جامعة حلوان: خدمات تعليمية وصحية ونفسية متكاملة لتحسين تجربة الطالب الجامعية    جامعة الفيوم تستضيف وفد طلاب الجامعات العربية    اليوم.. "النواب" يستأنف عقد جلساته العامة    بدء التخصيص الإلكتروني لشقق مشروع ديارنا 2025: التفاصيل الكاملة للمستفيدين    أسعار الدولار اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025    البرازيل ونيجيريا تبحثان التعاون الاقتصادي وتفعيل آلية الحوار الاستراتيجي    استشهاد 13 فلسطينيا في قصف إسرائيلي استهدف منازل ومراكز إيواء في غزة    معلق مباراة تشيلسي وفلومينينسي في نصف نهائي كأس العالم للأندية    4 وفيات و25 مصابا في حريق سنترال رمسيس    بعد موافقة البرلمان| التعليم تعلن تفاصيل تطبيق نظام البكالوريا الجديد    الأرصاد تحذر: طقس شديد الحرارة واضطراب في الملاحة حتى الأحد المقبل    انسيابية مرورية بالقاهرة والجيزة مع ظهور كثافات متفرقة ببعض المحاور    بيونسيه وذا ويكند في مفاوضات لأغنية كأس العالم 2026 وشاكيرا وريهانا مرشحتان لعرض استعراضي ضخم    "بحبك يا صاحبي".. محمد سامي يوجه رسالة ل أحمد السقا    مسيرة إسرائيلية تقصف فلسطينيين في دير البلح    رغم غيابه عن الجنازة، وعد كريستيانو رونالدو لزوجة ديوجو جوتا    أسماء 39 مصابا في حريق سنترال رمسيس (صور)    احمي نفسك وأنقذ غيرك، هيئة الدواء تطالب بهذا الإجراء فورا حالة ظهور أي آثار جانبية للأدوية    التأمين الصحي ببني سويف يبدأ تنفيذ خطة محكمة لتنظيم الكشف الطبي للطلاب    ماذا قدم تشيلسي أمام الأندية البرازيلية قبل مواجهة فلومينينسي؟    هشام يكن: جون إدوارد و عبد الناصر محمد مش هينجحوا مع الزمالك    وسط صراع ثلاثي.. الأهلي يحدد مهلة لحسم موقف وسام أبوعلي    فرمان حاسم من ريبيرو بشأن رحيل رباعي الأهلي.. سيف زاهر يكشف    سبب تأخر انضمام صفقتي الزمالك للتدريبات.. الغندور يكشف    اتحاد بنوك مصر: البنوك ستعمل بشكل طبيعي اليوم الثلاثاء رغم التأثر بحريق سنترال رمسيس    رسميا بعد الزيادة الجديدة.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025    من البيت.. طريقة استخراج جواز سفر مستعجل إلكترونيًا (الرسوم والأوراق المطلوبة)    رابط تنسيق الدبلومات الفنية 2025.. مؤشرات كليات ومعاهد دبلوم صناعي 3 سنوات    رئيس شعبة الدواجن: سعر البيض للمستهلك يجب ألا يتجاوز 120 جنيها    فريد البياضي: هل يُعقل أن يشلّ حريقٌ في سنترال واحد الدولة؟ أطالب بمحاسبة المقصرين في تأمين منشآت الاتصالات    آخر تطورات حريق سنترال رمسيس فى تغطية خاصة لليوم السابع (فيديو)    بعد حريق سنترال رمسيس.. «إسعاف المنوفية» ينشر أرقام الهواتف الأرضية والمحمولة البديلة ل 123    ترامب: إيران لن تصبح دولة نووية.. وآمل أن تكون الحرب مع إسرائيل قد انتهت    طلب إحاطة عاجل بسبب توقف خدمات الاتصالات والإنترنت والمصارف عقب حريق سنترال رمسيس    وفاء عامر تتصدر تريند جوجل بعد تعليقها على صور عادل إمام وعبلة كامل: "المحبة الحقيقية لا تُشترى"    «غفران» تكشف التفاصيل.. كيف استعدت سلوى محمد على لدور أم مسعد ب«فات الميعاد»؟    شعبة المخابز تحذر من احتمالية تعطل شبكة صرف الخبز بعد حريق سنترال رمسيس    «معايا هيبقى حاجة تانية».. عبد الواحد السيد: جوميز طلب بيع زيزو والتعاقد مع نجم سيراميكا    نتنياهو: إيران كانت تدير سوريا والآن هناك فرصة لتحقيق الاستقرار والسلام    ترامب: حماس تريد وقف إطلاق النار فى غزة ولا أعتقد وجود عراقيل    5 وظائف جديدة في البنك المركزي .. التفاصيل والشروط وآخر موعد ورابط التقديم    ترامب في لقاء نتنياهو: حماس تريد التفاوض لوقف إطلاق النار والأمور تسير بشكل جيد    التعليم العالي يوافق على إنشاء جامعة العريش التكنولوجية.. التفاصيل الكاملة    انتقاد يمس كبريائك.. حظ برج العقرب اليوم 8 يوليو    انطلاق فعاليات معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب في دورته ال 20.. المعرض بمشاركة 79 دار نشر مصرية وعربية.. 215 فعالية ثقافية على هامش المهرجان ل 800 محضر.. خصومات تصل إلى 30%.. فيديو وصور    مفاجآت غير سارة في العمل.. حظ برج الدلو اليوم 8 يوليو    جمال عبد الحميد: دخلت السينما وسط تهافت المنتجين.. واعتزلت فجأة بعد خطبة جمعة    على خلفية حريق سنترال رمسيس.. غرفة عمليات ب «صحة قنا» لمتابعة تداعيات انقطاع شبكات الاتصالات    أهم الأخبار العربية والعالمية حتى منتصف الليل.. الكرملين ردا على ترامب: التعاون داخل البريكس ليس موجها ضد أطراف ثالثة.. إيران: طهران قادرة على إطلاق الصواريخ لعامين بلا توقف.. إسرائيل تجري مناورات بالجولان    أهم طرق علاج دوالي الساقين في المنزل    الدكتورة لمياء عبد القادر مديرًا لمستشفى 6 أكتوبر المركزي (تفاصيل)    لعلاج الألم وتخفيف الالتهاب.. أهم الأطعمة المفيدة لمرضى التهاب المفاصل    عاجل- المصرية للاتصالات تخرج عن صمتها: حريق سنترال رمسيس فصل الخدمة عن الملايين.. وقطع الكهرباء كان ضروريًا    وفقا للحسابات الفلكية.. تعرف على موعد المولد النبوي الشريف    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الفساد صناعة ?!    (( أصل السياسة))… بقلم : د / عمر عبد الجواد عبد العزيز    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حالة شكر.""؟!    نشرة التوك شو| الحكومة تعلق على نظام البكالوريا وخبير يكشف أسباب الأمطار المفاجئة صيفًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو القاسِم الشَّابَّى كتب قصيدة النثر فى السادسة عشرة من عمره
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 11 - 2014

على الرَّغم منْ الاحتفَاءِ الكبيرِ الَّذي قوبلَتْ بِهِ تجربَةُ أبي القاسِمِ الشَّابيِّ (1909-1934) الشِّعريَّةِ ؛ الَّتي استمرَّ حُضُورُهَا الشِّعريُّ سِتَّ سَنَوَاتٍ فقطْ ، فقدْ تمَّ التَّعتِيمُ على جُزْءٍ أصٍيْلٍ منْ مُمَارسَتِهِ الشِّعريَّةِ ؛ يتمثَّلُ في تجربتِهِ في شِعْرِ النَّثرِ العَرَبيِّ ؛ وَهِيَ تجربَةٌ مُهِمَّةٌ تُشكِّلُ دِيوانًا كامِلاً ، شَرَعَ فيْهِ وَهُوَ في السَّادسَة عَشَرةَ منْ عُمْرِهِ ، وَهُو يسبقُ دِيوانَهُ الوَحِيدَ ؛ الَّذي نُشِرَ بعدَ وَفاتِهِ : أغَانِي الحَيَاة ، وَيَسْبقُ ، كَذَلكَ ، كِتابَهُ : الخَيَال الشِّعريّ عِندَ العَرَب ، وَلا تكتمِلُ مُدَوَّنتُهُ الشِّعريَّةُ بإقصَائِهِ .
ففي عِشْرينيَّاتِ القََرْنِ المَاضِي ، أنْجَزَ الشَّابِيُّ ديوانًا كامِلا ، سَاهَمَ بهِ في حَرَكةِ مَا سُمِّيَ ب الشِّعرِ المَنْثُورِ ؛ الَّتي هِيَ الانبثاقَةُ الأولى لِلْكتابَةِ الشِّعريَّةِ نثرًا ، حَيْثُ إنْجَازُ الشِّعرِ بمَعْزِلٍ عنْ آليَّاتِ إنتاجِهِ التَّاريخيَّةِ المُتَوَارَثَةِ ، وَلمْ يكُنْ الشَّابي وَحْدَهُ منْ شُعرَاءِ القَصِيدَةِ العَربيَّةِ ؛ بشكلِهَا التَّاريخِيِّ المَوْرُوثِ ، هُوَ الَّذي يُقاربُ شَكْلَ الشِّعرِ المَنثورِ ؛ فقدْ شَهَدَتْ هَذه المَرْحَلَةُ مُشَاركاتٍ في المَشْرِقِ وَالمَهْجَرِ في طَليعَتِهَا تَجاربُ خَليْل مُطران (1871- 1949)، وجُبْرَان خَليْل جُبْرَان (1883–1931)، ورَشِيد أيُّوب(1871- 1941)، وجَمِيْل صِدْقي الزَّهَاوي (1863- 1936) ، ومَعْروف الرَّصَافي (1875- 1945) ، وبِشَارة الخُوري (1885- 1968) ، وبِشْر فَارس (1906- 1963) ، وهُنَا تجدُرُ الإشارَةُ إلى افتتَانِ الشَّابِيِّ بشَاعِريَّةِ جُبْران ؛ الَّذي كانَ ينظِم الشِّعرَ وينثرُهُ ، على حَدِّ تعبيرِ جُبْرَان نفسِهِ .
كَمَا ظَهَرَتْ في هَذِهِ المَرْحَلةِ دَواويْنُ منْ شِعرِ النَّثرِ ، منْهَا :" ظُلُمَات وَأشِعَّة " لميّ زِيَادة : 1923، " عَرْش الحُبِّ والجَمَال" لمُنير الحُسَامِي : 1925، " الحُبّ والجَمَال" لمحمَّد عبد المنعم :1927، " الطَّائر الشَّريد" لراجي أبو جمرا : 1931 ، " المُرُوج وَالصَّحَارَى " لمُراد ميخائيل :1931، ولَه أيضًا : " نَسَمَات وَزَوَابِع " 1927، وَهِيَ ، في مُجْمَلِهَا ، تُشِيْرُ إلى تبنِّي المَوْقِفَ الرُّومانسِيّ ، وأدائِهِ العَاطِفِي ، الَّذي مَيَّزَ هذِهِ المَرْحَلة ، وَكَمَا بَرَزَ في الخِطَابِ الشِّعريِّ بَرَزَ في نَثْرِ المَنْفلوطِي وَالرَّافِعي وَجُبْرَان وَالرِّيحانِي وميّ زيَادة وغيرهم .
وَتُشِيرَُ تجربَةُ الشَّابيِّ في شِعْرِ النثرِ إلى اتِّسَاقِهَا مَعَ تجربتِهِ في شِعْرِ الوَزْنِ اتِّسَاقًا وَاضِحًا في إنتَاجِ الشِّعريَّةِ ، على مِحْورِ الأدَاءِ اللغويِّ ، وعلى مِحْورِ المَوْقِفِ الرُّومَانسِيِّ بتدفُّقِهِ الوجْدَانِيِّ الحُرِّ ، وعلى مِحْورِ المَوْقِفِ منْ الوجُودِ وَالوَاقِعِ ، بمَا يجعلُهَا جُزْءًا أسَاسيًّا منْ مُمَارسَتِهِ الشِّعريَّةِ ومنْ مُدوَّنتِهِ الشِّعريَّةِ .
وَقدْ ظَلَّتْ تجربَةُ الشَّابيِّ مُهَمَّشةً ، في نُصُوصٍ موجُودَةٍ في بعْضِ الدَّوريَاتِ ، وَبعْضِ الكُتبِ ، وَبعضُهَا أُدْرِجَ تحتَ تصنيفَاتٍ تُبْعِدُهَا عنْ الشِّعريَّةِ ، مِثل خَواطِر وتأمُّلات ومقالات ، وَقبْلَ الوصُولِ إلى مَشْهَدِ القَصِيدِ النَّثريِّ عندَ الشَّابيِّ ، ينبغي الإشارة إلى ثمَّة وَقْفَتَيْنِ تَاريخيَّتيْنِ، تُشِيرَانِ إلى هَذَا المَشْهَدِ وتُعلِنَانِ عنْهُ ؛ تتمثَّلُ الوَقْفَةُ الأولى في وَقْفةِ توفيق بكَّار على آثارِ الشَّابي الشِّعريَّةِ المَنْسِيَّةِ ؛ في مُناسَبةِ مرورِ ثلاثيْنَ عامًا على رَحِيْلِهِ ؛ الَّتي جاءتْ تَحْتَ عنوَانِ: " مِنْ أشْعَار أبي القَاسِم المَنْسِيَّةِ " ، ونُشِرَتْ بمجلَّة الحَوْليَّات سنة 1965، وَكانَ منْ بينِهَا نَصَّانِ منْ شِعرِ النَّثرِ؛ هُمَا : " النَّفسُ التَّائهة " و" أيُّهَا القلب " .
وَقدْ كَانَ لوقفَةِ بكَّار على تجربَةِ الشَّابيِّ في شِعْرِ النَّثرِ، وَاعتبارهَا جُزْءًا منْ تجربتِهِ الشِّعريَّةِ ؛ يجِبُ أنْ يُلْحَقَ بديوانِهِ الجَامِعِ، أثرًا وَاضِحًا في التَّنبيْهِ إلى شِعريَّةِ القَصِيدِ النَّثريِّ عندَ الشَّابيِّ ؛ حيثُ قامَ أبو زيَّان السَّعديُّ ، بعدَ ذلكَ ، بتخصِيْصِ فَصْلٍ كَامِلٍ للقَصِيدَةِ النَّثريَّةِ ، ضِمْنَ فصُولِ كِتَابِهِ " في الأدَبِ التونسِيِّ المُعَاصِر"، الصَّادرِ سنة 1974، مُعتبرًا أنَّ " القََصِيدَة النَّثريَّة ليسَتْ جديدَةً في حياتِنَا الأدبيَّةِ ، وليسَتْ منْ ابتِكارِ أفرَادٍ بأعينِهِمْ ؛ إنَّمَا هِيَ ظاهرَةٌ بعيدَةٌ في الحَيَاةِ الأدبيَّةِ العَرَبيةِ ، منذُ المعرِّيِّ وَالتَّوحِيديِّ ، لكنَّهَا بَرَزَتْ وَاضِحَةً مُتكامِلةً لدَى بعْضِ أدَبَاءِ المَهْجَرِ الأمْريكِيِّ ؛ الَّذين تشرَّبَتْ قرائِحُهُمْ بالآدَابِ الغربيَّةِ ، ثمَّ ينتقِلُ السَّعديُّ إلى الوقوفِ على خَصَائصِ القَصِيدِ النَّثريِّ ، فَيَرَى أنَّه يتميَّزُ عنْ (الشِّعر) بمخَالفَةِ الأوْزانِ و القَوافِي و يتميَّزُ عنْ (النَّثر) بالخَيَالِ البديعِ وهَذا الإيقاعِ المُوسِيقيِّ الخَاصِّ ، ويَسْتشهدُ بمقطَعٍ منْ قَصِيدَةِ : أغنيَّة الألَم ، للشَّابِيِّ ، وَيَرَى أنَّ قَصَائدَ الشَّابيِّ النَّثريَّةِ ، قدْ سَايَرَتْ رِكَابَ حَرَكاتِ التَّحريرِ؛ الَّتي ظَهَرَتْ في مَشْهَدِ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، في الثُّلثِ الأوَّلِ منْ القَرْنِ العِشْريْنَ ، وقدْ امتازَتْ بإشرَاقَةِ الأسلوبِ ، ومَتَانَةِ التَّراكِيْبِ ، وَتدفُّقِهَا بأحَاسِيْسِ النَّفسِ الفيَّاضَةِ ، وَمَا تَوَشَّحَتْ بِهِ منْ أرْدِيَةِ الأحْزَانِ ، وانقبَاضِ الآمَالِ ، وَسْطَ عَالمٍ يمتلئُ شرورًا وآثامًا ، بالنَّغمَاتِ الشَّجيَّةِ نفسِهَا ، الَّتي كثيرًا مَا طَالعتْنَا في قصَائِدِهِ المَنْظُومَةِ ".
الوقفَةُ الثَّانيَةُ على شِعريَّةِ القَصِيدِ النَّثري عندَ الشَّابيِّ ، كانتْ بمُنَاسَبَةِ الاحتفَالِ بمرورِ سِتِّينَ عَامًا على رحيلِهِ ، حَيْثُ أصْدَرَتْ دَارُ المغربِ العَرَبيِّ ، في عام 1994، "موسوعَةً ضَخْمَةً حَوْلَ الشَّابيِّ ، وَقدْ ضَمَّ المُجلَّدُ الثَّاني منْهَا قِسْمًا بعنوَانِ : " نثر الشَّابيِّ وَمَوَاقِفه منْ عَصْرِهِ " ، وَهُو منْ إعدادِ و تقديْمِ أبي القاسِم محمَّد كرُّو ؛ الَّذي خَصَّصَ فيْهِ بحثًا لقَصِيدَةِ النَّثرِ عنْدَ الشَّابيِّ و جِيْلِهِ ؛ رَأى فيْهِ أنَّهَا مَوْجَاتٌ مُتعاقبَةٌ في الأدَبِ العَرَبيِّ منذُ ظَهَرَ النَّصُّ القُرآنيُّ ، وَمَنْ يقِفُ على كثيرٍ منْ الآياتِ والسّورِ، وعلى سَجْعِ الخُطَبَاءِ ، وَكتَاب الفُصُول والغَايَات للمَعرِّيِّ ، ونصوصٍ أخْرَى منْ مُختلَفِ العُهودِ ، يقِفُ على كثيْرٍ منْ الإجابَةِ النَّصِّيَّةِ ، و كثيْرٍ منْ الابتِدَاعِ وَالمَهَارَاتِ الأدبيَّةِ ؛ لاسِيَّمَا في خصوصِ الصِّياغَةِ والتَّشكِيْلِ ، وَلئِنْ اعْتَبَرَ كرُّو أنَّ الشَّابيَّ هُو أوَّلُ منْ كَتَبَ نصًّا في تونس ضِمْنَ القَصِيدِ النَّثريِّ ، فإنَّه استعرَضَ كَذلكَ بعْضَ الشُّعرَاءِ الآخريْنَ المُعَاصِريْنَ للشَّابيِّ ؛ وَالَّذين كانُوا مَعَه منْ المُجدِّديْنَ في الشِّعر، منْ أمثَالِ: سعيد أبي بكر، و محمَّد البشروش ، و محمَّد العريبي ، وقد أوْرَدَ للشَّابيِّ ثلاثةَ نصوصٍ تحْتَ عنوانِ: " منْ شِعْرِهِ المَنْثُور"، غيْرَ أنَّه جَعَلَ قصِيدَيْنِ آخريْنِ ؛ هُمَا : " صَفَحَات دَامِيَة منْ حَيَاةِ شَاعرٍ" و" صَفَحَات منْ كِتَابِ الوُجود / الشَّاعر" ، ضِمْنَ قِسْمٍ خَاصٍّ ، تَحْتَ عنوانِِ : " مَقَالات و خَوَاطِر أدبيَّة " .
ثمَّ جَاءَ الشَّاعر سُوف عبيد ، ليُتوِّجَ هذِهِ الجهودَ ؛ فاضطلَعَ بمُهمَّةِ تقديم الدِّيوَان النَّثريِّ لأبي القاسِم الشَّابيِّ ، بالعنوَانِ ذاتِهِ الَّذي وَضَعَه الشَّابيُّ لنصوصِهِ ؛ ليضَعَهُ في مكانِهِ التَّاريخِيِّ ، بعدَ تهمِيشٍ طَالَ ، وأرْجَعَ سُوف عَدَمَ اهتِمَامِ المُتخصِّصيْنَ في أدَبِ الشَّابيِّ وناشِرِيْهِ الاهتِمَامَ الجديرَ بتجربتِهِ في القَصِيدِ النَّثريِّ ، إلى أنَّهم " جمعُوهَا كيفَمَا تَسَنَّى لهم منْ مواقِعِهَا الأصْليَّةِ ، ثمَّ أدْرَجُوهَا مَعَ نصوصِهِ الأخْرَى ، وَ وَضَعُوهَا تَحْتَ عَناويْنَ تختلِفُ عنْهَا شَكْلاً وَمَضْمُونًا ، نَاهِيْكَ أنَّ أغلَبَ الدِّرَاسَاتِ حَوْلَ شِعْرِ الشَّابيِّ وَاستقصَاء آثارِهِ ، سَكَتَتْ عَنْ تِلكَ القَصَائدِ النَّثريَّةِ ، فإذَا مَا أشَارَتْ إليْهَا فباعتبارِهَا مُحَاولات أولَى في الكِتَابَةِ فَحَسْب ، أوْ باعْتِبَارهَا ظَاهرَةً مَحْدُودَةَ القِيْمَةِ ، لاحَتْ عِنْدَ الشَّابيِّ ، ثمَّ مَا فَتِئَتْ أنْ تَقَلَّصَتْ في مَا بَعْدَ ، وَأرْجَعَ سُوف سَبَبَ السُّكوتِ عنْ قَصَائدِ الشَّابيِّ النَّثريَّةِ أوْ إدرَاجهَا مَعَ غيرِهَا منْ أجْنَاسِ الكِتابَاتِ الأخْرَى لديْهِ ، أوْ اعْتِبَارهَا مُجَرَّدَ بدايَاتٍ لا تستحِقُّ النَّشرَ أوْ الدرسَ ، إلى عَدَمِ وُضُوحِ مقاييسِ قَصِيدِ النَّثرِ وإلى التباسِ مَعَالمِهِ المُميِّزَةِ تِلكَ الَّتي ، رَغْمَ انتِشَارِ هَذا النَّوعِ الجَديدِ منْ الشِّعرِ، وَ رَغْمَ انقِضَاءِ أكثر منْ قَرْنٍ على ظُهورِهِ في مُدوَّنَةِ الأدَبِ العَرَبيِّ المُعَاصِرِ، مَا تَزَالُ منْ دُون تحديدٍ قاطِعٍ وَمَضْبُوطٍ ، وَلَعَلَّ المَسْألةَ تتطلَّبُ التَّراكُمَ النَّوعِيَّ ، وَالتَّواتُرَ، وَالامْتِدَادَ الزَّمنِيَّ ، وَتواصُلَهُ ؛ لإنشَاءِ التَّنظِيْرِ الخَاصِّ بِهِ ، وَهُوَ الأمْرُ الَّذي يتطلَّبُ جُهودًا جَمَّةً على مَدَى أجْيَالٍ " .
وَلهَذَا شَرَعَ سُوف في تخلِيْصِ " القَصَائدِ النَّثريَّةِ لأبي القاسِم الشَّابي ، مِمَّا عَلِقَ بهَا على مَدَى السَّنواتِ الطِّوالِ منْ تصنيفَاتِ غَيْرِهَا منْ النُّصوصِ ، وإيلائِهَا المَكانَة الجَديْرَة بهَا ، بعِيدًا عَمَّا أُسْنِدَ إليْهَا منْ أحْكامٍ مُتسرِّعَةٍ أوْ عَامَّةٍ ، وَإظهارِهَا في شَكْلِهَا الخَاصِّ وَالمُسْتقِلِّ ، مُخلِّصًا إيَّاهَا منْ إجْحَافِ الطَّبعَاتِ السَّابقةِ وَشَوائِبِهَا و مُرتّبهَا ترتِيْبًا زَمَنيًّا .
هَكَذا يَصْدُرُ الدِّيوَانُ النَّثريُّ للشَّابيِّ أخِيْرًا ، في غَيْرِ حَيَاةِ صَاحِبِهِ ، كَمَا صَدَرَ دِيوَانُ الرَّائدِ الأوَّل لشِعْرِ النَّثرِ العَرَبيِّ، أمين الرِّيحاني(1876–1940) ؛الَّذي عليْهِ إجْمَاعُ الدَّراسِيْنَ ، بَعْدَ وفاتِهِ ، في عَامِ 1955، تَحْتَ عنوانِ :" هُتَاف الأوْدِيَة " ، بَعْدَ أنْ كانَ مُتناثِرًا في عِدَّةِ دَوريَّاتٍ وَكُتُبٍ .
و قدْ حَرِصَ سُوف على " إخْرَاجِ هذِهِ النُّصوصِ الشِّعريَّةِ وَنَشْرِهَا مُسْتقلَّةً ، تَحْتَ العنوانِ الَّذي وَضَعَه الشَّابيُّ نفسُهُ ؛ وَهُوَ " صَفَحَات منْ كِتَابِ الوجُود " ؛ لِتَظْهَرَ للنَّاسِ كَمَا أرَادَ لهَا الشَّابيُّ وَ تَمَنَّاه " ، وأوَّلُ هذِهِ النُّصوصِ ، نَصُّ " بقايَا الشَّفَق " ، وَقدْ كَتَبَهُ في عام 1925، وَيَعْكِسُ النَّصُّ "مَوْقِفًا تأمُّليًا في الحَيَاةِ ، منْ خِلالِ اسْتِبْطَانِ الذَّاتِ ، عِنْدَ مَشْهَدِ الشَّمسِ ، وَهِيَ تَغِيْبُ بآخِر ضِيَائِهَا ، فتنسَابُ الخَيَالاتُ وَالرُّؤى ، بيْنَ مُسَاءَلاتٍ حِينًا ، وَ بيْنَ ذِكريَاتٍ حِينًا آخَر، لكأنَّ الشَّاعرَ يُواجِهُ ذاتَهُ في لحَظَاتِ الكَشْفِ وَالحَقيقَةِ ، حَيْثُ يبدو النَّصُّ تَمَامًا كالمِرَآةِ ؛ قائمًا على مبدأ ثُنائيَّةِ التَّقابُلِ وَالتَّناظُر" وَمِنْهُ قولُهُ :
" أيْنَ أنْتِ ؟
أيَّتُهَا الأحْلامُ العَذْبَةُ الَّتي كَانَتْ تَبْسَمُ لِي
منْ خِلالِ الظَّلام
فتُفْعِمُ آفاقَ نفسِي
بأنْوَارِ الرَّجَاءِ
وَتَرِفُّ بسكونٍ حَوْلَ قلبِي هَامِسَةً
في مَسَامِعِهِ أنشودَةُ الأمَلِ
في أيِّ وَادٍ تَلاشَيْتِ ؟
وَفي أيِّ لَحْدٍ ضُمَّ صَدَاكِ ؟
أيْنَ أنْتِ ؟
أيَّتُهَا الأجنِحَةُ البيضَاءُ المُتألِّقةِ تَحْتَ أشِعَّةِ الشَّمسِ
كَعَرَائِسِ الشِّعرِ
لقدْ طلبتُكِ بَيْنَ أنْوَارِ الصَّبَاحِ
فلمْ أجِدْكِ
وَفتَّشْتُ عنْكِ بَيْنَ أهْوَالِ الظَّلامِ
فمَا رَأيتُكِ
فتَّشْتُ عنْكِ في ابتسَامَةِ الأزْهَارِ
وَفي قُطوبِ الأشْوَاكِ
وَفي كُلِّ أطْوَاءِ الحَيَاةِ
وَمَظَاهِرِهَا
فَمَا وَجَدْتُكِ ."
وَمنْ هذِهِ النّصوصِ كَذلكَ نَصُّ : الأحْزَان الثَّلاثَة ؛ الَّذي يستهِلُّهُ بقولِهِ :
" أنَا وَالليْلُ كئِيْبَانِ !
وَفي قلبيْنَا شُعْلَةٌ منْ تِلكَ الكَآبَةِ الصَّامِتَةِ
المُتغنِّيَةِ في قلْبِ الحَيَاةِ
بأحْزَانِ البَشَريَّةِ المُعَذَّبَةِ
وَعِنْدَمَا يَسْكُنُ الليْلُ
وَتَخْمَدُ أصْوَاتُ الزَّمنِ
تَتَصَاعَدُ منْ أحْشَاءِ الظَّلامِ أنَّةُ الكَآبَةِ المُوْجِعَةِ
مَعَ عَويْلِ المُنْطَرحِيْنَ
تَحْتَ سَنَابِكِ المَظَالمِ القَاسِيَّةِ
إلى حَيْثُ يُرْسِلُهَا اللهُ شُعَلاً نَاريَةً
تلتهِمُ الأشْوَاكَ
وَالهَشِيْمَ
أمَّا أنَا
فتَتَعَالَى كآبتِي شُعَلةٌ مُتَّقِدَةٌ مُتَمَايسَةٌ
في فَضَاءٍ مُظْلِمٍ
مُفْعَمٍ بمَرَارَةِ الأوْجَاعِ ."
وَمِنْ هذِهِ النُّصوصِ كَذلكَ نَصُّ: الذِّكريَات البَاكِيَة ، وَ يَرَى سُوْفَ أنَّه بمثابَةِ مُعَلَّقتِهِ ، أوْ نَشِيْدِ إنشَادِهِ ، وَمِنْهُ قولُهُ :
" بَاركِيْنِي يَا ابنَةَ النُّورِ وَالمَحَبَّةِ
فَلقَدْ تَغنيْتُ باسْمِكِ مُنذُ الأزَلِ ، وَدَعَوتُكِ منْ وَرَاءِ الوجُودِ
بَاركِينِي يَا ابنَةَ النُّورِ وَالمَحَبَّةِ
فَلَقَدْ صَلَّيْتُ لكِ في أعْمَاقِ قلبِي قبْلَ أنْ تبدَأ الأكْوَانُ
وَعَبدتُكِ بَيْنَ الكَوَاكِبِ وَأنَا شُعَاعُ طائِرٍ في الأفقِ البَعِيْدِ
بَاركِينِي يَا ابنَةَ النُّورِ وَالحُبِّ
فلقدْ تَغَنيْتُ باسْمِكِ وَأنَا خَمْرَةٌ سَكْرَى بَيْنَ اليَنَابيعِ الخَالِدَةِ
وَعبيرٌ يَتَطَايَرُ في سَمَاءِ اللهِ
وَدَعَوْتُكِ وَأنَا مَا حَلُمْتُ بأفرَاحِ العَالمِ وَأترَاحِهِ ،
وَلا تَمَثَّلتُ ضَبَابَ الفَجْرِ
وَضَيَاءَ القَمَرِ
بارِكِينِي يَا ابنَةَ النُّورِ وَالمَحَبَّةِ
فلقدْ تغنيْتُ باسْمِكِ حتَّى تَمَخَّضتْ بِيَ الأوْجَاعُ
وَوَلدتْنِي الحَيَاةُ في غُرْفَةِ الأيَّامِ
وَدَعَوْتُكِ حَتَّى قبََّلَ النُّورُ شَفَتَيَّ
وَأنَارَ الصَّبَاحُ عَيْنَيَّ
وَعَلَّمَنِي الحُبُّ الكَلامَ
بَارِكِيْنِي يَا ابنَةَ النُّورِ وَالمَحَبَّةِ
فلقدْ صَلَّيْتُ لكِ في أعْمَاقِ قلبِي
وَأنَا ذَرَّةٌ ضَائِعَةٌ بَيْنَ السُّدُمِ
وَضَبَابٌ هَائِمٌ بَيْنَ الظِّلالِ
وَ دَعَوْتُكِ قبْلَ أنْ يُلامِسَ الليْلُ قلبِي بشَفتَيْهِ
وَيُعَانِقُ الفَجْرُ رُوحِي بجنَاحَيْهِ
بَاركِيْنِي يَا ابنَةَ النُّورِ وَالمَحَبَّةِ
فلقدْ صَلَّيْتُ لكِ في أعْمَاقِ قلبِي
وَأنَا فِكْرَةٌ غَامِضَةٌ تضطرِبُ بيْنَ أعمَاقِ المَوْتِ وَأمْوَاجِ الحَيَاةِ
وَ أنشُودَةٌ خَافِتَةٌ تَرْتَعِشُ في قَلْبِ اللانِهَايَةِ
وَحَقيقََةٌ عَاريَةٌ تأتلِقُ في صَمِيْمِ الوجُودِ
لقدْ عَبَدْتُكِ في حَيَاتِي المَاضِيَةِ
وَسَأعْبُدُكِ في حَيَاتِي البَاقيَةِ
حَتَّى المَوْتِ ."
وَهِيَ نصوصٌ تكشِفُ ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ ، عنْ الأدَاءِ الرُّومانسِيِّ الَّذي شَاعَ في هذِهِ المَرْحَلةِ ، في المَشْرِقِ وَالمَهْجَرِ ؛ حَيْثُ العَاطِفيَّةُ المتدفِّقةُ السَّيالةُ ، وَالرُّؤى القاتِمَةُ ، وَتفاعُلُ الطَّبيعَةِ مَعَ حَرَكَةِ الشُّعورِ ، وَالشَّوقُ إلى مَحْبُوبَةٍ مَلائِكيَّةٍ بعيدَةٍ ، وَالرُّؤى المُجَرَّدَةُ الكُلِّيَّةُ المُعبِّرَةُ عنْ رَفْضِ الوَاقِعِ ، وَالمُعْجَمُ الوِجْدانِيُّ ، وَثَوَرَاتُ الشُّعورِ، وَتنبُعُ أهميَّتُهَا التَّاريخيَّةُ منْ إنْجَازهَا الشِّعرَ خَارِجِ العَرُوضِ ، وَفَصْلِ الشِّعرِ عَنْ النَّظمِ ، وَهُوَ مَا أسَّسَ مَعَالمَ مَشْهَدٍ شِعريٍّ آخَر، تَحَوَّلَ ، بتحوُّلاتِ الوَعْي ، عِدَّةَ تحوُّلاتٍ شِعريَّةٍ ، في مَسَارِهِ التَّاريخِيِّ ، عَبْرَ أكثَرِ منْ مِئَةِ عَامٍ قبْلَ الآنَ .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.