تحدثنا سلفا عن الشخصية الإنسانية فى نمط حضورها (المتسامي)، الذى يعكس كل ما يليق بالإنسان ككائن أخلاقى، قادر على تمثل المعانى الكبرى لوجوده. واليوم نتوقف عند نمط حضورها (الوظيفي)، الذى يجعل من الإنسان مجرد كائن عادى، يفتقد للمعانى المتسامية والإرادة الأخلاقية، وهو نمط يبلغ ذروة تحققه فى شخصية (الإرهابى) كإنسان عدمى، وظيفته الأساسية تعميم الموت ونشر الخراب. تعكس الشخصية الوظيفية ما كان هربرت ماركوزا قد سماه (الإنسان ذا البعد الواحد)، الذى يخلو من مركبات التسامى، فلا يطلب سوى إشباع حاجاته المباشرة، ورغباته الملحة، بينما يعجز عن طلب المعانى الكبرى للوجود، وعن التضحية فى سبيلها. هذا الإنسان، في أقصى حالاته الاختزالية، يقترب من موقع الآلة التي تؤدى دورا مخططا على نحو مسبق، من دون تأمل لغايته أو لأخلاقية الطريق الذى يقود إليه، وهل يؤذى أناسا آخرين، أو يتناقض مع المثل العليا للمجتمع، ويؤدى، من ثم، إلى توتر الجماعة الإنسانية، وتألم أفرادها؟. يحقق الإنسان الوظيفى ذاته فقط عن طريق السعى إلى زيادة سيطرته بحيازة: إما المزيد من السلطة التي تمنحه شعورا بأنه الأقوى، القادر على الإضرار بالآخرين ، فيما لا يستطيعون هم الإضرار به. وإما المزيد من الثروة التي تكفل له حيازة الأشياء الأغلى، التى تحتل من نفسه موقعا مركزيا بديلا عن المثل الأرقى، فكلما توافرت له تلك الأشياء شعر بأنه يحقق ذاته أكثر. وهكذا يصير العالم الخارجى، الذى يحتوى مقتنياته، ويشهد نفوذه، ليس فقط مجالا لفعله ولحيويته، بل وأيضا مركزا لإلهامه، ومرجعا لأحكامه، فلم يعد لذاته الإنسانية الجوانية، وما تنضوى عليه من عقل وروح وضمير وإرادة، أى قيمة حقيقية أو حضور متميز فى العالم، لأن جميعها قد خضع لسلطان الأشياء نفسها، ولسلطان الآخرين الأقوى نفوذا وثراء منه، ومن ثم فهو يسعى إلى أداء دوره، وبذل جهده، فقط في خدمة تلك الأشياء، على الطريقة وبالشكل الذى يحدده له أؤلئك الأقوياء، ولو قضى سلطان الأشياء، وضغط الآخر، على خياله وروحه، وإرادته الحرة. لا يمكن لهذا الإنسان الوظيفى أن ينعم بمعان كبيرة وأحاسيس عميقة، وأن يحب الآخرين حبا حقيقيا، إذ يجد نفسه في حال من التنافر معهم، مدفوعا بطبيعته التي تجعل الرغبة في التملك والسيطرة أساس إحساسه بالهوية، وتتصور الإنسان فقط كحاصل لمجموع قدراته على الكسب المادى والتسلط الاجتماعي. والمفارقة التي قد تحدث، أن هذا الإنسان غالبا ما يتوقف أو يعجز، عن أن يحب نفسه أيضا، حيث إن الرغبة العارمة في التملك والتسلط تدفع به إلى الاغتراب عن ذاته تدريجيا حتى يغيب تماما عنها؛ كما أن فقدانه القدرة على الشعور بالشبع مهما ازداد ثراؤه، يدفعه إلى الاستمرار فى طريق الكدح، المشوب بالتوتر: سواء نتيجة القلق على ما يملكه بالفعل، أو نتيجة الحزن على ما لم يتمكن من امتلاكه. وبين التوتر والحزن لا يمكن لمثل هذا الإنسان أن يعيش حياة اليسر الحقيقية، ولا أن ينعم بمشاعر الطمأنينة الطبيعية التى يحققها المال؛ لأنه صار مملوكا لهذا المال، وليس مالكا له إلا ظاهريا فقط. ومع تعمق الرغبة فى التسلط، والسعى إلى مواقع النفوذ يفقد الإنسان الوظيفى شعوره بالتفوق، لأن مسعاه إلى امتلاك النفوذ غالبا ما يصطدم بمن هم أقوى منه، فيضطر إلى مداهنتهم، والخضوع لهم كى يرضوا عنه ويسمحوا له بالصعود إلى موقع جديد. ولأنه لا يشبع من النفوذ، نجده سرعان ما يسعى إلى موقع أعلى، يضطر معه إلى العودة مجددا إلى ممالأة الأقوى والخضوع لهم. وهكذا دواليك، حتى نجده، لفرط نهمه للسلطة والنفوذ، قد استغرق عمره وطاقاته فى البحث عن موارد التسلط، ومواقع السلطة، خاضعا للأقوى منه، فلم يتوافر له الوقت الكافى لممارسة تسلطه على الأضعف منه، أو الاستمتاع بنفوذه عليهم. وقد يفطن مثل هذا الإنسان، فى لحظة كاشفة من حياته، ربما تلت شعورا بفقد عزيز لديه، والعزيز لدي هذا الشخص هم الأبناء فقط فى أغلب الأحيان، لأن مثله لا يعرف للصداقة أى معنى، ولا للحب أي قيمه. وربما تلت شعورا بالمرض يشرف به على الموت، ويدفعه إلى التفكير فى مغزى حياته اللاهثة بلا معنى. وربما تلت إخفاق غزوة من غزواته المدفوعة بقوة نهمه إلى السلطة والمال، على نحو يصيبه بالحزن. غير أن مشاعر الحزن على الإخفاق هنا، مثل ألم الفقد، وشجن المرض هناك، ليست إلا مشاعر طارئة وعرضية، سرعان ما تزول، لتنتهى معها وقفته أمام مرآته، فيغادرها، شائحا بوجهه عن حقيقته الباطنة العميقة التى كاد أن يكتشفها، لينطلق من جديد فى مطاردة حقيقته الظاهرية السطحية، التى اعتادها، وتكيف معها. إنه لا يتغير قط، ولا يستطيع غالبا أن يستعيد نفسه من براثن تلك الحالة التى وصل إليها، ولكنه فقط يتململ منها، يكرهها في اللحظات الاستثنائية والفاصلة والكاشفة من حياته، ولكنه سرعان ما يعود إليها، خاضعا لسلطانها الجموح، ونفوذها المهيمن عليه. ولأن هذا النمط النفسي السلبى لا يقتصر على شخص واحد بل يصير إلى الانتشار في المجتمع، فالمتصور أن تنمو الرغبة في الهيمنة والتملك لدى الكثيرين، وأن يخاف كل واحد منهم أن يأتى ثراء الآخر وهيمنته على حسابه هو، فيبدأ توجسه من الآخرين. وخشية أن يكون محلا لعدوانهم عليه يسعى هو نفسه إلى الهجوم الاستباقى عليهم، وهنا تنمو أشكال الفساد والاحتكار في دنيا الاقتصاد، كما تترعرع أشكال الاستبداد والعنف في عالم السياسة، ويصبح المجتمع فقيرا تماما ولو كانت موارده غزيرة جدا، قاسيا جدا ولو تعددت أديانه، إذ نصبح في حالة أشبه بحالة الطبيعة، أى حرب الجميع ضد الجميع، بهدف الحصول علي الأكثر دوما من الأشياء والمقتنيات، وليس على الأعمق أبدا من المعانى والمشاعر، فالأخيرة وحدها تصوغ إنسانية الإنسان، ولعل غيابها يقدم تفسيرا لنوازع الإرهابى، كشخصية إنسانية فقيرة جدا، تفتقد القدرة على فهم الحياة بكل تركيبها، والدين بكل رحابته، والبشر على اختلافهم، فيما تسعى لامتلاك الدين كآلية لفرض تسلطها عليهم، تحقيقا لغايات تنبع منها وحدها، أو تخص الآخرين الذين قاموا بتوظيفها. لمزيد من مقالات صلاح سالم