هذا العنوان استعارة من المصطلح الشائع: (الباعة الجائلون)، هؤلاء الباعة الذين ضيقوا علينا الميادين والطرقات والأرصفة، يلاحقون المارة ببضاعتهم المزيفة، ويحاصرونهم بالعبارات الخادعة، ومواصفاتهم الكاذبة، ليقعوا فريسة لهذه السلع الفاسدة. إن هذا الذى يحدث فى الواقع العام التجاري، يوازيه ما يحدث فى الواقع العام الثقافي، حيث ظهرت مجموعة تدعى الإبداع الأدبى شعرا ونثرا، وإن كانت الغلبة بينهم لمن يكتبون (السرد الروائي)، ومع هذا الادعاء يبدأون فى مزاحمة الكتاب الأصلاء بإنتاجهم الهزيل، ويفعلون ما يفعله (الباعة الجائلون). والملاحظة الغريبة أن معظم هؤلاء (الأدباء الجائلين) ممن تجاوزوا العمر المألوف لظهور الموهبة الأدبية، فهم فوق الخمسين أو الستين، صحيح أن تاريخنا الثقافى يضم مجموعة من المبدعين فى الشع ر والنثر ممن تجاوزوا سن البدايات الإبداعية، من مثل الشاعر الجاهلى (النابغة) الذى اكتسب لقبه من ظهور نبوغه الشعرى بعد الأربعين من العمر، لكن هذا على القلة، بل الندرة، ذلك أن المألوف أن تظهر ملامح الموهبة الإبداعية فى العشرينيات لتواصل نموها كى تبلغ مرحلة النضج والاكتمال، والقراء يتابعون هذه الموهبة مرحلة وراء مرحلة خلال ممارستها الإبداعية إلى أن يحقق كل صاحب موهبة مكانته الأدبية بين مجايليه ونظرائه, فأول قصة كتبها نجيب محفوظ أسماها: (الأيام) وهو فى الخامسة والعشرين، ونزار قبانى أصدر ديوانه الأول : (قالت لى السمراء) وهو فى الثانية والعشرين، ويوسف إدريس أصدر قصته الأولى: (أنشودة الغرباء) وهو فى الثالثة والعشرين، ويوسف القعيد اصدر مجموعته الأولى: (الحداد) وهو فى الخامسة والعشرين، وإبراهيم عبد المجيد أصدر روايته الأولى: (فى باطن الأرض) وهو فى السادسة والعشرين، أما جمال الغيطاني، فقد أصدر قصته الأولى وهو فى الثامنة عشرة . ومن متابعتى لبعض أعمال (الأدباء الجائلين)، لاحظت أن بعضهم يستنسخ أعمالا سابقة لكبار الكتاب قى الغرب والشرق، لكنه يغير ويبدل ليمحو ملامح الأصل، ولا يتورع عن التباهى بعمله وأنه من مبتكرات قريحته، لكن معظمهم يجلس أمام أوراقه ليسجل بعض خواطره، أو ليسجل بعض تجاربه الحياتية، دون أن يكون لهذه أو تلك أهمية تستحق التسجيل، ثم يدعى أنها مجموعة قصصية، ومنهم من يتابعون الصحف والمجلات لينتقوا منها بعض الحوادث ليحولوها إلى نصوص تحتوى مغريات لجذب القراء، أو مفاجآت ساذجة تغوى بعض المراهقين السذج، والحق أنهم جميعا لا يمتلكون شيئا من الموهبة أو الخبرة بأصول الكتابة السردية، واعتمادهم الأساسى على أن كثيرين منهم من رجال الإعلام، وهو ماييسر لهم وسائل الدعاية (التجارية)، إذ تسرع إليهم وسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية لتفسح لهم طريق الانتشار السريع، وما أن يتم الإعلان عن منتجهم حتى تسرع بعض (الدكاكين الثقافية) لعقد الندوات لمناقشة العمل، أى أنها تشارك فى عملية (الترويج للسلعة)، أما المؤسف حقا : فهو مشاركة بعض النقاد فى هذا الغش الأدبي، فما أن يشم هذا الناقد أو ذاك رائحة انتشار عمل روائي، حتى يسرع بالكتابة عنه، ليتباهى يوما ما بأنه أول من قدم هذا الأديب للقراء، طلبا لبعض المكاسب المعنوية أو المادية، ويحضرنى أيضا فى هذا السياق أن أحد (الأدباء الجائلين) قدم لى روايته الأولى برجاء قراءتها لكى أتناولها بالدراسة فى ندوة مخصصة لها، وما أن قرأت العمل حتى وجدت صاحبه يكتب سيرة ذاتية له، كلها حكايات ساذجة، وأحداث ملفقة، وشخصيات مهلهلة، أما اللغة، فهى مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية والأسلوبية، ولما جاءنى وسمع رأيى انصرف غاضبا، وكانت المفاجأة أن وجدت بعض الصفحات الأدبية تتناول العمل بالمدح، بل قرأت عن الندوات المعدة لمناقشة العمل وأسماء بعض النقاد الذين احترمهم ولم أتصور أبدا أنهم يمكن أن يقدموا على مناقشة مثل هذا (الغش الأدبي)، والمدهش أنهم أشادوا بعبقرية الكاتب الذى كتب عمله بعد أن تجاوز الستين، إن هذا كله يجعلنى أقول: إن (الأدباء الجائلين) أخطر على المجتمع من (الباعة الجائلين). لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب