جريمة الإرهاب الغادر التى أودت بحياة جنودنا فى سيناء تمثل لحظة (كاشفة) عن مجموعة حقائق علينا أن نجعل منها لحظة (مكاشفةة) ضرورية. أول ما يكشف عنه هذا الحادث الإرهابى الغادر أنه برغم ما أصابنا من وجع وذهول وغضب فهو يوحّدنا، ويطوى خلافاتنا، ويجلو وعينا الوطني. لكن هل نُحسن توظيف لحظة الألم الذى وحّدنا لنزداد توحداً والتحاماً أم أن البعض سيفسد علينا هذه اللحظة بتحريضه على سكان جزء غال من ارض الوطن لنزداد تشتتاً وانقساماً؟ على أى حال قد لا تكون اللحظة التى نعيشها هى الأنسب للانشغال بتصنيف ردود فعل المصريين على ما حدث فى سيناء. ثمة انشغال أكبر وأسمى يجب أن ينصرف إليه فكرنا وجهدنا وهو البناء على هذا الالتفاف الوطنى والمضى به قدماً إلى الامام. إن أقل ما يجب علينا فعله اليوم هو احترام هذا الدم الطاهر لجنودنا وهو يقدم نفسه فداء لمشروع وطنى جامع. لم يعد سراً ما يقوم به الآخرون من سعيٍ محموم لمحاصرة الدولة المصرية وإرباكها. فمن هم هؤلاء الآخرون؟ لندع للجهات المختصة أن تقول كلمتها فى هذا الأمر. لكن ما بوسعنا استنتاجه بحكم المنطق أن هناك تقاطعاً لمحور شر إقليمى جديد يتربص بالدولة المصرية ويتوجس من بعض أدوارها الجديدة فى ملفات لا تخفى على احد. فالدور المصرى فى ليبيا الشقيقة الجارة يبدو مزعجاً لمن أعطوا لأنفسهم دائماً رخصة ومشروعية واحتكار التدخل فى الشأن العربي، خصوصاً إذا كان ذلك فى مكان تفوح منه رائحة النفط (!). لم يعد سراً أن هناك محاولات إسرائيلية منذ قيام الدولة الصهيونية نفسها (معلنة أو مستترة او كبالون اختبار) لكى تكون سيناء جزءاً من حل القضية الفلسطينية، وفى الوقت ذاته بؤرة صراع حدودى جديد ينهك الدولة المصرية، مثل كل بؤر الصراع الحدودى الكامن التى ارستها اتفاقية سايكس بيكو. ينسى هؤلاء أن مصر ومعها الصين دولتان لم تتغير حدودهما منذ آلاف السنين وقت أن كان بعض هؤلاء فى الشتات وكان بعضهم الآخر لم يظهر على الساحة الدولية بعد. اللحظة كاشفةٌ اليوم عن محاولة (اختبار) سيناء (لاختيارها) نموذجاً جديداً لتطبيق ما سُميّ بالفوضى الخلّاقة. لم يعد سراً أن التوجهات الوطنية للسياسة الخارجية المصرية المصحوبة بممارسة دور إقليمى ممانع لمحاولات الانفراد الغربى برسم خرائط جديدة للمنطقة، وأن إطلاق بعض المشروعات التنموية المستقلة الكبرى.. كل هذا يوحى لقوى دولية كبرى بأن مصر تحاول استعادة ذاكرة طموحها الوطنى وتطلعها القومي، وهو أمر لن يبدو مريحاً ولا مطمئناً لقوى إقليمية وعالمية ما لبثت أن استراحت منذ رحيل جمال عبدالناصر وتراجع الدور العربى والإقليمى عموماً لمصر.لم يعد سراً أن موقف القوى الدولية الكبرى من مسألة مكافحة الإرهاب لا يخلو من غموض، فحينما يضرب الإرهاب أو يهدد مصالح هذه القوى سرعان ما تُعقد التحالفات وتُشن الحروب. حدث هذا فى الأمس ويحدث اليوم. أما حينما تضرب يد الإرهاب مصالح بلدان أخرى بما فيها مصالح الدول التى خرج الإرهاب من ديارها فإن هذه القوى الكبرى لا تبدى سوى التجاهل وعدم الاكتراث. ها نحن اليوم نتجاوز مرحلة الشكوك إلى مرحلة القرائن على أن أجندات بعض القوى الكبرى لا تتردد فى توظيف الإرهاب لتحقيق أهدافها وخلخلة أنظمة عربية. يستوى أن يتم هذا التوظيف بطريق الاتفاق أو التوافق أو الصمت وكلها مستويات لتقاطع المصالح بين الإرهاب والأطراف المستفيدة منه. أستدعى من الذاكرة موقفاً لافتاً للوفد الأمريكى والوفود الغربية خلال المفاوضات التى أسفرت عن إبرام اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية عام 2000 فى فيينا عاصمة النمسا. يومها كانت مصر ومعها بعض الدول الأخرى تطالب بأن تنص الاتفاقية على اعتبار الإرهاب من الجرائم المنظمة العابرة للحدود التى تسرى عليها أحكام الاتفاقية لاسيّما ما يتعلق منها بالمساعدة القانونية المتبادلة وتسليم المجرمين. كانت المفاجأة آنذاك أن الوفد الأمريكى قاد معارضة ضروسا ضد المقترح المصري. تأسست فكرتنا وقد كنت عضواً فى الوفد المصرى على أن الإرهاب صورة من صور الجريمة المنظمة يستجمع كل الأركان والعناصر اللازمة لقيام هذه الجريمة، ويستوفى خصائصها، وينطوى على نفس درجة خطورتها وربما أكثر. لكن ظل الرفض الأمريكى والغربى قائماً. كانت الحجة الأمريكية المطروحة آنذاك أن قضية الإرهاب قضية سياسية يمكن معالجتها فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك، أما هذه الاتفاقية التى تتم مناقشتها فى فيينا فهى اتفاقية قانونية ذات طابع فنى لا يجب إقحام السياسة فيها (!). هكذا كان الوفد الأمريكى يعتبر الإرهاب يوماً ما موقفاً سياسياً وليس جريمة منظمة عابرة للحدود حين كان هذا الارهاب بعيداً عن ضرب او تهديد المصالح الأمريكية. ثم كان الحل الوسط الوحيد المتاح الذى حظى بتوافق الدول المشاركة فى المفاوضات هو الإشارة فى ديباجة الاتفاقية (وليس فى صلب موادها) إلى التعبير عن القلق البالغ من الصلات المتنامية بين الجريمة المنظمة والجرائم الإرهابية مع الأخذ فى الحسبان ما ينص عليه ميثاق الأممالمتحدة . وهو تعبير خجول لا يتناسب مع خطورة الأمر. كانت المفارقة انه بعد ذلك بشهور وقع الحادث الإرهابى المروّع بتفجيرات نيويورك فى 11 سبتمبر 2001. وكان من الطبيعى أن يتحوّل الموقف الأمريكى من قضية الإرهاب ولو مؤقتاً. لكن المفاجأة أن الموقف الأمريكى قد تحوّل بالفعل ولكن على المستوى السياسى وبشكل انفرادي، وهو ما أتاح لأمريكا باسم مكافحة الارهاب التدخل العسكرى فى العراق وليبيا وسوريا، ولا ندرى غداً فى أرض عربية اخرى يكون. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم