«قلت سأذهب إلى أرض أخرى.. سأذهب إلى بحر آخر.. مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه.. كل محاولاتى مقضى عليها بالفشل». الأفق من حوله غيوم.. لا قمر، لا نجوم. يضيق عليها الحصار، مدينته الساحرة تتعرض إلى غزو الإنجليز وتدمر تحت القنابل عام 1882. يسأله القلب أين تسافر؟.. أين تسير؟.. لأي مصير؟.. ولماذا تحلم بالمستحيل وأنت معلّق بالإسكندرية؟!.. ينفض الأنقاض التى خلّفتها الحرب عنه دون أن يداعب عقله حلم الهجرة إلى أثينا كما فعل الكثيرون، أو الرحيل إلى باريس كما فعل شقيقه «بول». فالإسكندرية هى جزيرة أحلامه.. شاطىء الذكريات.. ومعقل الحنين. على أرضها غرس أشجار الشوق، فأزهرت بنفسجا وريحانا. فى موطن الفؤاد والمهجة، يأتيه الموج كل صباح.. يشرب القهوة فى الشرفة عنده حيث فى الشرفة للأمواج مقعد. منزل الحب هو رقم 4 فى شارع ليبسيوس المتفرع من طريق «الحرية»، يقع على مقربة من حي كوم الدكة حيث تختلط رائحة البيوت العتيقة بحفيف أوراق الشجر المعبأ بماء المطر الشتوي. هنا يقطن الشاعر اليونانى قسطنطين بيتروس كفافيس. تربض بشموخ - على بعد خطوات قليلة من بيته- الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية التى كان يذهب إليها طفلاً برفقة والدته الجميلة. باقياً على عهده بها، ظلّ يتردد عليها إلى أن صار شيخاً كبيراً. يعصره الشوق إليها، يتذكر أمه ويسأل الأمس البعيد أن يعود. فمنذ رحيلها، أمست الحياة شقاء. وكيف لا؟! وهو كان طفلها المدلّل وآخر العنقود. خوفاً من أن تصيبه عين الحسود، كانت أمه تلبسه فى الصغر ملابس البنات، وتمشّط شعره وتضفره وتضع فيه الأشرطة الحريرية الملوّنة. فكان الناس يعتقدون أنه طفلة أنثى، وليس ذكراً. دلّلته الأم الحنون وغمرته بفيض من العاطفة.. صار على أثرها خجولاً منطوياً، لا يحب الاختلاط بالناس، ولا يعتمد على نفسه فى شىء. يرمق أيامه في صمت يائس. سدى يسأل الليل عنها. سدى يبحث عنها فى أحلامه. قضي الأمر. ماتت أمه. فكان عزاؤه الوحيد أن ينهى حياته بمدينة الإسكندر الأكبر التي لم يعرف وطناً غيرها. «لن تجد بلداناً ولا بحوراً أخرى.. ستلاحقك المدينة وسوف تهيم فى الشوارع ذاتها. وستدركك الشيخوخة فى هذه الأحياء بعينها.. وفى البيوت ذاتها سيدّب الشيب إلى رأسك.. ستصل على الدوام إلى هذه المدينة.. لا تأمل في بقاع أخرى.. ما من سبيل.. وما دمت قد خربت حياتك هنا، فى هذا الركن الصغير.. فهي خراب أينما كنت فى الوجود». البورصة تقدم العمر به وغدت روحه لا ترى غير خيالات السنين. شارداً أمام شرفته التي تداعب ستائرها رياح الشتاء، بدت أمام عينيه أيامه المتبقية فى الحياة وكأنها أوراق الخريف التى تتساقط. يحارب جدران الوحدة بنوافذ الحلم والخيال. يحمل قيثارة الذكريات ليعزف عليها ألحاناً وتراتيلً لزمن فات.. بدءاً من رحلة والده التاجر الكبير الذى غادر الآستانة ليستقر هنا فى الإسكندرية، وينشىء محالج القطن، ويعمل أيضا فى تجارة الحبوب والمنسوجات، حتى أصبح يمتلك مصنعين فى «كفر الزيات»، ومتاجر فى «مينا البصل»، ومكتب حاصلات زراعية فى «زيزينيا»، وآخر فى «الموسكي» بالقاهرة.. وهو ما جعله جديراً بأن يقلّده الخديوي إسماعيل وساماً أثناء حفل افتتاح قناة السويس. «كانت أرستقراطية الإسكندرية كلها تتردد على بيتنا.. كل من له نفوذ كان له مقعد هنا». غير أن دوام الحال من المحال، فقد مات والده وهو على وشك الإفلاس. شراعاً بصفحة البحر يجري، وبه الليل والهوى جالسان.. وكفافيس يعزف على قيثارة الذكريات.. ليفيض الوجد بحراً من الحنين إلى زمن الطفولة والبراءة حين التحق بالمدرسة التجارية التى أجاد فيها الفرنسية والإنجليزية إجادة تامة. يرسم ملامح وجه ناظر المدرسة «قسطنطين بابازي» بخطوط واضحة دقيقة.. فهو أستاذه الذى تأثر بشخصيته العلمية كثيراً، وبفضله اهتم بدراسة الفلسفة والتاريخ، خاصة الملاحم والبطولات اليونانية عبر التاريخ. عشقه لهذه البطولات تجلّى فيما بعد فى الكثير من قصائده.. يطلق ذاكرته إلى المدى.. يمشي بخُطى ثابتة فى برارى الماضى.. وموسيقى قيثارته لا تنقطع. يقف أمام صورته وهو شاب بكامل لياقته.. فيقرع الشوق طبوله إلى هذه الفترة المُفعمة بالحيوية والطاقة. كان كفافيس آنذاك يعمل - نهاراً- كصحفى بجريدة التليجراف، إلى جانب عمله سمساراً بالبورصة. وفى المساء - بعيداً عن النور- يمارس عمله السرّي فى كتابة الشعر. ما أجمله من عمل فى ليلة رائقة البهاء! على الضوء الخافت لشمعة أو مصباح غاز، يعزف كفافيس بالأبجدية أجمل الكتابات. أعمال عديدة وخالدة دوّنها فى النور الشحيح لغرف، وحانات، وأقبية. هل كان ذلك بدافع توفير الكهرباء وترشيداً للاستهلاك؟ أم صار ذلك جزءاً من أسلوب حياة مدينة عاشت تحت قصف الإنجليز لها؟.. يفصح شاعرنا عن الأسباب ليؤكد على حقيقة واحدة، وهى أن «الإسكندرية مدينة يعيش وجهها الحقيقى فى الخفاء.. كأن حقيقتها الوحيدة دُفنت قبل أن تولد.. ولا يجب أن يراها النور». متأثراً بروح المدينة، لم يكن الشاب اليونانى سوى ظلٌ لها. «أيام الغد تقف أمامنا مثل صف من الشموع الموقدة.. شموع صغيرة ذهبية حارة ومتوهجة.. أمّا الأيام المنصرمة فتبقى وراءنا.. خطّا حزينا من الشموع المطفأة.. أقربها لا يزال يزفر الدخان.. باردة ذائبة محنّية.. لا أريد أن أرنو إليها، إن جرمها يحزننى.. كما يحزننى أن أتذكر ضوءها الأول.. إننى أتطلع إلى شموعى المضاءة.. لا أريد أن التفت إلى الوراء وخشية أن أرى وأرتعد». رحلة بالترام يجلس على مقعده الخشبى ليعدو به الترام راكداً مسرعاً.. يطوّي الأرض طيّاً.. وكأنّ الدّنى فيمن على ظهرها تعدو!.. يسمع الفلّ على قوس كمان يتثنّى، فيصدح عطر ياسمين كلما مرّ فى رحلته بكازينو سان ستيفانو، ومسرح الهمبرا، وحديقة كرومر الصغيرة المسوّرة، وشارع السلطان حسين أمام مدارس مبناس اليهودية. وما أن يعبُر شارع الرمل، ويمرّ إلى جواره ترام محطة المياه ذو النجمة البيضاء حتى تنتعش الذاكرة لأهم حدث فى حياته.. هو يوم مولده. يشاء القدر أن يتزامن يوم ميلاد «قسطنطين كفافيس» فى 17 إبريل 1863، مع نفس عام ميلاد ترام الإسكندرية. الأمر الذى كان يدعو دائما والدته «خاريكليا» للتندر عليه، قائله: «إن عمرك من عمر هذا الترام». كان لايزال بعد جنيناً، عمره ستة أشهر داخل رحمها، عندما استقلت الأم الترام فى أول رحلة له امتدت لساعات. انطلقا معاً داخل هذه الحيّة الصفراء التى تنساب وتنهب الأرض بشوارعها وبيوتها في مدينة أصبحت مضطّرة للعيش فيها. تبطىء بين الحين والآخر لتلتقط أنفاسها، ثم تتوقف فجأة.. لتعود مواصلة رحلتها مسرعة من جديد. أدرك شاعرنا سر تسمية المصريين للترام بال «كهربا»: «فهم يخشونه كما يخشون السيارات، والأجانب، وأشياء أخرى». ولا يخفي كفافيس أن زلزلة الترام وصليل عجلاته الرهيب كانا قادرين على انتزاعه من النوم العميق. بالرغم من ذلك، تجده على طول الكورنيش يكتظ بالناس، وهم متلاصقون داخله كالسردين!.. يمتزج صوته المزعج بالضجّة الداوية حيث تتعالى منه أصوات ضحك وثرثرة.. وأحياناً مشادات كلامية وعراك. كم من قصص حب كُتبت داخله!.. وكم من أحباء التقوا على مقاعد محطاته!.. الحركة لا تتوقف أبداً فى هذه المدينة الثرثارة «التى لا تُبعث إلّا فى الآحاد حيث يختفي الناس». عباءة الشتاء يتنهد البحر.. تدمع السماء.. فتغرق المدينة الهشّة فى مياه المطر، مثلما تغرق السفينة فى الأزرق!.. ينصت إلى صراخ الرعد فيما تعصف الأنواء بشقته وتعتصر الجدران بقوة. أوقات صعبة ومخيفة يقضيها طوال الليل إلى أن تكشف الشمس عن وجهها فى اليوم التالي، وتداعب إشاعتها دوائر الماء التى خلّفتها الأمطار فى الحارات والشوارع. كلما يطل القرص البرتقالى فى السماء، يطيل إليه النظر كفافيس، ويهمهم لنفسه: «قد تكون آخر شمس.. قد لا تستيقظ فى الصباح التالي». لم يكن الطعام أبداً غايته، فمثله يعيش على رحيق الأرض، شأن الفراشات. غير أن أسعد أوقاته كانت تلك التى يقضيها فى تناول القهوة مع الحلويات اليونانية أو الإنجليزية داخل محلات «بودرو» و«ديليس» بمحطة الرمل. أمّا «إيليت»، فكان مثل بيته الذي يود لو امتلكه فى يوم ما. أنيق الملبس، يدخل فى الصباح «إيليت» ليتناول قهوته، متأبطاً صحفاً وأوراقاً وكتباً. يجلس على طاولته التى اعتاد الجلوس عليها ليطالع أخبار الصحف. وما أن ينتهى من قراءتها، يتبادل النظرات مع الجالسين حوله.. ينقر بأصابعه على الطاولة إعجاباً بالمقطوعات الموسيقية التى تنبعث مع الإضاءة الخافتة.. يتأمل طويلاً اللوحات التى تزيّن الجدران.. كم تمنى لو كان وجهه واحدة من بين هذه اللوحات! فى ركنه البعيد، يرتكن إلى حافة النافذة المجاورة لمنضدته، متطلّعاً إلى أعلى الغيوم. ثم يتنقل ببصره بين أركان الشارع الضيق بجواره، والذي يبدو كشريان نحيف يقذف بالناس من وإلى البحر.. بالنسبة له، «هو شارع رأيته دائما يلخّص المدينة التى أعرفها أنا. مدينة مختلطة بالأنفاس.. هواؤها شحيح حتى إن ساكنيها يستنشقون زفير بعضهم بعضاً.. فيصبحون عن دون قصد، إخوة». ذاكرته مثقلة بالصور الملوّنة للمدينة الكوزموبوليتانية التى تضم جنسيات مختلفة. حفظها فى مجلدات على إختلاف أحجامها. لقطات ومشاهد يتصفّحها «قسطنطين كفافيس» من وقت إلى آخر.. لا يستوقفه عن تصفّحها سوى صدى قرع أجراس الكنيسة اليونانية المجاورة لمنزله. من بين هذه الصور، التقط واحدة ليهود الإسكندرية، تتجلّى تفاصيلها من خلال اجتماعاتهم فى نادي «مكابي» الشهير آنذاك. الأسقف عالية، تتدلى منها ثريات ثقيلة على هيئة الكمثرى.. الجدران تخترقها الأعمدة ذات اللون البني والأخضر بما يضفي على المكان ألفة عتيقة. ما أن يعبر الترام حتى ترتج معه موائد النادي من قوة هدير الصوت. بالإضافة إلى جو الرعب هذا، المشروبات تتأخر فى المجىء وتكون فى الغالب سيئة وباهظة الثمن.. «هذا المكان الذي يشبه قبواً مزدحماً بأشخاص مختبئين.. الجميع يتحدثون دون أن يصدر عنهم أي صوت!!».. الصورة التى رسمها «كفافيس» بريشته الخاصة عن ملامح يهود هذه المدينة، تجعلهم أقرب إلى جالية ريفية!.. «ثرثارين ومتطفلين.. بيوتهم مغلقة على أطعمتهم.. وروائحها، ونقائها المفتعل». فى المقابل، يعرب الشاعر اليونانى عن إعجابه وانبهاره بشعب الإسكندرية الذى يجيد التنكر.. المدينة كلها تنطق بلغات لا تعرفها، لتحفظ بقاءها ووجودها.. «الجميع فى الإسكندرية يرتدون أقنعة.. لا يمكن أن ترى شخصاً يرتدى وجهه الحقيقى». يمتدح قسطنطين كفافيس تلك القدرة العفوّية على أن يكون كل شخص - في لحظة ما- إنساناً آخر!!.. فى كل مرة يعبر الشارع أو يجلس على مقهى، يلتقى بنفس القامات، لكن برؤوس أخرى!!..فيذكّر نفسه بأن «المدينة هى التى تتحدث وليس أي من هؤلاء». تعصف الريح بعد أن غرقت الشمس وراء الأفق.. لازال كفافيس ينقش أيامه على صخور الهوى، ويرسم وجه حبيبته فى موج الورق. لا يهاب هوج الرياح، فالإسكندرية مرفأه وشاطىء النجاة إن غرق. وكأن أرضها ما وجدت إلّا له، وكأن الناس ما خلقوا. ما كان يوماً فى هواها محايداً. يسقط كل مساء فى أحضان البحر، ثم يعود فيولد كل صباح. حتى آخر لحظة فى عمره، كان يجمعه بها ميعاد فرح ولقاء حب.