أرجو ألا يفهم القارئ من عنوان مقالى هذا أننى أقصد إلى الإيحاء بتلمس الأعذار لأولئك الطلاب الذين يخرجون على نظام الجامعة , ويعيثون فى ارجائها فسادا وتخريبا، ويتركون قاعات التعلم والدرس الى هذه التجمعات التى لا يسمع العاقل منها إلا أصواتا منكرة، فانا ممن يؤمنون بألا تهاون مع هؤلاء الطلاب ووجوب اخذهم بالحزم الشديد فهم قلة مفسدة تسيء إلى الكثرة الغالبة من الطلاب المنتظمين حتى لو بلغ العقاب حد الفصل النهائى من التعليم، سواء أكانوا من طلاب الأزهر ام من طلاب الجامعات المصرية الأخرى. غير انى اخص الطالب الأزهرى بمقالى لان العنف فى جامعة الأزهر كان اشد، والعناد من هذه الفئة الخارجة كان أمعن فى اللدد وفى الإلحاح على الصدام. ولسبب اخراهم وهو ان الطالب الأزهرى كان هو المنتظر منه ان يقف من الاحداث موقف الداعى الى السلام والاستقرار، وان يكون هو الذى يفهم الدين فهما واعيا بصيرا، فإذا بأمر هذه الفئة من الطلاب يأتى على العكس ويصبحون هم قدوة الشياطين لا قدوة المؤمنين. أما الذى أردته بعنوان مقالى فهو أن ألفت الأنظار إلى أصل الداء، فمهما اتخذنا من إجراءات الانضباط والحزم الامنى فسوف يتكرر المشهد، وسوف يتسع كلما تكرر مالم نتقص أسباب الانحراف لنجتث الجذور، لا لنسكن الاعراض، وسوف اتناول هنا سببا واحدا من الاسباب وهو الشخصية المعرفية التى كونتها مقررات التعايم فى وجدان هؤلاء الطلاب وعقولهم، فأكثر هؤلاء الطلاب من الريف واولياء امورهم من المتدينين الذين تمنوا ان يروا ابناءهم من علماء الدين وحين يلتحق هؤلاء الطلاب بالمعاهد الدينية الازهرية، كانوا يتلقون مقررات فى الفقة كل على حسب مذهبه ومقررات فى التوحيد والتفسير والحديث والنحو والصرف واللغة وبجانبها ما أضيف اليها من مقررات المواد العلمية والادبية التى يدرسها إخوانهم فى مدارس التعليم المدنى وكان الطالب يدرس ذلك كله بطريقة الحشو والحفظ والاستظهار لا بطريقة التفكير والمناقشة والاستنتاج، ثم هو طوال سنوات دراسته يدرس ابوابا من العلم الدينى لا يجد لها فى الحياة تطبيقا واقعا وقاعدة التعلم ان الانسان يتعلم ما يمارسه ويمارس ما تعلمه، فإذا انفصل التعلم عن الممارسة احس المتعلم بالهامشية فى الحياة الاجتماعية وان تعبه فى تحصيل هذا العلم ما هو الا: تعب غير نافع واجتهاد/ لا يؤدى الى غناء اجتهاد. كما يقول ابو العلاء المعرى. فهو يدرس من بين ما يدرس «باب العتق» وأحكام العبيد والجوارى وأم الولد, وان من يملك جارية او عدة جوار ملك يمين يحق له ان يستمتع بهن ما شاء الاستمتاع, وان الرجم حد الزانى المحصن, والجلد والتغريب حد الزانى غير المحصن, وان قاذف العرض حده ثمانون جلدة, وشارب الخمر أربعون, وان السارق تقطع يده اليمنى, وان المرتد يقتل بعد ان يستتاب ثلاثة أيام, وان من هشم انفا تهشم انفه, ومن فقأ عينا تفقأ عينه, يدرس الطالب هذا صباحا فى قاعة الدرس ويدرسه مساء فى الكتب المقررة اذا عاد الى بيته، فإذا ترك الدرس والكتاب وخرج الى دنيا الناس لم يجد شيئا مما درسه مطبقا بل لا يراه موجودا أصلا، فلا عبيد ولا جوارى ولا رجم ولا جلد ولا قطع ولا تغريب بعد ان صاغت تلك الكتب عقله ووجدانه ونقلته الى عالم والى عصر قد اندثرا فيعيش فيهما مفارقا عالمه وعصره اللذين فيهما يحيا فينتظر الطالب ان يشرح له احد من اساتذته اسباب هذا الموقف المتناقض بين حياته العلمية وحياته العملية فلا يجيبه أحد، وينتظر ان يشرح له كتاب او مقال حقيقة التطور التاريخى، أو التغيرات التى جرت على أرض الواقع فحالت بين بعض الحدود المنصوص عليها وبين التطبيق فلا يعثر على شىء من ذلك. وتزداد محنة الطالب الأزهرى بدعاة التطرف الذين يدعونه، اليهم ليقيموا له الدولة الإسلامية، ويعيدوا إليه عصر الخلافة ويوهمونه إن له فى تلك الدولة المنتظرة مكانا مرموقا وان علمه سوف يتوافق مع دنيا الناس حينذاك, انستغرب بعد هذا ان يكون بين طلاب الأزهر فئة يستغويها العزف على تلك الانغام المشئومة ولا تستطيع مقاومة الاغراء؟! وهل يكون عجيبا ان يتشبثوا بتلك الدعوات المتطرفة التى تستخدمهم لبلوغ مطامحها؟! الا يطيع هؤلاء الشباب ما يامرهم به المحرضون الماكرون ولا يطيعون اساتذتهم فى الجامعة؟! وكيف يطيعون أساتذتهم وهم كانواالملقنين الذين لقنوهم ما فى تلك الكتب القديمة ولم يجيبوا عن تساؤلاتهم الطبيعية؟! وكيف تتحقق تلك الطاعة اذا كان من بين أساتذتهم أخرون يحرضونهم على التمرد والخروج على نظام الدولة وعلى نظام الجامعة، أو يغضون عنهم الطرف وهم راضون عما يفعلون؟! وقد أحسنت إدارة المعاهد الازهرية ومديرها الجديد حين اشرف على لجنة تعديل المناهج وتنقيتها من تلك الابواب التى تؤدى إلى الانقسام النفسى والفكرى للطالب فتسول له نفسه الاندفاع الى الجماعات المتطرفة والإرهابية . لابد أن نحل مشكلة التناقضات التربوية التى يعانى منها المجتمع كله فى ميادين عدة حلا جذريا، قائما على العلم لا على الخطب والشعارات قبل ان ينفجر البركان وهاهوذا قد تطاير من جوفه الشرر، وإنه لنذير مبين . لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل