قليلة هى الكلمات التى يمكن أن تضمد جراح المرضى وتجفف دموع الثكالى ونحيب الأرامل وتوقف صراخ اليتامي، وتذهب بمرارة الفقد وألم الوداع. كل يوم نودع شهداء لنا من الساهرين على أمن الوطن بالجيش والشرطة.. الشهداء يزفون إلى مثواهم الأخير، ويبقى الحزن والألم ليعتصر قلوب آبائهم وأزواجهم وذويهم.. وإذا كان الموت هو أعظم مصيبة يبتلى بها المرء، فالأعظم منها أن يقع برصاص الغدر والخيانة والعمالة. إنها الشدائد تختبر دائما المؤمنين، تصيبهم فتبتليهم، لكن بشريات عظيمة تنتظرهم فى النهاية لقاء صبرهم واحتساب مصابهم عند الله عز وجل. هذه البشريات يستهلها الدكتور محمود مهنا عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر بالتأكيد على أن الذين يسهرون ليلهم ويُظمئون نهارهم من أجل الحفاظ على أرواح العباد وحماية الأوطان، حينما يقتلون على هذه الحالة يكونون من الشهداء، وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد بين أن من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد، فإن شهداء سيناء انطبقت عليهم كل هذه الحالات، لأنهم يدافعون عن الأوطان وما بها من أموال وأنفس وأعراض. شهداء وليسوا أمواتا وحُق لهؤلاء، ومن على شاكلتهم من جنودنا البواسل الذين تركوا بيوتهم ومتاعهم وكل شيء فى سبيل الدفاع عن الوطن، أن يندرجوا فيمن ذكرهم القرآن الكريم فى قوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يحزنون.وفى قوله أيضا ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فليس أكثر شرفا لأهالى هؤلاء الأبرياء من أن أبناءهم استشهدوا بإذن الله تعالي، والشهداء كرمهم الله تعالى بأن أطلق عليهم شهداء وليس أموات واعتبرهم أحياء وإن زهقت أرواحهم، فقال تعالي:ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون. وليعلم أهالى الشهداء أن أبناءهم فى حواصل طير خضر يمرحون فى الجنة وفى باطن هذه الطيور ذهب ولؤلؤ يتمتعون داخل أمعدة الطيور فيقول الله لهم: هل تطلبون شيئا يا عبادي، فيقولون: وماذا نطلب ربنا بعد هذا النعيم الذى نحن فيه! وأضاف مهنا محذرا آباء وأمهات الشهداء: إياكم أن تحزنوا، فلكم البشرى جميعا ولأبنائكم، وكفاكم شرفا وفخرا أنكم أنجبتم هؤلاء الأبطال، ولعله ينالكم شفاعة منهم يوم القيامة، فقد ثبت أن الشهيد يشفع يوم القيامة فى سبعين من أهل بيته، فهنيئا لمن كان له شفيع. وإذا كان الأعرابى قد قال لعبد الله بن العباس معزيا إياه فى وفاة والده: كن صابرا نكن بك صابرين، فإنا نقول لكم آباء وأمهات الشهداء: تصبروا نكن بكم صابرين. الشكر والصبر الدكتور جاد مخلوف جاد الأستاذ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة يقول: الحياة لا تخلو من متاعب ومصائب، فرح وحزن، اجتماع وفرقة، قوة وضعف، وهكذا تكون الدنيا، لكن الواجب على المسلم فى كل حال أن يحمد الله عز وجل على النعمة والخير، ويصبر على البلاء والشر، فقال صلى الله عليه وسلم عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.. وأوضح د. جاد أن الصبر فضيلة لا تتحقق إلا فى المؤمنين الأقوياء الواثقين بالله عز وجل، وهوأنواع، فهناك الصبر على الطاعة، والصبر على المعصية، والصبر على الأقدار المؤلمة، والواجب على المسلم أن يسلم أمره كله لله وأن يعلم أنه لا يحدث شيء فى كون الله إلا بقدر الله وقضائه، فالمسلم الحق هو من استسلم وانقاد للقضاء والقدر على غير اعتراض, وأن يوطن نفسه دائما لأى نوع من انواع الابتلاء، فقال تعالي: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ..وأن يوقن بما أعده الله للصابرين فى قوله وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.وأى جزاء أعظم أجرا للعبد عند الله من الصبر، فعطاء الله للصابرين لا حدود له. وليعلم المبتلون ممن فقدوا أولادهم أو أزواجهم، أو إخوانهم جراء الانفجارات أو الاغتيالات الإرهابية الغاشمة.. أن من كتب الله عليه الموت سيموت وإن كان فى فراشه صحيحا معافي، فالأجل ثابت لا يتغير ولا يتبدل، مهما تنوعت أسبابه وهانت من وجهة نظرنا، فالموت وحده سبب للموت، والله تعالى يقول: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة ومن ثم فليس للمسلم أن يقابل الابتلاء بالجزع والوهن، كأن يلوم الأقدار، فيقول لولا كذا لكان كذا، وغير ذلك مما يغضب الله عز وجل، حتى لا يجمع على نفسه مصيبتين: مصيبة الدنيا (بفقد الولد أو العزيز)، ومصيبة الآخرة بالحرمان من الأجر والثواب. وعلى المسلم أن يتغلب على مصيبته بتذكر موعود الله له يوم القيامة، ولعل من البشريات التى تنتظر الصابر على فقد ولده: بيت الحمد الذى أعده الله له يوم القيامة، فقد ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :(إذا مات ولد العبد، قال الله عز وجل لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم؛ فيقول وهو أعلم: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم.فيقول:ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله عز وجل: ابنوا لعبدى بيتاً فى الجنة وسمّوه بيت الحمد). فماذا عن بيت يبنيه الخالق عز وجل، وأى مكافأة أعظم من ذلك! تذكر النعم وقت الشدة وعلى العبد فى أحلك لحظات الشدة والألم أن يتذكر عطاء الله له ونعمه فذلك يهون عليه مصابه، وقد ورد أن أحد الصالحين قطعت ساقه، ولما عاد إلى البيت وجد أحد أبنائه خرج للصحراء فأكله الذئب، فقال يارب سبحانك، إن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وتذكر باقى نعم الله عليه من معافاة ولده الآخرين ورجله غير المصابة، فما أعظمه من انقياد وتسليم لأمر الله، وصبر على بلائه. ويوضح الدكتور زكى محمد عثمان أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر:أنه ليست هناك مصيبة أعظم بعد الدين من مصيبة الموت، لكن لابد ألا ننسى دائما أن النبى صلى الله عليه وسلم قد مات.. فتلك أعظم مصيبة ابتليت بها الأمة وفى ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بى فإنها من أعظم المصائب. ومما يكشف الكرب ويزيل الهم التعلق بالله عز وجل والتضرع إليه وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فى هذا الموقف. فبذلك تقر الأعين, وتسكن القلوب وتطمئن الجوارح، وأن يحرص دائما على الاسترجاع عند المصيبة أى قول إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، فإذا ما أيقن العبد معنى الاسترجاع وأدرك أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل اطمأن قلبه إلى قضاء الله وقدره.