لا يكاد يمرّ عام إلا وللدكتور مصطفى إبراهيم فهمى كتاب جديد مترجم، يضيف به إلى مكتبته الحافلة فى مجال الثقافة العلمية جديدًا تحتاج إليه العقول مؤكدًا أننا فى عصر العلم والمعرفة المتفجرة فى كل يوم بما لا يخطر على البال. وعن المركز القومى للترجمة صدر للدكتور فهمى عميد المترجمين فى مجال الثقافة العلمية كتاب جديد من تأليف عالم البيولوجيا والحيوان فى إنجلترا تشارلز دوكنز الذى يعمل أستاذًا فى جامعة أكسفورد، وهو من المؤمنين بحقيقة التطور والتاريخ، مؤكدًا رسوخ حقيقة التطور وسخافة مزاعم منكريه، مستمدًّا أدلته وبراهينه من الأمثلة الحية للانتخاب الطبيعى ومن الأدلة الواضحة فى سِجلّ الحفريات، والطول الهائل لعمر الكون الذى تم التطور فيه، كما تقيسه الساعات الطبيعية مثل حلقات الأشجار والنظائر المشعة. كما أن هناك أدلة أخرى حاسمة، مستمدة من علم الوراثيات الجزيئية الكيميائية، فى الكائنات الحية. فى المقدمة الضافية التى كتبها المترجم الدكتور مصطفى إبراهيم فهمى لكتابه الجديد المثير، يشير أولاً إلى أن مؤلف الكتاب دوكنز اشتهر بكتاباته فى الثقافة العلمية الموجهة لغير المتخصصين، لدرجة أنه قد خُصّص له كرسى أستاذية فى جامعة أكسفورد للفهم الجماهيرى للعلم، ظل يشغله حتى وصوله إلى سن التقاعد عام 2008. ويشير ثانيًا إلى ما يركز عليه دوكنز فى كتاباته، من أن التطور لم يعد مجرد رأى أو فرض أو نظرية، بل هو الآن حقيقة علمية ثبتت نهائيًّا بالدراسات البيولوجية والجيولوجية والإحصائية، التى أكدت صحة الانتخاب الطبيعى باعتباره ميكانزمًا للتطور. وينبهنا ثالثًا إلى أن العلم يعيش فى القرن الحادى والعشرين عصر الثورة البيولوجية. ففى القرن الماضى كانت هناك ثورة فى الكيمياء والفيزياء، أما قرننا الحالى فهو قرن ثورة البيوتكنولوجيا أو التكنولوجيا الحيوية حيث تجرى الأبحاث مثلاً حول الجينوم والهندسة الوراثية والاستنساخ. وقد بدأت تباشير هذه الثورة فى النصف الثانى من القرن العشرين، عندما اكتشف واطسون الأمريكى وكريك الإنجليزى تركيب الحامض النووى «الدنا» وهو المكون الأساسى للجينات أو المورثات، وأدى هذا إلى تسارع انطلاق الثورة البيولوجية. وأصبح علماء البيولوجيا يصرون الآن على أنه لا يمكن فهمها إلا فى ضوء التطور الداروينى مصحوبًا بما أدركه العلماء لاحقًا من وراثيات «مندل» مؤسس علم الوراثة الحديث. وأصبح تعريف الكائن الحى أنه كائن متطور.وأصبح التطور البيولوجى حقيقة من حقائق الكون أو ظاهرة مثل الظواهر العلمية الأخري، أى مثل كروية الأرض ودورانها حول الشمس، وهى حقائق كان ينكرها كثيرون فى أول الأمر، كما كانوا ينكرون التطور الداروينى إلى عهد قريب. لكن الغالبية العظمى من البشر تؤمن الآن بكروية الأرض ودورانها حول الشمس وقوة الجاذبية، مثلما تُؤمن بوجود ظواهر حقيقية أخرى كالأعاصير والزلازل والبراكين. ولم يعد أحد يشك فى حقيقة هذه الظواهر العلمية، بل هى تُدرَّس وتُحلَّل لمعرفة آلياتها ونتائجها. وإنما تظهر النظريات القابلة للاختلاف بشأن الميكانزمات والآليات. الانتخاب الطبيعى إذن هو آلية أو ميكانزم حقائق التطور. ثم يشير المترجم الدكتور فهمى - رابعًا - إلى كتاب داروين المشهور «أصل الأنواع» وما أثاره من اهتمام واسع على المستوى العالمي، وما ثار من نقاش خلافى حول ما ورد فيه عن نظرية التطور من الناحية العلمية، بل اختلطت الأمور بمناقشة قضايا بعيدة عن علم البيولوجيا، قضايا دينية واجتماعية واقتصادية وأدبية. بالرغم من أن داروين لم يقم فى كتابه إلا بتسجيل الحقائق التى لاحظها فى كائنات حية مختلفة، وبخاصة بعد رحلته المشهورة على السفينة «بيجل» (1831 1836) وقد استنتج من هذه الحقائق نظريته عن التطور والانتخاب الطبيعي. فالعالَم فى رأيه به كثرة من الأنواع التى تتزايد بالتكاثر، فى حين أن الموارد التى تعيش عليها هذه الأنواع محدودة نسبيًّا. واستنتج داروين من هذه الحقائق أن هناك صراعًا بين الأنواع، وبين أفراد النوع الواحد، من أجل البقاء فى الوجود على هذه الموارد المحدودة.. ولأن هناك كثيرًا من التباين والتغاير بين أفراد النوع الواحد، وقد يورث الأفراد لذريتهم هذه التغايرات، فقد استنتج داروين أن الأفراد الأكثر تلاؤمًا أو الأكثر تكيفًا مع البيئة هم الذين يُرجح بقاؤهم فى الحياة أكثر من غيرهم، وأنهم سيتناسلون بعدد أكبر، ويُورّثون لسلالتهم صفاتهم المواتية للبقاء، وبتراكم توارث هذه الصفات المواتية، تتكون أنواع جديدة من خلال هذا الانتخاب الطبيعي. وقد تستغرق عملية التراكم هذه آلافًا بل ملايين السنين. وبمرور الزمن زادت البراهين وزادت نظرية داروين رسوخًا وأصبحت حقيقة علمية. وأصبح مفهوم التطور والانتخاب الطبيعى فى المركز من كل علم البيولوجيا، وهو الذى يوحِّد بين كل أشكال الحياة من حيوان ونبات وكائنات دقيقة. وشاعت مصطلحات التطور والتكيف والبقاء للأصلح، وحدث توافق عام على حقيقة التطور وصحة الانتخاب الطبيعي. ثم يشير خامسًا إلى أن الداروينية تثير انتقاد بعض غير المتخصصين بل تثير حفيظتهم وعداوتهم، ذلك أنها تعتمد على حقائق بسيطة، حقائق عن تكاثر الكائنات الحية، وما يصحبه من تغيرات طفيفة فى أول الأمر، تؤدى تدريجيًّا إلى نتائج بعيدة المدى بالتراكم والانتخاب الطبيعى على المدى الزمنى الطويل، ولايزال هناك أعداد كبيرة من غير المتخصصين لا يسيغونه ويرفضونه، حتى فى بلاد تغلب فيها الثقافة العلمية مثل أمريكاوإنجلترا. إن ما يقرب من 35% فقط من الراشدين فى هذه البلاد يؤمنون بحقيقة التطور. وتتزايد هذه النسبة مع تحصيل العلم فتصل إلى 52% بين خريجى الجامعات، وإلى ما يقرب من 65% ممن نالوا دراسات علمية عليا. وعندما أثارت دوكنز هذه الإحصائيات، قرر أن يؤلف كتابه هذا لمناقشة منكرى التطور أو من يسميهم بمنكرى التاريخ. وكانت النتيجة هذا الكتاب الرائع: «أعظم استعراض فوق الأرض» الذى ملأه بالأدلة القاطعة على حقيقة التطور وعلى سخف منكريه. وتستمر المقدمة العلمية الضافية التى وضعها الدكتور مصطفى إبراهيم من خلاصة خبرته العريضة وثقافته العلمية الواسعة لذا فهو يشرح لقارئه أن التطور ليس فى البيولوجيا وحدها، بل فى كل العلوم الحديثة. ولا شك أن المنادين بتعريب العلم وتعليمه بالعربية فى حاجة إلى مثل هذا المرجع النفيس من مراجع الثقافة العلمية، وإلى مثل هذه الكتابة العلمية بهذه اللغة العربية الرصينة، أكثر من حاجتهم إلى مجرد ترجمة المصطلحات العلمية التى لا تصنع بمفردها لغة علمية عربية. لمزيد من مقالات فاروق شوشة