سادت ظاهرة الشيخوخة السياسية والجيلية وتمددت طيلة أكثر من أربعة عقود، دخلت الدولة والنظام فى دوائر مغلقة ومعتمة، حيث بدأت الشروخ البنائية تظهر فى معنى ومفهوم الدولة التى تقلصت واختزلت فى النظام الذى تمثل فى رئيس الجمهورية وحاشية حوله عند القمة وحول أسرته، ومعهم رجال المال والأعمال وعديد المغامرين. معنى الدولة تجسد فى الأجهزة القمعية أساساً ومعها الأجهزة الإيديولوجية التى انحسرت عنها التقاليد والمعايير المهنية لصالح شبكات الفساد، وحراس للبوابات دورهم الحيلولة دون وصول الآراء الحرة، والكتابات الجادة إلى القارئ، أو ظهور بعضهم أمام شاشات التلفاز وقنواته الرسمية. تحولت أجهزة الدولة إلى سوق مفتوح للرشوة والاختلاس وأشكال الفساد الهيكلي، ولبعض قادة البيروقراطية المصرية المترهلة. فى ظل بيئة مترعة بالفساد وعدم الكفاءة وتراجع قانون الدولة لصالح قانون القوة والنفوذ والمكانة والرشوة، تشكلت مواقع وبؤر للقوة والنفوذ، وشبكات للمصالح تنتهز الفرص والمغانم وتنتهك المال العام بلا رادع. دوائر سلطوية شبه مغلقة، ونخبة اعترتها الشيخوخة فى الأعمار، والأفكار، والخبرات، وغامت الروئ بينما العالم والأقاليم الفرعية تتغير بسرعات غير مألوفة فى تاريخ عصرنا، حيث ثورة المعلومات والاتصالات والوسائط المتعددة، وتحول العالم من قرية كونية، إلى غرفة كونية ومن ثم تشكلت مع هذه التغيرات العاصفة والزلزالية الناعمة، عقليات رقمية ولغة مختلفة، ومنطق مغاير، وحساسية سياسية جديدة، وخيال وثاب ويقظ ومتطلع لآفاق للتطور بلا حدود. بدأت منذ سقوط حائط برلين، تتخلق فى التركيبة المصرية بؤر جيلية - من جيل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات - ولغة مغايرة، وأفكار طليقة، ونزعة للهدم الخلاق لقيم متكلسة، وأخلاقيات مؤسسة على النفاق والكذب والمخاتلة والمراوغة والأقنعة والمسوح الدينية الشكلية والطقوسية التى لا تأبه بحرية الاختيار، والمشيئة والإرادة الحرة المسئولة. من صلب التآكل البنيوى للدولة، والنظام التسلطي، والنخبة الرسمية والمعارضة الشائخة، بدأت خطابات نقدية جديدة تشكلت معالمها منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي. تجلت ملامح هذا التغير الجيلى فى بعض الكتابات النقدية الرصينة المستمدة من توظيف ودمج للنظريات والرؤى والمفاهيم الجديدة فى العلوم السياسية، وفى ثورة الألسنيات وتداخلها فى كافة فروع المعرفة. قام بعض مفكرى هذا الجيل السبعينى وهم قلة، بكسر بعض القوالب الفكرية، واللغة النمطية والخشبية السائدة، وبدا بعضهم الأكثر صلة ووصلا بتاريخ عالمنا المتغير ومصر والمنطقة، ومن ثم كجزء من شجرة الأنساب الفكرية للمدارس الفكرية والسياسية التى تأسست مع حركة النهضة المصرية والعربية منذ نهايات القرن التاسع عشر، وتشكل الأسئلة الجوهرية حول التقدم وأسباب التخلف التاريخي، وما هى مسارات الدخول إلى التحديث والحداثة على النمط الأوروبي، والغربي. كسر بعضهم الثنائيات الضدية الكسولة حول الإصالة والمعاصرة والدين والدولة، والإسلام وتحديات الحياة العصرية ذ بتعبير حسن صعب - وموقع المرأة وأدوارها، وضرورة كسر أصفادها الاجتماعية المحافظة، ومن ثم تحريرها من معتقلات القيم التقليدية الذكورية المتشددة فى المجالين الخاص والعام، ومن ثم تحرير الدولة ومؤسساتها من ذكوريتها. أجيال جديدة تبنت أجيال حركة حقوق الإنسان واللغة الجديدة الحاملة لمفاهيم مغايرة عن مطلق الإنسان فى علاقته بهذه الحقوق، وأعاد لمفهوم المواطنة قيمته، وتابع بعمق أجيال حقوق المواطنة التى تتسع وتتطور مع عالم جديد يبزغ من خلاله مفهوم مستقبلى عن المواطن الكوني. جيل دفع الثمن من خلال السعى الدءوب لمواجهة وتحطيم سياسة قتل الأجنة الموهوبة، والحجز عند المنابع، والحيلولة دون أن يساهم هذا الخطاب النقدى الجديد، فى زلزلة أسس الدولة التسلطية ونظامها القمعى، والسعى إلى تجديد الدولة والفكر الدينى ومؤسساته التى اعتراها الوهن، والتى تراجعت وظائفها وأدوارها لصالح دعم نخبة الحكم، وأجهزته المترهلة. قام بعض المفكرين الجدد بالتفكيك النقدى والمعرفى لبنى الرؤى القديمة والمتقادمة والمفاهيم والأفكار والمواريث السياسية والثقافية العتيقة التى تكبل الأمة والدولة وغالب جموع المصريين. الكتابة الجديدة التى طاردتها الرقابات السياسية والأمنية وأجهزة الدولة القمعية والإيديولوجية، لم تقتصر على الخطاب الاجتماعى والسياسى والدينى النقدي، وإنما امتدت إلى أجيال جديدة - فى الثمانينيات والتسعينيات - تمردت على القوالب والأنماط اللغوية والكتابية فى السرديات الشعرية النثرية، والروائية، والقصصية. تمردت الكتابة والحساسية الجديدة - بلغة أدوارد الخراط - على البلاغة والمجازات والعوالم التى هيمنت على الأجناس الأدبية، وكسرت هذا النمط من التجنيس النقدي، وتولدت من بين حنايا هذه الحركة الجديدة، نمط من الكتابة المفتوحة ومقاربات إبداعية مشهدية شفوفة بالجسد المؤثم فى المعتقلات الذهنية والتعبيرية المهيمنة، والتركيز على اليومى والجزئى والتفصيلى حول تفاصيل التفاصيل لحركة وتفكير وشعور وحواس الإنسان. نزعة تحاول من اليومى والجزئى والمشهدى والشهوانى والجسدي، أن تولد رؤى سردية حول الإنسان/ الفرد وهمومه وهواجسه وخوفه وشهواته المجهضة. فى ظل هذه البيئة الكتابية الفردية، برزت وتحددت معالم عالم مصرى متخم بالقيود والحواجز إزاء أجيال جديدة تسعى إلى تحطيم أسوار سجون الذات، والعمل، والفكر والأسرة، وبالطبقة الاجتماعية«، والتعليم الردئ، والسلع الثقافية البائرة. من هنا بدأت تتبلور فجوات الأجيال والأفكار والروئ فى دولة تتآكل مفاصلها، ونخب شائخة، وأفكار وعقول أعدت لأزمنة ماضية. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح