لم أكن حتى اللحظة التى أعلن فيها اسم الكاتب الفائز بجائرة نوبل للآداب هذا العام أعرف أى شيء عنه. لكنى وجدت نفسى خلال الأيام التى مضت هدفا للصحفيين الشباب الذين اعتبرونى مرجعا فى الأدب الفرنسي، فانهالوا على بتليفوناتهم وأسئلتهم، يريدون أن يعرفوا من يكون باتريك موديانو؟ وماذا قدم من أعمال أدبية؟ وما هو رأيى فى هذه الأعمال؟ وقد شكرت هؤلاء الشباب على حسن الظن وصارحتهم بأنى لاأعرف هذا الكاتب، ولم أقرأ له شيئا، ولم أسمع باسمه من قبل. وهى إجابة صادمة لا أدرى كيف تحملها الذين توجهوا إلى بالسؤال. وربما ظن بعضهم أنى أتهرب أو أدعى عدم المعرفة لأنصرف لشئوني. والحقيقة أنى لم أكن بالفعل أعرف أى شيء عن باتريك موديانو حتى أعلن المتحدث باسم الأكاديمية السويدية فوزه بالجائزة. وهو تقصير من جانبى أعترف به. فقد كنت مقيما فى باريس خلال السنوات التى ظهرت فيها أعماله الأولى التى لم تترك جائزة من الجوائز المرصودة للرواية إلا حصدتها. روايته الأولى «ميدان الإتوال»، أو ميدان النجمة اذا كان لابد من ترجمة الأسماء هذه الرواية التى أصدرها صاحبها عام 1968 وهو فى الثالثة والعشرين من عمره حصلت على جائزة روجيه نيمييه. وروايته الثانية «دورية الليل» التى صدرت فى العام التالى حصلت على جائزة فينيون. أما «شارع الحوانيت المعتمة» التى صدرت عام 1978 وهو فى الثالثة والثلاثين من عمره فقد استحقت جائزة «الجونكور» التى تعد من أرفع جوائز فرنسا وجوائز العالم. أقول اننى كنت مقيما فى باريس خلال تلك السنوات التى حقق فيها باتريك موديانو هذه الانتصارات المتوالية. لكنى كنت لا أزال أتحسس طريقى الى الأدب الفرنسى بتهيب شديد، وكنت مشدودا للشعراء أكثر من الروائيين، وللمشاهير الواصلين أكثر من الشبان الطالعين. هكذا تعرفت على جيفيك، وميشيل دوجي، وبيير اوستير، وبرنار نويل، وجان كلارانس لامبير. فضلا عن بعض العرب والأجانب الذين ينظمون قصائدهم بالفرنسية ومنهم السنغالى ليوبولد سنجور، واللبنانى صلاح ستيتية، والجزائرى جمال الدين بن الشيخ، والمغربى طاهر بن جللون، ولم أتعرف على روائى واحد. وهأنا أستعين بما لدى من موسوعات فى الأدب الفرنسى لأكتب هذه السطور التى أكنبها الآن عن باتريك موديانو الذى قرأت أخيرا فيما نشرته عنه الصحف المصرية أن له أربع روايات مترجمة إلى اللغة العربية من بينها الراوية التى حصل بها على جائزة الجونكور. واذن فقد قصرت فى حق هذا الكاتب مرتين، مرة حين لم أقرأ له ولم أقرأ عنه وأنا فى فرنسا. ومرة أخرى حين لم أقرأ ما ترجم من أعماله إلى اللغة العربية وأنا فى مصر. وهو تقصير يشاركنى فيه أساتذة اللغة الفرنسية فى الجامعات المصرية والنقاد ومحررو الصفحات الأدبية الذين لم يعطوا هذه الأعمال المترجمة حقها ولم يعطوا صاحبها حقه، خاصة وقد تبين لى مما نشرته الصحف الفرنسية عن باتريك موديانو فى الأيام الأخيرة أن مصر تحتل جانبا من سيرة حياته. فأبوه يهودى ايطالى ولد فى اليونان وعاش فى الإسكندرية ثم رحل إلى باريس ليشتغل بتجارة التحف. أما والدته فكانت ممثلة بلجيكية رحلت من وطنها لتعيش وتشتغل بالفن فى باريس. ومن هذه الأصول والمنابع الثقافية المختلفة والدماء المختلطة خرج باتريك موديانو، وتشكل عالمه، وظهرت أعماله. ولقد ولد باتريك موديانو فى العام الذى انتهت فيه الحرب العالمية الثانية عام 1945، وفقد والده وهو فى الرابعة من عمره فأصبح عالمه الذى يعيش فيه بخياله ماضيا حوله إلى حاضر مستمر فى رواياته التى تدور أحداثها فى باريس خلال السنوات التى سقطت فيها العاصمة الفرنسية فى أيدى الألمان النازيين. ومن هنا اعتبرت الأكاديمية السويدية أعمال باتريك موديانو امتدادا لأعمال الروائى الفرنسى الشهير مارسيل بروست التى تنبع كلها من عالم الذكريات. فهو لا يكتب عن الواقع الذى يعيشه ونعيشه معه، وإنما يكتب عن واقع اندثر وعن زمن لم يعد له وجود الا فى الذاكرة. هذا الزمن الضائع هو موضوع بروست، وهو أيضا موضوع موديانو. واستعادة هذا الزمن أو استحضاره هى الطقس الشعائرى أو الرقصة الصوفية التى يؤديها كل منهما فى عمله الروائي. ومن الاتفاقات التى لا يمكن تفسيرها أن يصدر بروست عمله الأول «المتع والأيام» وهو فى الثالثة والعشرين من عمره، وأن يصدر موديانو عمله الأول «ميدان الإتوال» وهو فى هذه السن ذاتها. ومنها أن يحصل موديانو على جائزة الجونكور التى حصل عليها بروست قبله بستين سنة. وأن يولد باتريك موديانو لأب يهودى وأم كاثوليكية، وأن يولد مارسيل بروست لأب كاثوليكى وأم يهودية. غير أن وجوه الشبه بين الكاتبين لا تمنع من وجود الاختلافات، بل إن الاختلافات الموجودة بين الكاتبين تنبع من وجوه الشبه التى تجمع بينهما. لأن الزمن الذى يشغلهما معا ليس زمنا واحدا. فقد ولد موديانو فى أربعينيات القرن الماضى كما ذكرنا من قبل. أما بروست فقد عاش فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثانى من القرن العشرين. والفرق بينهما هو الفرق بين العالم كما كان فى الحرب العالمية الأولى والعالم كما أصبح فى الحرب العالمية الثانية. فى الحرب الأولى خرجت فرنسا منتصرة على ألمانيا. وفى الحرب الثانية سقطت فى أيدى الألمان المحتلين. والأسئلة التى كان على الكاتب أن يواجهها فى الحرب الأولى تختلف عن الأسئلة التى أصبح عليه أن يواجهها فى الحرب الثانية. صحيح أن كاتب الرواية ليس باحثا وليس مؤرخا وليس مطالبا بأن يطيل الوقوف عند تفاصيل الواقع ومظاهره، بل هو يجتهد فى تجاوزها ليصل إلى الجوهر الإنسانى الذى لا يتغير. لكننا لا نرى هذا الجوهر إلا بعيون الكاتب التى يفرض عليها الواقع صورته. وإذا كان باتريك موديانو قد ولد لأب يهودى فى السنة التى انتهت فيها الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا فمن الطبيعى أن يكون ما لقيه اليهود الفرنسيون فى ظل الاحتلال وفى معسكرات الاعتقال النازية هاجسا لا يفارقه ومصدرا من مصادر إلهامه. ومن الطبيعى أن تكون روايات موديانو التى كتبها عن الحرب الثانية وعن باريس تحت الاحتلال النازى مختلفة عن روايات الكاتب الأمريكى همنجواى التى كتبها عن الحرب الأولي. لكل هذا يستحق باتريك موديانو أن نقرأه. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي