ظل عشق نجيب محفوظ لحي الجمالية يلازمه علي امتداد حياته منذ أن خرج إلي الدنيا في جنباته، وتنفس من أجوائه العبقة خلال سنوات صباه، وكانت كلماته دائما عنه «هذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل أنت تستنشقها من دون ملل» ورغم انتقاله من الحي، فإن عشقه القديم ظل يراوده، حتي أنه في آخر أيامه، كان يطلب من أحبائه اصطحابه في جولة بالسيارة قرب الحي، ومن فوق كوبري الأزهر تقف السيارة ليملي ناظره من الحي، ويتنفس من هوائه ثم يعود إلي منزله في حي العجوزة. والحي العريق بكل ما يضمه من كنوز وتراث، مازال يقاوم ضربات الزمن بعد أن هاجمته الشيخوخة لعمره الذي يقترب من الألف عام، وكانت مصر قد نجحت في إنقاذ شارع «المعز» في قلب القاهرة الفاطمية وتحويله إلي متحف مفتوح في مرحلة أولي لتطوير حي الجمالية بأكمله.. ثم كانت المهمة الكبري في مرحلة ثانية لإنقاذ شارع الجمالية في قلب القاهرة الفاطمية التي تضم الأزهر الشريف وجامع الحاكم بأمر الله، وأسوار القاهرة العريقة، وبواباتها التاريخية، ومدارسها الأيوبية والمملوكية، وخان الخليلي، والصاغة، والنحاسين، وغيرها من كنوز تمثل قيمة تاريخية وأثرية، عمرها من عمر الزمان. وكانت المرحلة الثانية من مشروع التطوير الحضاري للجمالية قد بدأت منذ سنوات كما يشرح محمد عبد العزيز مدير تطوير القاهرة التاريخية، باستكمال شارع المعز من مجموعة قلاوون حتي باب زويلة، وكذلك شارع الجمالية من باب النصر حتي المشهد الحسيني، وجميع الشوارع الجانبية التي تصل بين شارع المعز والجمالية والتي سوف تنتهي تماما في نهاية أكتوبر الحالي وافتتاح أعمال التطوير. ذلك أن شارع الجمالية العجوز يضم بين جنباته وكالة قايتباي بباب النصر، وقبة أحمد القاصد، القبة الفاطمية، وخانقاه بيبرس الجاشنكير وحمام السعداء وخانقاه السعداء، ويضم الشارع العريق الذي سمي باسم الأمير جمال الدين الاستادار منشئ مسجد الاستادار بشارع حبس الرحبة في عصر السطان برقوق أول سلاطين المماليك الجراكسة ويضم مدرسة قراسنقر ووكالة أوده كرباشي ومسجد الأحمدي وأسبلة قيطاس والأمير محمد وأوده باشي وغيرها العديد من الآثار الإسلامية الهامة. وقد كان هذا الشارع طريقا رئيسيا لقوافل السفر إلي السويس وسيناء.. وحدث سنة 1613م أن أرسلت تركيا كتيبة للسفر إلي اليمن، وأثناء مرورها بهذا الشارع فضلوا الإقامة به وأعلنوا العصيان، وأغلقوا منافذ الحي عليهم وبنوا حائطا لقفل شارع التمبكشية، فأرسل الوالي عساكر عمارتهم، لإجبارهم علي فتح الأبواب والجلاء عن الشارع العريق. وقد وفد علي الشارع في أوائل القرن 18 شوام سكنوا الحي وأقاموا معاصر للزيوت ومعامل للصابون وتاجر بعضهم في واردات الشام.. وحتي الآن فإن الجمالية أكثر ما يباع فيها وارد الشام والحجاز وحضرموت. وكان مشروع التطوير الذي قارب علي الانتهاء خلال أيام ينقسم كما تشرح د. شادية محمد بالمنظمات الدولية للآثار إلي التطوير الحضري بتكلفة 30 مليون جنيه ساهم صندوق الإنماء الكويتي بمبلغ 15 مليون جنيه.. ثم هناك مشروع إحلال وتجديد مرافق الجمالية بتكلفة 20 مليون جنيه.. وشملت عمليات التطوير كما يضيف مدير تطوير القاهرة التاريخية استخدام الخامات الطبيعية في تطوير الشارع باستخدام الجرانيت الأسود الأسواني ذي الصلادة العالية والمقاومة للبري، وذلك لتحمل سير السيارات الثقيلة، ورصيف من الجرانيت، وجميع هذه الخامات «محروقة» لمنع انزلاق المارة وذلك لإعداده كمتحف مفتوح.. وكذلك تبليط الشوارع والحارات الجانبية، واستخدام فوانيس للإضاءة، بالإضافة إلي تركيب بوابات تتكون من عوائق إلكترونية علي مداخل الشارع غلقها أثناء النهار لمنع دخول سيارات النقل لإنقاذ الآثار من الذبذبات وعادم السيارات.. وبالنسبة للترميم الأثري فقد تم ترميم 13 أثرا من إجمالي المنشآت الأثرية بالشارع 22 أثرا.. وبقي 9 آثار سوف تطرح للترميم بعد افتتاح الشارع خلال هذا الشهر. وسوف يشهد الزائرون لهذا الشارع العريق آثار الترميم لباب النصر بجوار جامع الحاكم الذي شيده أمير الجيوش بدر الجمالي.. ببرجيه الكبيرين البارزين.. وسوف يشهد أيضا أعمال الترميم التي أنقذت «القبة الفاطمية» أمام خانقاه بيبرس الجاشنكير.. ونجح أيضا الترميم الدقيق في إظهار روعة خانقاه الجاشنكير الذي أنشأها الملك بيبرس 1309م .. بواجهتها الكبيرة التي تنتهي بباب عظيم كسي بالرخام.. ويموج هذا الأثر بالمقرنصات والشبابيك النحاس واستخدام القيشاني الأزرق في التكسية.. والزجاج الملون ويضم هذا الأثر جثمان المنشيء.. وتتوالي الإبداعات في الرحلة داخل الشارع العريق.. ليشهد الزائرون ترميم واجهة حوش علي ومدرسة قراسنقر التي شيدها الأمير قراسنقر 1300م وأمامه مباشرة حمام السعداء الذي أنشأه صلاح الدين الأيوبي 1173م وقد تم ترميم كل محتوياته الخارجية والداخلية.. ثم خانقاه السعداء وكان صلاح الدين الأيوبي قد أوقف هذه الدار للقادمين من بلاد الشام.. وتم أيضا ترميم مدرسة جمال الدين الاستادار والذي أنشأه الأمير جمال الدين سنة 1368م وكانت علي درجة عظيمة من الكمال والجمال بحيث أطلق علي الحي اسم الجمالية. تعظيما للأمير ومدرسته الرائعة.. وتتكون من صحن أوسط مكشوف محاط بأربعة إيوانات.. وعلي رأس درب المسمط يقع مسجد محمود محرم الذي أنشأه «الخواجة« محمود محرم.. وطال الترميم أيضا «باب بيت القاضي» الذي يقع علي مدخل ميدان بيت القاضي حيث كان يسكن الأديب نجيب محفوظ في صباه.. وامتدت عمليات الترميم في الشارع القديم إلي وكالة وقف الحرمين الذي أنشأها الأمير جعفر أغا.. ويموج شارع الجمالية.. وشارع المعز والقاهرة الإسلامية بأكملها «بالأسبلة» التي تقدم شربة الماء إلي عابري السبيل.. وتكاد القاهرة الإسلامية تنفرد بهذا الكم الهائل من «الأسبلة» كمنشآت خيرية لاعتقاد أغنياء مصر وحكامها علي مر التاريخ أن تقديم «شربة ماء» وإرواء العطشان من أعظم الأعمال الخيرية.. ولأن الحسنات تصل إلي يد الخالق مباشرة.. فقد كانت نقطة الماء تقدم في أبهي صورة.. من خلال أسبلة رائعة التصميم والزخارف.. حتي نقطة الماء كان يضاف إليها ماء الورد.. وفي شارع الجمالية وحده «ستة أسبلة» تم ترميم «سبيل قيطاس» أمام خانقاه الجاشنكير وأنشأه الأمير «قيطاس» ويعملوه كتابا لتحفيظ القرآن الكريم ويموج هذا السبيل بالزخرفة بأشكال مختلفة وأرابيسك.. وتم ترميم أيضا سبيل وقف الحرمين الذي أنشأه إبراهيم باشا أدهم ناظر أوقاف الحرمين الشريفين 1856م ويعلوه أيضا كتاب.. ويبقي في سلسلة «الأسبلة» بالذات أربعة أسبلة سوف يبدأ ترميمها بعد افتتاح الشارع.. وهي سبيل أوده باشي، وسبيل الأمير محمد وسبيل أحمد باشا طاهر وسبيل آخر لأوده باشي بشارع باب النصر بجانب خمس منشآت أخري تحت الترميم.