحرية اللذين يتجليان فى الواقع اليومى عبر مواجهات الأنسان المتواصلة مع وجوده : ولادته ، موته، قلقه، خوفه ، مرضه، يأسه ، حبه، وحريته الخ. لقد أكد مرارا على اهمية الفرد ونظر بقلق الى تخليه عن فرديته الى المجتمع، تحت ذريعة الإنتماء الى الحشد ، المجموع أو المجتمع. ورأى فى وقت مبكر مخاطر هذا التخلى عن الحرية الفردية والأختيار الفردى كأنه تنبأ بصعود الأنظمة الشمولية فى المانيا ، ايطاليا وروسيا بعد اكثر من مئة عام على رحيله. بيد ان هذا النقد الذى وجهه كيركگورد ضد الحشد والجموع لا يعنى مهاجمته لكل تجمع او مشترك ، بل العكس من ذلك، فقد نظر كيركگورد باهتمام الى اهمية هذا المشترك وبماذا يشترك الانسان فيه مع الآخرين ثم طبيعة وفحوى القرار الذى يجعله للانخراط فى هذا المشترك. فمعارضته الى المشترك كانت تقوم على رفضه للفكرة التى تقر وتؤكد الضرورة، ضرورة خضوع الفرد الى الجموع والمشترك والى سلطته وطغيانه. وقد حذر من سوء الفهم هذا حين كتب فى كتابه " خاتمة لحاشية غير علمية " عام 1846: " اذا لم تمر الذات عبرالموضوعية وتعد نفسها من خلال ذلك ، فان كل صراخ عن الفردانية هو مجرد سوء فهم." وبهذا فهو يرى انه لا يمكن للفرد ان يكون ذاته مالم يعِ هذه الذات ويكون له موقف إزاءها وإزاء الوجود والآخر فى الواقع .لكن فهم الفرد واختياراته لايتحقق عبر مجموعة من العقائد او منظومة فكرية بل عبر الاختيار الفردى الانسانى ، او كما اشار فى اوراقه وفى وقت مبكر من حياته محذرا الانسان أن يرهن نفسه " "للتأمل فى العقيدة" ، قبل ان يكون لديه وضوح عن الموقف الأنساني." وهكذا ترتبط قضية الحرية عند سورن كيركگوردد برؤيته الى الأنسان- الفرد وموقفه من ذاته قبل كل شيء .وطبقا له فان الاختيار هو نوع من الحركة ، وهو مفهوم اخذه عن هيغل ايضا، والتى يعتبرها" المعبر من الامكانية الى الواقع ". الحركة كما يعرفها كيركگورد " اختيار والاختيار يشترط الوعي. هذا الوعى يشتمل حرية اختيار الفرصة او الامكانية، إذ ان امام الفرد اكثر من امكانية لكى يحقق حريته ووجوده. وارفع هذه الاختيارات هى اختيار الخير والوصول الى المرحلة الدينية، الايمان." وعليه فان الفرد يبحث من خلال اختياراته عن حقيقته و لا يعثر على هذه الحقيقة فى التأويلات الموضوعية او الاقتصادية كما يقول بها هيغل والماركسيون بعده، بل انها كامنة فيه. فكيرككورد مثلما افلاطون يعتبر ان الحقيقة موجودة فى اعماق الانسان و"تقع عليه مهمة ان يجعل هذه الحقيقة واقعا فى حياته". وهى حقيقة مستقلة. وكما قال " الحقيقة ذاتية". واعطى مثالا دامغا على ذلك، أن البشر يموتون ويولدون افرادا ولمرة واحدة. ورغم ان الماركسية شددت على اهمية حرية الانسان ، الا انها اشارت الى ان شروط تحرره تكمن فى الواقع الموضوعى ، وهى تصورات تجعل حرية الانسان محكومة الى ماهو عرضى ومصادفة، اى خارج الذات الانسانية ووعيه بأعتبارها الحاسم فى تقرير حريته، بينما لا ينسب كيركگورد تحرر الانسان الى الظروف الموضوعية، بل يعتبرها أمرا ذاتيا يتحقق عبر اختيار الفرد وارداته فى فعله الوجودى إزاء نفسه والاخرين. وجود الانسان ذاته يمثل بنظر كيرككورد معضلة ، ولذا فأن ادراكه ووعيه لهذه المعضلة عبر أدراكه لذاته و تناقضات وجوده هو الذى سيقوده الى تحقيق حريته. وهذه الحرية ستتحقق عبر الانسان ذاته عندما يتحرر من خطيئته الابدية، منذ ان طرد من الجنة، عندما أكل آدم وحواء من شجرة المعرفة. الفرد، الاختيار و الحرية: أرسل كيركگورد عام 1838 مقالة نقدية تحت عنوان " من اوراق كاتب ما يزال على قيد الحياة" الى الصحيفة التى كان يشرف عليها يوهان لودفيغ هايبرغ، وهى مقالة طويلة الى حد ما، مما اضطر هايبرغ الى نشرها على حدة فى كتيب. هاجم كيركگورد فى تلك المقالة رواية " مجرد عازف " للكاتب الدانماركى الشهير هانس كريستيان اندرسن ووجهة نظره عن الوجود. وفى تحليله للرواية يهاجمُ كيركگورد اندرسن لأنه يترك البطل الذى يمتلك صفات عبقرية ينهار بسبب العالم المحيط به والذى لا يريد أن يمنحه الدعم الكافى لتعزيز موهبته الحقيقية. كما اضاف ان نثر اندرسن خال من الافكار وبعرَضيتها، وانه غير قادر على الفصل بين شخصه وبين ابطال الرواية الرئيسين. وكما لا حظنا سابقا فان نقد كيركگورد لهيغل كان موجها الى ذات الفكرة القائلة بان الظروف الخارجية التى تحيط بالإنسان هى التى تحدد مصيره. فطبقا لكيركگورد الانسان يخلق حياته وهويته ووجوده عبر اختياره وعمله. المسألة الحاسمة لديه: الى اى حد يختار الفرد لنفسه وجودا حقيقيا ؟ فاذا لم يعش الانسان وجوديا فان علاقته بالكون ستكون علاقة لا أبالية وغير مسؤولة. ووجود الإنسان لا يتحقق من حجم الافكار الكبيرة المجردة، بل من خلال التزامه تجاه ذاته، وان يعيش هذا الالتزام بمعاناة قصوى لان المعاناة تمثل لدى كيركگورد الأساس فى الوجود الانساني، وكل حركة شخصية تحدث طبقا للمعاناة وليس نتيجة للأفكار. كما ان المعرفة بالنسبة لكيركگورد " هناك نوع واحد من المعرفة الذى يجلب الانسان الى نفسه تماما، هو معرفة الذات" كما يكتب فى واحدة من مؤلفاته. وهذه المعرفة تتحقق من خلال وعى الذات، التى يقدم لها تعريفا معقدا فى كتابه "مفهوم الفزع" : " ما هى الذات؟ الذات هى علاقة، تتخذ موقفا من نفسها، او فى العلاقة تتخذ هذه العلاقة موقفا من نفسها." يقودنا تأويل مفهوم "الفزع" لدى كيركگورد وتعريفه مفهوم الوجود التوصل الى إدراك ان الانسان هو الذات، التى تطرح امامها مهمة او واجب ان تكون نفسها. ويصوغ كيركگورد ذلك بمساعدة مفهوم الحرية، اذ ان هناك علاقة بين الفزع والحرية الى درجة يمكن معها اعتبار الفزع هو عمل او فعل عن الحرية. فالفزع طبقا له " هو امكانية وفرصة الحرية". فالحرية تكشف اولا عن نفسها على شكل نوع من الفزع. كما ان عدم اتخاذه قرار وعدم الالتزام بين الخير والشر هو إثم . وتفسير ذلك حسب كيركگورد أن الانسان متكون من معادلة - علاقة من الجسد والروح، لكن هذه المعادلة محمولة بعنصر ثالث هى ما يمكن ترجمته الى "الوعي". والانسان، هذه المعادلة من الجسد والروح، هو فى حالة عدم تجانس وتوازن بين القطبين ، بين الزمنى والخالد ، بين النهائى واللانهائي، لذلك فهو حساس و يعيش حالة رعب وفزع دائمة بسبب هذا الاختلال، ولهذا فعليه ان يعيد التوازن، ولكن هذا التوازن لا يتحقق فى هذه المعادلة - العلاقة الا عبر العنصر ثالث، الوعى وعبر ما يختاره هذا الوعي. فالانسان يقف دائما امام امكانات وفرص متعددة كى يختار لإعادة هذا التوازن الى نفسه، فحتى وهو لا يختار فانه يختار. و تناول كيركگورد قضية الاختيار بوضوح فى كتبه "أما- أو" ، " الخوف والرعشة" و " المرض حتى الموت". يمكن القول ان كيركگورد يتحدث عن الفزع باعتباره إمكانية على مستويين ، فهو من جهة " إمكانية الحرية" ومن الجهة الثانية " باعتباره " امكانية لا يمكنه تجنبها ، إذ ان عليه ان يختار، لانه مخلوق حساس يتكون من عنصرين غير متجانسين يعيشان ويتجاذبان فى وحدتهما فى توتر دائم ولهذا على الانسان ان يضبط هذا التوتر الذى يتجلى على صورة فزع وخوف وقد سمى تلك الاختيارات بمراحل " الجمالي" ، الاخلاقى " والديني". ووجهة نظر كيركگورد هى ان على الانسان ان يتخذ موقفا ويختار اما الجمالى او الاخلاقي، ولكنه يجلب انتباهه بنفس الوقت الى ظهور امكانية اخرى تتجلى فى المرحلة الدينية . وما هو رئيسى فى المرحلة الدينية ان علاقة الفرد بالله تحتل مكانة جوهرية، بل انها المرحلة التى يتوج بها الانسان اختياراته. بالنسبة لكيركگورد أن الانسان لا يتكون فقط من الاحاسيس ولكن يحتوى على شيء يتجاوز ما هو حسى مباشر، وهكذا فانه يسعى الى ان يمر فى مرحلة تطور من الجمالى نحو الاخلاقى ثم يتجه الى الدينى .الا ان كيركگورد لم يطرح مسألة المراحل، كما يطرحها غالبا الكثير من الكتاب، كما لوانها مراحل تطورية، تعاقبية، كما طرحها هيغل، بحيث يدخل الانسان من مرحلة ليدخل الى اخرى، انها مراحل متجاورة واحيانا متراكبة مع بعضها بحيث يمكن ان يمر الانسان بمرحلة او مرحلتين فى آن واحد. كما ان الانتقال من مرحلة الى اخرى يتحقق عبر ما يسميه كيركگورد ب" القفزة " او الطفرة"، التى تحدث عنها فى العديد من مؤلفاته. وهى المفهوم الذى ينتقل فيه الانسان الى وعى ذاته لكى يختار بين " اما - او" . وهذا الاختيار هو الذى يقود الفرد الى الحرية . إذن، يمكن القول، أن البحث عن الذات فى الوجودية ليس مذهبا ذاتيا نرجسيا، بل هو جوهر الوجود الانسانى باكمله، ومن هنا جاء تهكمه بالانسان او الفرد "ضيق الافق" .