الكتاب: "داروين متردداً" "داروين متردداً" هو عنوان الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن "كلمات" من تأليف ديفيد كوامن الصحفي المتخصص في الشئون العلمية. وترجمة د.مصطفي إبراهيم فهمي. الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية لتشارلز داروين بل هو رحلة داخل فكرة التطور البيولوجي و"الانتخاب الطبيعي" يعتمد بشكل أساسي علي خطابات ودفاتر داروين، فمن خلال سيرته يقدم "كوامن" سيرة الحياة الطبيعية والطريق الوعر الذي عبرت به نظرية "الانتخاب الطبيعي" وسط مناخ سياسي عاصف ومتقلب في أوروبا القرن التاسع عشر. يبدأ "كوامن" كتابه من اللحظة الحاضرة لا الماضي، حيث يقدم قراءة سريعة لآثار أفكار داروين ونظرية الانتخاب الطبيعي وأصل الأنواع، حيث يعتبر كوامن أن داروين "واصل ثورة كوبرنيكوس ضد فكرة مركزية الإنسان كمحور للكون، وفي هذا الفصل يعرض "كوامن" لبعض الآراء التوافقية التي حاولت التوفيق بين الأفكار التطورية والعقائد الدينية، وهي المحاولات التي يراها لم تنتج إلا تشويها للمعتقدات الدينية وللأفكار التطورية التي تقبع في قلبها نزعة مادية عسيرة مروعة، علي حد وصفه. البداية كانت عام 1837 حينما عاد داروين إلي لندن بعد خمس سنوات قضاها في البحر علي متن السفينة الاستكشافية "بيجل"، وهي الرحلة التي شهدت تحوله من دارس لعلم اللاهوت في كامبريدج إلي طالب جاد لعلم الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي، كانت مهمة داروين إجراء بحث وتصنيف للكائنات الحية التي تعيش علي جزر المحيط الأطلسي، وفي تلك الرحلة البحثية تفتح وعيه علي عدد من الأسئلة نتيجة ما شاهده من ملاحظاته ربما كان أهمها تلك المتعلقة بطيور الحسون التي سجلها في ملاحظته بعد عودته قائلاً: "أليس غريباً أن تعيش هذه الصنوف المختلفة من الطيور المتمايزة لكن علي صلة قرابة واحدة" كان قد جمع عينات لعدد من الطيور المختلفة من جزر متقاربة وحينما عاد بالعينات اكتشف انها كلها تعود إلي نوع واحد لكنها مرت بتغيرات نوعية. كانت هذه الفكرة البسيطة هي كرة الثلج التي تدحرجت حتي أصبحت تصدعا جبليا ضخما. في ذلك الوقت كان التصور أن الله خلق الحياة والكائنات الحية كما هي الآن، وأي تغيير أو تعديل في بنيتها يعتبر تجديفا وتعديا علي خلق الله. في الوقت ذاته كانت أوروبا ومعها انجلترا تمر بتغيرات سياسية واجتماعية جذرية كنتيجة للثورة الصناعية، والأفكار الاشتراكية والمادية يتصاعد خطابها ضد السلطة الدينية والبرجوزاية الرأسمالية. لكن داروين لم يكن اشتراكياً أو لديه طموح سياسي، إلي جانب ضعف بنيته وحالته الصحية حيث عاني من نوبات من القيء واضطرابات الجهاز الهضمي جعلته بعد زواجه يهجر حياة البرجوازية في لندن وينتقل للعيش في قرية صغيرة وسط مزرعته، باختصار هو مثال للإنسان المحب للاستقرار والبعد عن الثورات والاضطرابات ومن خلال الملاحظة وتجاربه علي الحيوانات وآلاف المراسلات مع باحثين من مختلف أنحاء العالم، عمل داروين بصبر واجتهاد علي إيجاد إجابات لأسباب تغير الكائنات الحية من ذات النوع الواحد والقوانين التي تحكم بقاءها واستمرارا. وعلي مدي أكثر من عشر سنوات سجل داروين في دفاتر ملاحظاته كل أفكاره حول أصل الأنواع والانتخاب الطبيعي. كان يدرك قدراً من الأثر الذي ستحدثه أفكاره ويدرك معارضتها للقيم والبني الاجتماعية والفكرية القائمة، لذا في عام 1844 كتب المسودة الأولي لنظريته من 189 صفحة وارسل منها نسختين لاثنين من اصدقائه ثم وضعها في ظرف ضمن وصيته داعياً زوجته إلي نشرها بعد وفاته. لم يكن داروين البرجوزاي خريج كامبريدج التي كانت جامعة دينية حتي ذلك الوقت ليتحمل فتح أبواب الجحيم تلك علي نفسه، بطرحه نظريته. استكمل داروين أبحاثه حول التصنيف الطبيعي حيث عمل طوال سنوات علي إعداد تصنيف للبرنقلات وهي كائنات من فصيلة القشريات تعيش في المياه الضحلة وتلتصق بالصخور، لكن منذ بداية الخمسينات نشأت صداقة وتواصل عبر البريد بينه وبين المستكشف الانجليزي الذي كان يعمل في مجال جمع العينات البيولوجيا ألفريد والاس والذي كان مقيماً في شرق آسيا، أرسل والاس في خطاباته لداروين عددا من الأفكار والملاحظات حول التطور الطبيعي للكائنات الحية وما إذا كان هناك جد مشترك للكائنات الحية كلها، وحينما أحس داروين بالخطر وبأن هناك من قد يسبقه بنشر نظريته، نشر هو ووالاس مقالا مشتركاً اتبعه داروين بالعمل علي مسودة كتابه الذي سيحمل بعد ذلك عنوان "أصل الأنواع" حيث انهي المسودة الأولي منه عام 1859. بمعني أن هناك 14 عاماً تردد خلالها داروين في نشر نظريته، وذلك بسبب تخوفه من ردود فعل المؤسسة الدينية والاجتماعية والآثار السياسية، والمدهش أنه رغم الهجوم الشديد الذي تعرض له داروين إلا أن أكثر ما خاف منه وهو خسارته لزوجته المؤمنة الرافضة لكل أفكاره التجديفية. حاول الكثير من العلماء التطوريين التوليف بين النظرية وأفكار الخلق في الديانات المختلفة، لكن كوامن يوضح أن كل هذه المحاولات غير مجدية فكما يقول: " ليست قضية التطور مقابل قضية الرب، فليس وجود الرب مجسدا أو باطنيا أو بعيدا هو ما تتحداه نظرية التطور، بل تتحدي الصفة الإلهية المفترض وجودها في الإنسان، الإيمان بأننا "نحن" خلافاً لكل أشكال الحياة الآخري نسمو روحانياً ونحظي بمحبة ربانية ونجوز جوهراً غير مادي مخلد، وهو ما يمكننا أن يكون لنا توقعات خاصة بالأبدية، ووضع خاص في توقعات الرب، وحقوق ومسئوليات خاصة اتجاه الكوكب، وهذه هي نقطة صدام داروين مع المسيحية واليهودية والإسلام". وهو الخلاف الذي علي حد قول كوامن، لا يمكن انهاؤه علي طريقة المصالح والتفاسير التوافقية بين النظرية والتفسيرات الدينية. لكن بعيداً عن الانتقادات الدينية فقد اتضح مع الوقت وبعد أكثر من مائة عام علي وفاة داروين أن المادة الخام والعنصر الأساسي لنظريته صحيح لكنه وقع في الكثير من الأخطاء التي جري تصحيحها علي يد علماء التطور البيولوجي من أبناء داروين. من أشهر أخطاء نظرية داروين كان اعتقاده أن الصفات المكتسبة تورث، ولهذا فابن الحداد يرث عضلات أبيه القوية. إلا أن حتي هذه الانتقادات والتي ساهم اكتشاف قوانين منديل في فهمها وتجاوزها، لم تؤثر علي النظرية التي أثبتت ومازالت تثبت صحتها، والتي غيرت بشكل نهائي لا رجعة فيه الطريقة التي ننظر بها كبشر لأنفسنا ولتاريخنا علي هذا الكوكب.