أمر بميدان التحرير فى رحلتى اليومية من بيتى الى مرسمي، وأتعجب كل يوم من هذا الكيان البائس الموضوع فى وسطه ، قال لنا المسؤلون انه مؤقت ، ولكنه فى الحقيقة ليس شيئا مؤقتا ، وانما هو كتلة بائسة لاتليق بأى ميدان ولا بأى شهيد ولو ليوم واحد ، ولا أعرف لماذا نتكاسل ونتردد عند إزالة القبح، بينما نسرع فى هدم التحف المعمارية، ونزيل الكبارى التى لا نستطيع صنع مقطع واحد منها الآن، ونقطع الأشجار المعمرة بمنتهى الإخلاص والبراعة. أتأمل في المقابل بكل إجلال كتلة المجمع ، مجمع التحرير، الذى شيده في 1951 المهندس المصري الفذ محمد كمال إسماعيل ، وهو الذى بنى من بين ما بني ، دار القضاء العالى ومصلحة الشهر العقاري ، وهى صروح حقيقية تليق بدولة تثق بقدرتها على الإدارة . كان هذا في النصف الأول من القرن العشرين ، حيث كانت لدينا نخب نقتخر بها .هذا العقل الراجح منح الميدان شخصيته ، كقلب مدور، وهو المعماري الوحيد الذى تفاعل مع أرض الميدان واحتضن فراغه ، ولم يكن التقوس فى كتلة مجمع التحرير المهولة ، لتأكيد الطبيعة الدائرية للميدان فقط ، ولكنه أراد بالمثل منح هذه البناية الهائلة رشاقة ما وحنانا ، بل وأيضا شيئا من الخفة، كما فرغها من الداخل بهذا الحل الرائع للدرج . وعندما رحل عنا هذا المعماري العبقري سنة 2008 ودعه نفر قليل من أصدقائه وتلاميذه، ولم تنعه الدولة بما يليق بكل ما أعطاه من عقله وروحه وعلمه ، فظل للأسف غائبا عن ذاكرة المصريين . الغريب أن المعمارى الفرنسي مارسيل دورونو الذى بني المتحف المصري سنة 1900 قطع الميدان بخط مستقيم ، وهو الذى يعرف بلا شك ميدان النجمة الباريسي ، وربما عرف أيضا أن ميداننا كان مقدرا له أن يكون على شاكلته مدورا كنجمة تشع طرقها قاطعة العاصمة . ولا أعرف كيف سمحنا أيضا للجامعة الأمريكية بانشاء ذلك المبنى البشع الذى يطل على شارع محمد محمود، والغريب أن المبنى يدير ظهره للميدان بحائط أصم ولا نعرف لماذا، وكأنه تشويه متعمد لمشهد الميدان. المبنى يتنافر حتى مع مباني الجامعة الرشيقة ذات الطابع الشرقي وكانت من املاك الخديو اسماعيل، ثم اشتراه جناكليس ومنه انتقل الى ملكية الجامعة أمريكية ، ورغم أنها امريكية جدا، فإنها جارت عليه وعلى الميدان بقسوة وكأنه أصبح ملطشة للجميع .وكيف سمحنا لفندق الهيلتون بابتلاع مساحة كبيرة من الميدان وتحويلها الى محال تجارية، ويبدو أنه مازال يواصل تغوله الى الآن بعد أن غير أسمه . أشرس أشكال العشوائية، وأكثرها خطرا، هو العشوائية الرسمية، التى تحصل بسهولة على كل أختام النسر وكل التصريحات، فلا غرابة في أن يشارك رئيس الجمهورية المعزول حسني مبارك، فى الاحتفال بافتتاح فندق الفورسيزونس بالإسكندرية ، وهو صرح هائل للاستخفاف بالقانون وبالمدينة بأكملها، صرح لفساد الدولة وتواطئها، ضوء اخضر لهدم ما لا يحب هدمه ، لنعزل ونحجب البحر ونبالغ فى التعدى على كل منطق، وكأن الدولة تريد أن تكافىء الصلف والقبح والتعالى على الجميع. رغم كل هذا ما زال لدينا ميدان ، ميدان واسع ومشرق وحافل بالذكريات ، إنه بيتنا الكبير ، ونقطة تجمعنا الحميمة ، ومكان لهتافنا ودموعنا ولوداع أعز من نحب، وهو مكان لفرحنا واحتفالنا الجماعي ، ولكن لنا الحق فى التشكك والخوف من ابتكارات السادة الوزراء والمحافظين ، ومن وتصوراتهم لمستقبل هذا المكان الاستثنائي، والذى لا يحتل موقعا مهما في ذاكرة المصريين وحدهم، بل وفى ذاكرة العالم كله ، وخاصة أن حكوماتنا تتمع بسجل حافل من الاستخفاف بالميادين كلها، فقد تم سحق ميدان رمسيس وميدان العتبة وميدان الأوبرا، والسيدة عائشة ، وميدان الجيزة وميدان الدقي، وحتى ميدان سفنكس تم الغاؤه ، واخترنا أسوأ الحلول كي نسهل المرور، ولم ننجح ، فهل يلزم أن ندمر أى جمال قاهري ، كى نسمح للسيارات بالسير فوق شوارعنا، كما قتلنا الخنازير وابدنا ثروتنا الداجنة لتفادي الانفلونزا . ما الميدان؟ إنه الفضاء الذى تلتقى فيه المدينة بوصفها بيوتا وشوارع وكتلا معمارية بالمدينة بصفتها البشر والثقافة والسياسة ، ببساطة الميدان هو محصلة لقاء العمارة بالمواطن، في الميدان يصل ابن المدينة الى أعلى درجات الإحساس بالمواطنة ، الميدان ليس فقط صرة لتجمع الطرق والشوارع التى تحتاج دائما الى نقاط عقدية للتعرف على المعالم وللتوقف ، الميدان هو المركز المكاني والوجداني معا ، هوحامل العلامات المحفورة فى ذاكرة الجماعة ، في الميدان ينزع كل مواطن معالم تفرده ليصبح مواطنا، ليصبح ابن هذا البلد ،ولذا فهو مساحة للتعبير وللتفاعل المشترك من منطلق المساواة والتضامن . أرجو ان يفلت التحرير من مصير اخوته من ميادين القاهرة ، فالميدان ميدان الناس قبل كل شىء، وهو قلب مدينة زاخرة بالخبرات والمواهب، حلم أهلها فيه ببناء مستقبل مختلف ، فتحول الى علامة على بداية عصر جديد، لا يمكن اختصاره في نصب تذكارى للشهداء، الذين نضعهم في قلوبنا، فقد استشهدوا لمنحنا مستقبلا آخر، واعتقد أنه من الحكمة أن نحتفظ بالملامح الدالة على هذا الميدان وتاريخه من جهة، وأن نسعى فى المقابل لإبراز مناطق جديدة لقوته وتفرده بكل ما لدينا من خيال وذكاء ، ومن حس عملي أيضا. لمزيد من مقالات عادل السيوى