تعالت فى مصر فى السنوات الأخيرة أصوات تنادى بحقوق الإنسان تيمنا بتلك الظاهرة التى تناثرت فى العالم الغربى بدعوى أنها الراعية لتلك الحقوق فى مواجهة أى مساس بها من سلطة الدولة، مع أن الواقع المشهود أن تلك الظاهرة ما قامت فى الخارج إلا لأغراض سياسية لامجال للخوض فيها فى هذا المقام، اللهم إلا بالإشارة إلى أنها تستهدف أوطاناً بعينها كذريعة للتدخل فى أمورها الداخلية. وأبرزها مصر مركز الاهتمام الدولى لموقعها الإقليمى ومكانتها المؤثرة التى تتجه إليها الأنظار دائماً باعتبارها أصل المجتمعات وأول دولة فى التاريخ ومهد الحضارة الإنسانية. وذلك فى حين أن تلك الأصوات الخارجية المغرضة تتغافل دون مواجهة أو تعليق ولو بالقول عن جسامة ما يعتور دول أخرى من تعدٍ ظاهر على حقوق الإنسان، من قبيل القهر العنصرى فى بلد تتشدق بالديمقراطية ، وقسوة الكبت فى بلد تتوارى بالتدين والمدنية، وتحدٍ سافر للضمير الإنسانى من محتل غاصب لطرد شعب من دياره. إن حقوق الإنسان بصورة أساسية هى كل ما يتطلب الإنسان تأمينه لمعيشته وحياته وأمنه وكرامته. ويندرج تحت ذلك حقه فى أن تعمل المؤسسات الدستورية التى أوكل إليها إدارة شئونه على توفير المأكل والملبس، وإحاطته بالرعاية الصحية السليمة، والنهوض بالتعليم والبحث العلمي، وإتاحة فرص العمل، وتحقيق الأمن، وإعلاء الحياة الكريمة، ومسايرة آفاق التنمية والتطوير لكل ذلك بما يدعم مكانة الوطن واحترامه بين المجتمعات الدولية بصفة عامة مما ينطبع على المواطنين فرادى وجماعات فى الداخل والخارج. بذلك فإن حقوق الإنسان لا تقتصر على المناداة بحرية التظاهر دون قيود تنظيمية، والتحقق من كيفية معاملة المسجونين فى السجن، والمطالبة بالإفراج عن المحبوسين مع أنهم فى نظر القانون وقضاته الشرفاء من المعتدين على الوطن والمواطنين مما يستوجب حبسهم، وأخيراً التمسك بمراقبة الانتخابات لفقدان الثقة ومظنة التحيز من القائمين عليها. ولما كانت إدارة شئون البلاد موكلة من المواطنين إلى مؤسسات دستورية، فلا يستقيم من بعد أن يُنظر إلى هذه المؤسسات بحسبانها خصما متعسفا يقف فى الجانب المقابل للمواطن القابع خلف منظمات يقتصر دورها على المناداة فى لحظات فارقة بحريات طليقة دون ضوابط تحت مسمى حقوق الانسان، ولا يسوغ من ناحية أخرى أن يتخلى المواطن أو منظماته تلك عن دورهم فى تحقيق متطلباتهم فى حين أنهم جميعاً على اختلاف مواقعهم هم الأصل فى بلوغ المقتضي، ومن ثم فمن واجبهم المساهمة الفعالة الجادة فى تحقيق آمالهم، وليس مجرد المراقبة السلبية والتربص وتصيد الأخطاء بوسائل معوّقة لا طائل منها بل مسيئة لصورة بلده فى المجتمع الدولي. كم أتمنى كمصرى صميم يستمد ذاته من مكانة وطنه، ويستمد احترامه من قوة وطنه، ويستمد كرامته من رفعة وطنه، أن يسعى المنادون بحقوق الإنسان فى مصر إلى مساندة الدولة ومعاونتها فى إعلاء شأن الوطن حتى يعود متميزاً مشهوداً له بحقٍ على حضارته وريادته. وأناشدهم مخاطباً وعيهم بظروف البلد وإمكاناتها، وبأننا لسنا فى حاجة إلى من يتربص بالحكومة ومؤسساتها ويتصيد أخطاءها مادام اكتمال الشكل الدستورى الذى ظفرنا به كفيلا بالمتابعة والمراقبة والتصحيح فى صورة حضارية مقننة ألا يفوتهم أن الشعب المصرى الذى ثار للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، يتوقع منهم تضافر الجهود مع الدولة لتحقيق مقتضيات حقوق الإنسان فى إطارها الصحيح المتكامل. الأمر الذى يوجب عليهم إعداد البحوث والدراسات وعقد المؤتمرات والندوات وطرح الآراء والأفكار البناءة التى تساعد الدولة على تحقيق الأمل الذى نتوخاه جميعاً لانطلاق وطننا ورفعة شأنه، وألا يقتصر دورهم على مبدأ الحرية الذى تشعبت معانيه وتطبيقاته، بل يتسع بصفة أساسية إلى المبادئ العليا لحقوق الإنسان متمثلة فى مجالات تطوير التعليم والبحث العلمى الذى أصبح ضرورة ملحة من أولويات حقوق الإنسان، وتوفير الرعاية الصحية التى يعانى المواطن المصرى فقدانها فى صورة إنسانية مقبولة، والارتقاء بالوعى السياسى الذى أصبح المواطن المصرى يتطلع إليه لاكتمال مؤسساته الدستورية فى صورتها السليمة وأداء واجباتها على الوجه المحقق لآماله، والإصلاح المجتمعى الذى يعانى انتشار البطالة الضارة والعشوائيات المسيئة، والقضاء على مظاهر الحياة غير الانسانية فى العديد من ربوع البلاد، والارتقاء بمستوى المعيشة بصفة عامة لتوفير الحياة الكريمة لكل مواطن مصرى والتى هى الاطار الحقيقى لحقوق الانسان، وما إلى ذلك من ضرورات حيوية يتطلع كل وطنى إلى تحقيقها باعتبارها من حقوق الانسان. ولا يغيبن أن ذلك كله يتطلب من الجمعية المصرية لحقوق الانسان بما لها من احترام واجب الاهتمام بالتوعية العامة بأمرين غاية فى الأهمية : أولهما: أن تحقيق تلك الأهداف يتطلب نفقات باهظة وإن كانت ضرورية إلا أن الوضع الراهن يعجز عن إتاحتها، ولن يقيمه من عثرته إلا أداء الشعب بكل فئاته دوره اللازم فى مواصلة العمل والانتاج بكل عزم وإرادة وشعور بالوطن ومتطلباته مهما احتاجه ذلك من صبر وتضحية، إذ لا تسوغ المطالبة برفعة الوطن دون إيجاب عملى من مواطنيه جميعهم، فالقائمون على التنفيذ منهم ولهم. ثانيهما: أن الحرية فى معناها الصحيح هى حرية التعبير بوسائل حضارية عن موقف معين أو حدث، ولايجوز فى مجتمع حضارى أن يُتخذ من حرية الرأى ذريعة للنيل من حقوق الناس أو حرماتهم أو عقائدهم. وقد قيل بحق أن الناس لن يكونوا أحراراً إلا إذا اقترنت رغبتهم فى الحرية بما يكبح جماحهم عن المساس بحقوق الآخرين. وبذلك فإن حرية الجماعة وحقوقها وسلامتها أولى بالرعاية من التحدث عن حرية بعض الأفراد فى التعدى والخروج عن القوانين والنظم المفروضة بزعم حرية التعبير عن الرأي. وغير خافٍ أن كل ذلك لن يتأتى إلا بالتربية والتعليم فهما الأساس الذى تُبنى به الأمم أخلاق مواطنيها وطباعهم ومواقفهم وتنتظم به حقوقهم . لمزيد من مقالات المستشار: أحمد مهدي الديواني