عندما عبر عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين عن قضية الانتحال في كتابه الشعر الجاهلي، قال معبراً عن ذلك: «إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليس من الجاهلية في شيء وإنما هي مخولة بعد مرور الإسلام فهي تمثل حياة المسلمين وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهلى» ثم ذكر بعد ذلك الأسباب التي دفعته إلى الشك في الشعر الجاهلى، وكان وقتها شاباً فى بداية مسيرته العلمية النشطة، وظلت هذه القضية ومازالت، أرض معركة فكرية مترامية الأطراف، وبغض النظر عن صحة أو خطأ ما توصل إليه العميد، يبقى الشكر واجباً له لأنه أعمل عقله وأجبر آخرين على إعمال عقولهم فى وقت كاد فيه باب الاجتهاد أن يغلق. أما في هذه الأيام فقد قلت المعارك بين النصوص، ربما بسبب تسطيح الفكر، أو بسبب اتساع دائرة المعرفة التكنولوجية من خلال الشبكة العنكبوتية و كثرة المواقع الأدبية واستسهال الاعتماد عليها، لكن من الأمور المبشرة بالخير أن نكتشف أن بعض أحفاد طه حسين ما زالوا يبحثون و يمحصون فى كل ما يصل إلى أياديهم. من تلك الاجتهادات الرسالة التى تقدم بها الباحث أحمد اسماعيل عبد الرحمن لنيل درجة الماجستير فى كلية دار العلوم، تحت عنوان «شعر جبران خليل جبران دراسة أسلوبية» وتحت إشراف الدكاترة أحمد عبد الحى يوسف ومحمد السيد الدسوقى، كما قام كل من الدكتور محمد حسن عبد الله والدكتور مصطفى أبو شارب بمناقشتها مع الباحث، ومنحه درجته العلمية بناء على الرسالة المقدمة منه والتى تناول فيها شعر جبران العروضى والنثرى، وتتضمن الرسالة فصلاً تمهيدياً يتناول ماهية الأسلوب عند العرب والغرب، ثم يليه فصل يتكلم عن الصورة الشعرية عند جبران وفرادتها، ثم فصل مخصص للرمز الشعرى ودلالات هذه الرموز وفصل آخر عن الموسيقى الشعرية، وأخيراً يختم الباحث رسالته بفصل تحت عنوان «لزوم ما يلزم» قراءة تصحيحية لشعر جبران، وهو ما يعتبر أهم ما جاء فى الرسالة، حيث يخبرنا الباحث فى هذا الفصل، أن جل ما قرأناه لجبران خليل جبران الشاعر اللبنانى الكبير وربما حفظناه ومر عليه أكثر من ستة عشر عاما و ترجم إلى كل لغات العالم هو شعر منحول عليه وموضوع، ليقول لنا: يا قراء جبران انتبهوا. وكما نعلم جميعاً شاعرنا هو جبران خليل جبران الفيلسوف والشاعر اللبناني من شعراء المهجر، حيث هاجر صبيا برفقة عائلته الى الولاياتالمتحدةالأمريكية، درس الفن وبدأ مشواره الأدبي مبكراً، واشتهر عند العالم الغربي بكتابه الذي تم نشره سنة 1923 وهو كتاب «النبي» وعرف جبران بالشاعر الأكثر مبيعًا بعد شكسبير. يقول الباحث أحمد اسماعيل فى مقدمة رسالته: مع أول قراءة لأعمال «جبران» قلت فى نفسى: محال أن يكون شعر»جبران» هو هذا المجموع فى أعماله الكاملة التى جمعها «مخائيل نعيمة» أو «أنطوان القوال»، وبدأت أفكر فى عمل ترجمة لجبران من خلال شعره قبل أن أقرأ قراءة تفصيلية عن حياته، وبدأت بالفعل أرى حقائق ليست موجودة فى سير «جبران»، حتى بدا لى أن أقارن بين صورة «جبران» عند من ترجموا له، وبين ما اكتشفت كنهه، فكانت المفاجأة بأن الصورتين لم تتطابقا إلا فيما ندر. ومن أغرب ما صادف الباحث حسبما يذكر أنه تبين له أن صاحبنا لم يأت «مصر» رغم أن الشعر الذى جاء فى دواوينه يصرح دون شك أنه زار «مصر»، ومدح «الخديو»، بل ما ترك مناسبة للخديو إلا وذكرها فى شعره. هَذَا جنَاهُ «القوال» عليَّ وَمَا جَنِيْتُ عَلَى أَحَدِ بهذا التحريف الاضطرارى لبيت «أبى العلاء» ابتدأ الباحث كلامه عن أغلاط محقق ديوان جبران «أنطوان القوال» وهو واحد من المهتمين بأدب جبران والذى جمع الأعمال الكاملة له ونشرتها دار الجيل بيروت، ليبين الفخ الذى نصبه القوال للقراء، ويؤكد الباحث أن «أنطوان القوال» لم يشر إلى أن قصائد كثيرة ل «جبران» مثل التى تبدأ ب «إذا الليل أخفانى»، «شهدنا الغم»، «مات أهلى»، «أنا»، «تحت رسمى»، «الصوفى» غير معنونة وأنه هو واضع العنوان»، ويضيف: نحن نعرف الخطر الذى يلحق النص جراء التعدى على حرمته خاصة أثناء التحليل «السيمولوجى» لعناوين النصوص، باعتبار أن العنوان عتبة لفهم النص والولوج إلى أعماق الشاعر،كما أنه يحمل فى تركيبته اللغوية سمة أسلوبية. وأكد أن «أنطوان القوال» أغفل ذكر عدة أبيات من قصيدة «إذا الليل أخفانى «وهذه الأبيات موجودة فى مذكرات «هيلانة غسطين» وأرخت لها فى «مايو» عام 1924م، كما يوجد بها بعض الاختلافات عن القصيدة التى عرضها القوال فى جمعه للديوان وهذه من الأمور التى من الواجب أن يراعيها المحقق الحاذق ونلحظ فى هذه القصيدة أن «جبران» يتناص مع الشاعر العباسى «أبى فراس الحمدانى» فى قصيدته الشهيرة «أراك عصى الدمع شيمتك الصبر» فى الغرض والإيقاع الخارجى والداخلى، كما أن الشيات والظلال النفسية واحدة، ولم تظهر هذه القصيدة، بهذه الصورة، فى الأوراق التى ظهرت بعد وفاته،والتى اعتمد عليها «القوال» فى جمعه المزعوم للديوان، وهذا يبين أنه قد اجرى بعض التعديلات عليها ولقد أثبت القصيدة المثبتة فى أوراق «هيلانة غسطين» نظرا لأنها مكتملة مبنى ومعنى، واعتبرت القصيدة التى أثبتها أ/القوال رواية أخرى للقصيدة،وألحقتها بالملاحق فى آخر البحث. كما أكد أن القصيدة التى عنون لها القوال كذلك! باسم «يا قلبى» يبدو أنها كانت مسودة أولية لموشحته التى عنونها «جبران» «فى البدائع والطرائف» باسم «بالله يا قلبى» وأوهمنا محقق وجامع الديوان أنهما قصيدتان مختلفتان. أما القصيدة التى ذكرها «أنطوان القوال» بعنوان «اسمعينى» وهى من بحر الخفيف فمع ذكره أنها كتبت مشاركة بين «جبران، وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد « إلا أنه بوضعها فى الفهرس أوهم أنها قصيدة لشاعرنا، وكان ينبغى عليه أن يضعها فى «الملاحق»، ورغم أن القوال يدرك ذلك جيدا إلا أنه يضعها فى الديوان ثم جاءت باحثة (حاصلة على درجة الماجستير) واعتمدت عليها فى دراستها الاحصائية فأتت بالعجائب دون أن يلتفت لذلك أستاذ مناقش أو مشرف! كذلك فى القصيدة التى عنونها «القوال» ب «شهدنا الغم» ص37 هى جزء من مسودة لقصيدة «البلاد المحجوبة» فالاختلاف فى الشطر الثانى من البيت الثانى فى قوله «فوق متنيه كعقبان وبوم» فهل تستحق بعد ذلك أن تسمى قصيدة أم نستخدمها على أقصى تقدير على أنها رواية مختلفة للبيت. ويذكر الباحث احمد اسماعيل ان «القوال» فعل نفس الشئ فى هذين البيتين ألا يامستعير الكتب دعني... فإن إعارتي للكتب عارُ وجدت كتابي في الدنيا حبيبي... حبيبي لا يُباع ولا يُعارُ فهما أيضا من الأبيات التى نحلها «أنطوان القوال»، فلقد وجدهما أعلى إحدى أغلفة دفاتر «جبران»، فظن أنهما له،ولم يفكر فى التأكد من صحة نسبة البيتين ل «جبران»، وادعى بعض الباحثين أن هذين البيتين لشاعر يدعى «محمد بن خليفة التونسى، ولكن الباحث لم يركن كذلك إلى هذه النسبة ففتش عنها فى دواوين الشعر حتى تبين له أنهما موجودان فى كتب التراث وغالبا ما يذكرا فى باب الاستعارة، ويوجد مخطوط بذلك وخطأ «القوال» هذا يعزى فى الأصل للباحث «دايه» والصحيح أن جبران تمثل بهذين البيتين ولم يؤلفهما. ولم تسلم أعمال «جبران» كذلك من التحريف فنسب إليه القوال «موشحة» عنونها هو كعادته ب « ألقيت دلوى» تشبه إحدى مقطوعاته الصغيرة وهى مقطوعة «الشهرة»، والصحيح أنها مقطوعة من قصيدة ل «ميخائيل نعيمة» بعنوان «أنشودة» تظهر فيها روحه وهى روح ملفوفة بالأمل، الممزوج بالشجن والشك فى كنه الحياة، والواضح منها أن «نعيمة» كان يقلد النهج الشعرى ل «جبران» فى هذه القصيدة، فالشكل الخارجى للقصيدة والمعنى النفسى والفكرى واحد. يتضح ذلك من عقد مقارنة بسيطة بين القصيدتين. كذلك أثبت الباحث أن اعتماد القوال على تحقيق «هنرى زغيب» كان خاطئا فى نسبة مقطوعة من الزجل لجبران معتمدا فيها على رجل يدعى أبو عقيل كان عمره أثناء حديث زغيب 75 سنة ويحكى له عن أشياء جرت أيام الطفولة ومنها هذه الزجلية، حينما كان يجمع أخبار جبران لمدة ست سنوات بأمريكا. كذلك فعل «القوال» مع قصيدة «طرب الفؤاد» فهى ليست «لجبران» وإنما هى لشاعر عباسى يدعى «محمد بن صالح العلوى» والسبب الذى جعله ينسب هذه القصيدة لجبران أنه وجدها بخط يده فظن أنها له ولم يثقل كاهله فى البحث عن صاحبها، وليست كل قصيدة يكتبها شاعر بخط يده هى له والقصيدة موجودة فى ديوان «محمد بن صالح العلوى، وكثيرا ما استوقفت النقاد وأهل الأدب، وقالوا: أنها كانت السبب فى خلاصه من السجن، إذ سعى بعض أصدقائه من المقربين إلى المتوكل إلى حمل (بنان) على التغنى بها فى مجلس «المتوكل» ،فلما سمعها استحسن الشعر وسأل عن قائلها، فوجد هؤلاء مناسبة للكلام فى أمره والتوسط له. كذلك فعل القوال فى بيتين عنونهما بعنوان «قل لإخوان» وهذين البيتين هما من آخر ما حقق الباحث أحمد اسماعيل من شعر جبران» وكان اسم المرجع المعتمد عليه وهو «ميشال جبور الخورى» يمنع الباحث من الشك من نسبتهما لصاحبنا حسبما يقول، ولكنه قرأهما أكثر من مرة ولم يجد روح جبران فيهما فقرر أن يبحث عنهما مرة، حتى تبين له أنهما ليسا لجبران وإنما للإمام «الغزالى» كما قال «الزبيدى» فى شرح «الإحياء»،وقيل ل «على بن خليل المسفر السبتى» كما اورد الزركلى فى الأعلام وسبقه ابن عربي في «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار» . ولم تكن هذه أواخر الأمور التى وقع عليها سمع وبصر الباحث أثناء محاولته الإلمام بشعر «جبران، فجريدة الاهرام فى باب قرائها تسند قصيدة لمطران بعنوان مسرحية لجبران، والطريف، كذلك!، أن دارا للنشر تسمى «الأندلس» نشرت مختارات من تلك القصائد على أنها نصوص لصاحبنا وهى أيضا فى مجموعها قصائد لمطران مذيلة ببعض أعمال «جبران» الموجودة فى كتابه «البدائع والطرائف». ولم تكن هذه الخطوة هى الأخيرة فلقد همت دار أخرى تسمى « الحرية « بنشر أعمال «جبران»، ولكن ما إن تفتح هذا الديوان حتى تكتشف أن كل قصائده هى قصائد مطران، كذلك فعلت دار»فاروس»المصرية ،كذلك نشرت «دار صفا» هى أيضا ديوان جبران ،والطريف أن هذا الديوان به قصيدة رثاء طويلة كتبها مطران وأنشدت فى حفل وطنى ببيروت لنقل جثمان «جبران خليل جبران»: إلى الضريح القومى الذى شيد له فى «بشرى» مسقط رأسه. ثم يوضح الباحث أن أعمال جبران الشعرية طبعة دار «فاروس» مأخوذة من ديوان «خليل مطران» طبعة دار الجيل ،و أن جامع الديوان قد اعتمد على الموسوعة العالمية للشعر ونقل ما نقل على أنه شعر صاحبنا ووقع فى هذا الإثم الأدبى. أما خاتمة الأثام حسب ما يرى الباحث، فهو موقع أدب «الموسوعة العالمية للشعر» والذى اعتمدته «الموسوعة الشاملة»!فنسب إلي شاعرنا 1148 قصيدة فقط ليست له!، وإنما جلها ل «خليل مطران» شاعر القطرين، وربما كان سبب الوقوع فى الخطأ هو تقارب اسمى الشاعرين ! ويكمن خطر خطيئة هذا الموقع أنه مرجع بالنسبة لكثير من دارسى الشعر العربى وذائقيه ،ولعل الأستاذ الجامعى الذى لا يشك فى سعة علمه وثقافته، قد ركن إلى هذا الموقع فأورد ما أورد. وأظن ظنا أن دور النشر التى جمعت ما يسمى «الأعمال الشعرية «لجبران» قد ركنت هى أيضا لما هو مبثوث فى هذا الموقع بل إن هناك مواقع كثيرة نقلت هذا الإثم الصراح خدمة للشعر والثقافة العربيين. يبدو أن المواقع الأدبية لم تكن هى الجانى الوحيد على «مطران» وعلى صاحبنا كذلك، بل كذلك القراء المبجلون فلو تتبعنا نسبة القراءة للقصائد لوجدنا القصائد المنسوبة لصاحبنا تربو على نسبة كبيرة قد تتخطى الخمسين ألف قارئ، أما قصائد «مطران»، وهى له، لا تربو فى كثير منها على خمسة آلاف قارئ. وفى النهاية يؤكد الباحث أن خطر نسبة هذه الأبيات والقصائد لصاحبنا يرجع إلى أن الدراسات التى تعتمد الإحصاء مثل «الأسلوبية» و«البنيوية» يؤثر البيت بل الشطرة، بل اللفظة فى نتائجها بدون أدنى مبالغة، ويضيف: هذا يجعلنى أقرر دون مواربة فى الحكم بأن كل الإحصاءات التى قامت على شعر «جبران» العروضى كلها قد طاش بها ميزاننا بعد تحقيقى لشعر صاحبنا، وهنا تكمن النقمة على مثل هذه الأعمال رغم الجهد الكبير المبذول فيها،وتبين بما لا يدع مجالا للشك مدى العبث الذى يحيط بثقافتنا العربية، وتجعلنا نتساءل هل لنا أن نثق ثقة عمياء فى مثل هذه الأعمال كما يفعل الكثير، ثم انتهى الباحث بوضع جدول للنصوص الصحيحة، من وجهة نظره، والتى يجب الاعتماد عليها فى دراسة شعر جبران.