المسرح ليس مجرد مبنى تُعرض على خشبته أعمال فنية من هنا وهناك ولكنه منارة تشع فنا وثقافة وفكرا لكل مرتاديها، فما بالكم بالمسرح القومى؛ ذلك الصرح الثقافى الذى بُنى في عهد الخديو إسماعيل عام 1869 على أحدث الطرز الفنية والمعمارية آنذاك ليضاهى في معماره وفيما يقدمه أروع ما يقدم على مسارح أوروبا. لذلك كان حريق المسرح القومى عام 2008 أشبه بزلزال هز قلوب العالم كله وانتظرنا سنوات طويلة تمهيدا لإعادة افتتاح هذا الصرح العريق مرة أخرى ولهذا سارع «الأهرام» بالاستجابة لدعوة الفنان ناصر عبدالمنعم رئيس قطاع الإنتاج الثقافى لزيارة المسرح القومى ومتابعة آخر ما وصلت إليه أعمال الترميم تمهيدا لافتتاحه، وخاصة بعد ما أثاره مصمم الديكور حازم شبل من شكوك واتهامات بمخالفات وأخطاء فنية في تقنيات خشبة المسرح.. أهمية الزيارة تمثلت في توضيح وجهات النظر المختلفة في العديد من الأمور والتى اتفق في بعضها مهندسو التجهيزات الفنية مع شبل، واختلفوا في بعضها الآخر معه، ولهذا نكشف في السطور التالية الرأى والرأى الآخر، واضعين نصب أعيننا قيمة المسرح القومى باعتباره أهم صرح ثقافى في مصر. المشهد منذ بداية دخولى ساحة المسرح القومى كان غير مألوف وغير مريح للرؤية حيث تفاجأ بواجهة من المرايات تغطى كامل المبنى الإدارى والتى انعكست عليها صور المداخل والبرجولة الخشبية في منتصف الساحة والكوبرى المعدنى المار من ميدان الأوبرا إلى حى الحسين، وحينما سألت عن فلسفة بناء هذه الواجهة قال لى مدحت مصطفى مدير عام الإنشاءات في البيت الفنى للمسرح: إن الآثار رفضت بناء المبنى الأدارى بنفس الطراز الأثرى، وبناء عليه قرر المهندس الاستشارى عمل واجهة من المرايات تعكس صورة المبنى الأثرى للمسرح وفي نفس الوقت تناقض الطُرز بين الأثرى والألترامودرن يبرز عظمة مبنى المسرح، وأن هذا التصميم وافق عليه وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى عام 2009، مؤكدا ان هذا الاسلوب في التصميم معمول به في متاحف باريس وإيطاليا.. والحقيقة أننى قد تعجبت من هذا الكلام أولا لأن التصميم مقام في العتبة المزدحمة والعشوائية في كل شيء، وثانيا أنه تصميم غير عملى من حيث وسائل نظافته وصيانته، وهو ما يستدعى وجود أوناش بشكل مستمر داخل ساحة القومى الضيقة.. واصلت جولتى وشاهدت على يمين المدخل من الشارع مبنى المسرح الأثرى ومبنى ملاصق له ومشابه له في روح التراث وعرفت بعدها انه مبنى من 4 أدوار بمصاعد كهربائية وتضم أجنحة وغرف على أعلى مستوى للممثلين لم تكن موجودة في السابق، ولا شك أننى شعرت بالإبهار بمجرد دخولى صالة الجمهور حيث تم تجهيزها بفخامة ورقى، من حيث المفروشات ذات اللون الأحمر الداكن، والحوائط الخشبية المعزولة صوتيا ذات اللون الأقرب للأرجوانى، بالإضافة إلى استحداث قاعة راقية للغاية مخصصة لكبار الزوار. وما أن وصلنا لخشبة المسرح حتى أثرت ملاحظات حازم شبل والتى قال عنها: هناك ارتفاع في نسب أرباح الشركات المنفذة لمشروع الترميم لأكثر من 60% نتيجة استعانة الشركة المنفذة للمشروع بشركة أخرى متخصصة في التجهيزات المسرحية من الباطن، وهى الشركة التى نفذت «سكك» ديكور في قصر ثقافة الجيزة بتكلفة 30 ألف جنيه، ووضعت نفس «سكك» بنفس المواصفات في القومى بسعر 90 ألف جنيه، مشيرا إلى أن أغلب مسارح العالم تعمل يدويا دون الحاجة لهذه التكاليف الباهظة.. وأضاف: هذا الفارق الكبير في الأسعار دفعنى للجوء إلى شركتين متخصصتين في أعمال الميكانزم المسرحى ، وقدمت لكل منهما على حدة 26 بندا خاصا بالتقنيات المطلوبة وطلبت منهما عروض أسعار رسمية فقدمت الأولى عرضا بمبلغ 3 ملايين و352 ألف جنيه وقدمت الثانية عرضا بمبلغ 3 ملايين و246 ألف جنيه، وهى مبالغ لا تتعدى نصف التكلفة المحددة في الأوراق.. ومن بين ملاحظات شبل أيضا أن مواصفات ستارة الخلفية التى تمتد بعرض عمق المسرح مصنوعة من قماش سميك ذى وصلات طولية وأن هذه الستارة وظيفتها عمل الإضاءة من خلفها، ولكن بتلك المواصفات ستظهر كل عيوب الوصلات بمجرد إضاءة الستارة من الخلف بما يؤثر على جودة المنتج المسرحى.. وأشار إلى أنه فيما يخص الإضاءة مثلا لم يتم استخدام أى كشافات «ليد» رغم أنها لا تسخن وعمرها الافتراضى أطول ويمكن التحكم في شدة إضاءتها وتعطى ألوانا مختلفة بدون استخدام «طبقات جيلاتين ملونة» عليها.. تجاهلوا كل هذا واستخدموا لمبات هيلوجين.. ومن جهته قال المهندس محمود حجاج مشرف تقنيات خشبة المسرح القومى ردا على تلك الملاحظات: لدينا مسارح كثيرة مجهزة أوتوماتيكيا ولكنها تتوقف عن العمل بمجرد تعرضها لأى عطل لغياب الصيانة وعدم وجود قطع الغيار المستوردة وهذا لمسته بنفسى في قصر ثقافة الاسماعيلية مثلا، ولهذا تلافينا هذه الأخطاء في المسرح القومى فلدينا 32 «سكة» لرفع الديكور والإضاءة، وكنا قد لجأنا لشركة انجليزية لعمل هذه «السكك» فطلبت 13 مليون جنيه مصرى غير شاملة التركيب والنقل والشحن بالإضافة لأرباح الشركة المصرية المنفذة التى تبلغ 35%، لهذا قمت باستيراد الأجزاء المهمة مثل مواتير الرفع ولجأت لشركات محلية لعمل باقى اكسسوارات سكك الرفع، بحيث يصبح لدينا سكك تعمل بالكهرباء وفي نفس الوقت تصلح للعمل يدويا وسبق أن نفذت هذا في مسرح سيد درويش بالأسكندرية ولم يتوقف منذ 12 عاما، وهو ما خفّض التكلفة إلى 6 ملايين جنيه عام 2009 ويتم تنفيذه الأن بنفس الأسعار، واشار حجاج إلى أنه ذهب بنفسه لقصر ثقافة الجيزة وشاهد السكك المستخدمة هناك ووجد 13 فارقا بينها وبين نظيرتها المستخدمة في القومى منها أنها في الجيزة ذات مواتير 3 حصان كورية الصنع وفي القومى ألمانية 4 حصان، بالإضافة إلى تفاصيل اخرى لن تتسع المساحة لذكرها، أما ستارة الخلفية «السيكلوراما» فكانت مواصفاتها كما ذكرها حازم شبل فعلا ولكن عام 2009 وقد قمنا بتغييرها منذ فترة طويلة باستيراد أخرى قطعة واحدة من النمسا ومعها قطعتان من التُل الأبيض والأسود وسيتم تركيبها فور وصولها، وفيما يتعلق بالمبنى الزجاجى أكد حجاج أنه من المؤيدين لهذه الفكرة باعتبار أن المرايات ستعمق وجود الأثر، وهو في النهاية أمر يتوقف على اختلاف الأذواق لأنه عمل فنى.. أما كواليس المسرح فقد وضع المعمارى مبنى الممثلين على يمين خشبة المسرح وهو ما أدى لضيق مساحة الكالوس بينما تم توسيع الكالوس الأيسر لصالح تخزين الديكور، ولكننا قمنا بتوسيع مساحة الكالوس الأيمن بقدر الأمكان، كما أنه تم عمل 6 مصاعد كهربائية في 6 فتحات بخشبة المسرح تخدم الأغراض الفنية المختلفة للمخرجين بالإضافة لقرص دوار بقطر 8 أمتار، وهو أحدث مما هو موجود في الأوبرا حاليا كما انها لم تكن موجودة في القومى من قبل. وقد اتفق حجاج مع ملاحظات شبل في انه فعلا تمت الاستعانة بلمات هيلوجين منذ عام 2009 ولم يتم تعديلها بكشافات «ليد» ولكنه أكد إن الأوبرا نفسها حتى الآن لم تستعن بهذه اللمبات الحديثة بالإضافة إلى التقيد بالإمكانات المادية المتاحة، وقال: إن شبل محق في ضرورة الاستعانة بمصممى المسارح من ذوى الخبرة، وخاصة أن المعماريين يعبثون في مسارح مصر وخشباتها بلا دراسة ولهذا فنحن نطالب بتشريع قانون يحمى مسارحنا ويلزم المعماريين بالاستعانة بمصممى الديكور قبل بناء أى مسرح أو تطويره. أما مصمم الديكور فادى فوكيه أحد أعضاء لجنة تجهيزات المسرح فقال: لن ادافع اولا عن الواجهة الزجاجية للمبنى الإدارى لأنها غير منطقية وكان يمكن عمل مبنى يستوحى الطراز المعمارى لمبنى المسرح الاثرى دون أن يقلده، ولكن فيما يخص الاسعار المبالغ فيها لابد من توضيح ان هناك نسبة 37% من هذه الاسعار يتم استقطاعها للضرائب بالإضافة لأرباح الشركة المنفذة والشركات المتخصصة من الباطن وهذا نظام معمول به في الدولة كلها وليس لنا دخل فيه، أما المواصفات التى قدمها الزميل حازم شبل فتم تحديدها عام 2009 وتم تغيير الكثير منها بعد ذلك، كما ان لمبات ال«ليد» هى جزء من وظائف الإضاءة ولا يمكن الاعتماد عليها كليا لأنها لن تفى بكافة الأغراض الفنية.