رئيس الطائفة الإنجيلية يشهد افتتاح مبنى خدمات ومكتبة كنيسة المقطم    محافظ شمال سيناء: كل الخدمات في رفح الجديدة بالمجان    محافظ الأقصر يهنئ الرئيس السيسى بعيد تحرير سيناء    صعود جديد في سعر الفراخ البيضاء اليوم الخميس 25-4-2024 داخل بورصة الدواجن والمحال    بنك ناصر: إتاحة التمويلات الشخصية لموظفي البنوك وكبرى شركات القطاع الخاص بشروط ميسرة    لمدة 6 ساعات قطع مياه الشرب بمنطقة « أ » بحدائق الأهرام مساء يوم الجمعة    وزيرة البيئة: إصلاح نظام تمويل المناخ ضرورة قصوى    ميناء العريش: إنشاء رصيف تجاري بطول 242 مترا لاستيعاب جميع السفن (فيديو)    سعر الذهب في مصر اليوم الخميس مع منتصف التعاملات    محافظ الفيوم: إنجاز عدد من المشروعات الخدمية بالفترة المقبلة    الصحة الفلسطينية تحذر من اقتراب توقف مولدات الكهرباء بمستشفيات غزة    انقطاع خدمة الإنترنت الثابت فى وسط وجنوب غزة    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    1118 مستوطنًا يقتحمون المسجد الأقصى.. وآلاف آخرين يؤدون صلوات عند «البراق» (فيديو)    روسيا تلوح باستهداف الأسلحة النووية للناتو حال نشرها في بولندا    تعديل موعد مباراة الأهلي وبترو أتليتكو بكأس الكؤوس الأفريقية    كولر يدرس استبعاد ثنائي الأهلي من مواجهة مازيمبي.. تعرف على السبب    انطلاق فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بالعاصمة الإدارية الجديدة    ضبط 4 أشخاص كونوا تشكيلًا عصابيًا تخصص في السرقات بالجيزة    لخلافات بينهما.. مسن ينهي حياة زوجته بقطعة خشبية في المنيا    موعد إعلان أرقام جلوس الثانوية الأزهرية 2024    تحقيقات تسريب الكلور داخل حمام سباحة الترسانة: «الحادث ليس الأول من نوعه»    رفع 2000 حالة إشغال متنوعة وتحرير 10 محاضر تموينية في الجيزة    حبس المتهم باستعراض القوة وإطلاق الرصاص وترويع المواطنين بالقليوبية    بنات ألفة لهند صبرى ورسائل الشيخ دراز يفوزان بجوائز لجان تحكيم مهرجان أسوان    خبيرة فلك: مواليد اليوم 25 إبريل رمز للصمود    بدء مطاردة الأشباح.. تفاصيل مسلسل البيت بيتي 2 الحلقة الثانية    بخصوص «تغطية الجنازات».. «سكرتير الصحفيين» يكشف نقاط الاتفاق مع «المهن التمثيلية»    شقو يكتسح شباك تذاكر أفلام السينما.. بطولة عمرو يوسف وأمينة خليل    فحص 260 مواطنًا في قافلة طبية مجانية بالإسكندرية    مصرع شخصين وإصابة 8 آخرين فى حادث سير بين تريلا وميكرباص بصحراوى البحيرة    انعقاد النسخة الخامسة لمؤتمر المصريين بالخارج 4 أغسطس المقبل    انطلاق فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بمدينة مصر للألعاب    رئيس البرلمان العربي يهنئ مصر والسيسي بالذكرى الثانية والأربعين لتحرير سيناء    أبورجيلة: فوجئت بتكريم النادي الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    أمريكا تطالب إسرائيل بتقديم تفاصيل حول تقارير المقابر الجماعية بغزة    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    سقوط عصابة تخصصت في سرقة الدراجات النارية بالقاهرة    «الصحة»: فحص 6 ملايين و389 طفلا ضمن مبادرة الكشف المبكر عن فقدان السمع    7 مشروبات تساعد على التخلص من آلام القولون العصبي.. بينها الشمر والكمون    الأهلي يصطدم بالترجي التونسي في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    حمزة العيلى عن تكريم الراحل أشرف عبد الغفور: ليلة في غاية الرقي    الليلة.. أنغام وتامر حسني يحيان حفلا غنائيا بالعاصمة الإدارية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    أمر عجيب يحدث عندما تردد "لا إله إلا الله" في الصباح والمساء    توقيع عقد تنفيذ أعمال البنية الفوقية لمشروع محطة الحاويات بميناء دمياط    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    لبيب يرافق بعثة الزمالك استعداداً للسفر إلى غانا    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    مدحت العدل يكشف مفاجأة سارة لنادي الزمالك    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من استطاع إليه سبيلا
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 10 - 2014

قبل الذهاب إلى بيته الحرام.. ذهبت إليها.. إلى أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق.. حبيبة حبيب الله.. أفقه الناس والأعلم بالحلال والحرام.. المبرأة من فوق سبع سماوات.. الداعية والمجادلة والغازية والقائدة والشاعرة وحافظة سيرة نبى الإسلام وتاريخ حركة الإسلام
من أكدت السنَّة ورسّخت الملّة ووعظت وأرشدت وهدت وفسرت وشرحت ونورت وروت عن الرسول صلى الله عليه وسلم 5636 حديثا، ونزلت فى بيتها الآيات ورأت جبريل وأقرأها السلام، واعتبرت من السبعة المشرعين الكبار، وقال عنها زوجها نبى الله الذى قضت فى نور محبته تسع سنوات وخمسة أشهر: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»... ذهبت إلى من كانت تؤذن وتقيم الصلاة وتؤم النساء.. التحقتُ تلميذة فى مدرسة أول مدرسة فى الإسلام بعد مدرسة الرسول.. مدرسة عائشة التى قال عنها سيد الأنبياء: «حبك يا عائشة فى قلبى كالعروة الوثقى» وعنها قوله: «للرجال حوارى، وللنساء حواريّة، فحوارى الرجال الزبير، وحواريّة النساء عائشة»... بنت أبى بكر التى يمرض المصطفى الزوج فى سريرها ويقبضه الله بين سحرها ونحرها بعدما طيبت له السواك بمضغه فاستاك به وأراد أن يناوله لها فلم تُطعه يده، وتوفى بعدما جمع الله بين ريقه وريقها ليدفن فى حجرتها لتظل عائشة تساكن الرسول صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا طوال حياتها، وتندم عائشة بقولها: «من سفهى وحداثة سنى أنه صلى الله عليه وسلم ما أن قبض فى حجرى حتى وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم (ألطم) مع النساء وأضرب وجهى»..
قبل أن أشد الرحال لقضاء فريضة الحج رحلت إلى عائشة وفقه عائشة وتفسير عائشة وتوجيه عائشة وتنوير عائشة وأحاديث الرسول التى روتها عنه عائشة فى الحج والعمرة.. قالت سمعت الرسول يقول: «ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة».. وقوله «إن الملائكة لتصافح ركاّب الحجاج وتعتق المشاة».. وقوله «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف»... وقوله «من صلى أربعاً فى السفر فحسن، ومن صلى ركعتين فحسن إن الله لا يعذبكم على الزيادة، ولكن يعذبكم على النقصان».. وقوله «ارهقوا القِبلة أى ادنوا منها ومن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل».. و«من مات من حاج أو معتمر لم يُعرض ولم يحاسب وقيل له ادخل الجنة».. وعن عائشة قولها «ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثا فى ذى القعدة، عمرة الحديبية، وعمرة العام المقبل، وعمرة الجعرانة حيث قسَّم غنائم حنين، أما عمرته الرابعة فقد جاءت مع حجته معى»، وتُسأل عائشة عن المحرم: أيحك جسده؟ قالت: نعم ولو ربطت يداى ولم أجد إلا أن أحك برجلى لحككت»، وقولها «لا بأس بأن يُمس الطيب عند الإحرام»، وقولها: «المحرمة لا تتبرقع ولا تتلثم، وتلبس من خزّها وبزِّها وأصباغها وحليها»، وقولها «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء فى الخفين عند الإحرام»، وقولها «أن رسول الله كان يعدل صيام عرفة بألف يوم».. وكانت عائشة تحمل ماء زمزم، وتخبر بأن رسول الله كان يفعله «حمله رسول الله فى الأداوى والقرب وكان يصبه على المرضى ويسقيهم ويعالج به الحمى»، حيث قال «الحمى من فيح جهنم فبردوها بماء زمزم» وجاء قوله «ماء زمزم لما شُرب له».. وتقول إنه يخرج إلى صلاة الفجر بعد توضئه بماء زمزم قائلا: «اللهم اجعل فى قلبى نورا، واجعل فى لسانى نورا، واجعل فى سمعى نورا، واجعل فى بصرى نورا، واجعل من خلفى نورا، ومن أمامى نورا، ومن فوقى نورا، ومن تحتى نورا، اللهم أعظم لى نورا»..
أنهل.. أتغذى.. أتوضأ وأبلل الكف أمسح به على صدرى وموضع القلب مبتهلة لشفاء القلب والصدر والنفس والبصر والبصيرة.. ماء زمزم لما شرب له. هنا فى ساحة الرحمن غمز جبريل جناحه فى البيداء فتفجر مورد الطهر.. فى تلك البقعة من العالم طفل بكى عطشا وأم جدب لبنها فرفعت يدها للسماء فاستجابت السماء.. فى موقع جبريل وهاجر وإسماعيل ألمس بجبينى الأرض أصلى وأصلى وأكمل مناسكى وابتهالاتي، وأبحث عن موضع أسند إليه ظهرى حول الأعمدة الرخامية حيث لا تنفذ سهام التكييف الثلجى لعظامى لأتم قراءة المصحف فى حجمه الكبير الذى نحرص الآن على استحواذه من أرفف الساحة الشريفة، فالعين فى السن الكبيرة لم تعد كاشفة للخط الدقيق.. أقرأ.. أدعو.. أستغفر.. أظمأ فتروينى زمزم.. يلامس الوسن عينى سهرا وإرهاقا ومشقة ولهفة على ألا تفوتنى صلاة الجماعة فجرا فتوقظنى زمزم تغسل الكلل وتعيد نشاطى بجرعة ماء.. زمزم خير ماء على وجه الأرض.. ماءزمزم أفضل من ماءالكوثر فقد غسل به صدر النبى صلى الله عليه وسلم من قال عنه إن شربته تستشفى به شفاك الله، وإن شربته مستعيذا أعاذك الله، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وهى هزمة جبريل وسقيا إسماعيل، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم.. زمزم.. الماء الزلال الذى ينبع من تحت الكعبة المعظمة بيت الله الحرام، ومن جهة الصفا والمروة وهما من المشاعر العظام.. زمزم.. السلسبيل الذى كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يطلبه من مكة بعد هجرته إلى المدينة.. ماء حث على شربه والتضلع منه بأن يملأ الإنسان ضلوعه منه أى يشرب منه كثيرا، وقد شرب منه الأخيار والأئمة الأبرار وأولو الهداية والأسرار.. زمزم.. التى قال عنها آخر الأنبياء من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفرت له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت زمزم التى أجريت عليها البحوث بتقنية «النانو» فى اليابان فأثبتت أن ماؤها فريد ومتميز ولا يشبه فى بلوراته أى نوع من المياه فى العالم، وأن قطرة منه تضاف إلى ألف قطرة من الماء العادى تجعله يكتسب خصائص ماء زمزم.. زمزم.. التى من أسمائها: هزمة جبريل، وسقيا، وبرة إسماعيل، وشفاعة، وهى بركة، وسيدة، ونافعة، وعونة، وبشري، ومؤنسة، ومن أسمائها أيضا: طيبة، وشراب الأبرار، وحفيرة العباس، وعافية وكافية ونقرة الغراب... وفى تسميتها زمزم اختلفت الآراء فقال ابن عباس إنها سميت بزمزم لأنها زُمت بالتراب لئلا يذهب الماء يمينا وشمالا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء.. وعن الحربى أنها زمزم لزمزمة الماء وهو صوته. وقال المسعودي: والزمزمة صوت تخرجه الفرس من خياشيمها عند شرب الماء، وفى هذا كتب عمر رضى الله عنه إلى عماله أن انهوا الفرس عن الزمزمة.
ولا أرتوى من الغوص فى أسماء زمزم وتفسيرها.. يقول المالكى فى اسمها «شباعة» لحدوث الشبع عند شربها، و«مروية» لشدة قمعها للظمأ، و«نقرة الغراب» لأن عبدالمطلب عندما أمر بإعادة حفر بئر زمزم قيل إن مكانه عند نقرة الغراب وهو ما جاء على لسانه فى قوله: «إنى لنائم فى الحجر، إذ أتانى آت فقال: احفر طيبة. قلت وما طيبة؟ فذهب عني، فلما كان الغد وذهبت إلى مضجعى جاءنى يقول: احفر برة، فقلت؟ وما برة؟ فذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فقال لي: احفر المضمونة ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فجاءنى يقول: احفر زمزم، فقلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقى الحجيج الأعظم، وهى بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعظم، عند قرية النمل».
أتماسك.. أقسم بداخلى.. لا.. لن تجرى بى العجلات على قضبان بين الصفا والمروة.. لسوف يحتوينى يعلو بى الدعاء عن الأرض فى الأشواط السبعة فلا أشعر من طول المشى بوهن القلب.. رب يسر ولا تعسر.. بسم الله الله أكبر.. ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وأدخلنا الجنة دارك دار القرار.. برحمتك يا عزيز يا غفار.. إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما... ويهرول الرجال فى المنتصف يدعون ربهم: رب اغفر وارحم، واعف وتكرم، وتجاوز عما تعلم إنك تعلم ما لا نعلم إنك أنت الله الأعز الأكرم... ويأتينى قول حبيبة بنت أبى تجرأة عندما رأت الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى ترى ركبتيه من شدة السعى يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي.. ولأنه قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا عنى مناسككم».. فإننا نسعى مثله فكل ما فعله واجب وشعيرة.
وكان بعض المسلمين من المهاجرين والأنصار يتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة لأنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين فى الجاهلية فقد كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة ومن هنا كان عزوف المؤمنين عن الطواف كما كان عهدهم بهما قبل الإسلام.. ولقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التى كان العرب يؤدونها، ونفى كل ما يمت إلى الأوثان وأوهام الجاهلية، وربط الشعائر بالتصور الإسلامى بوصفها شعائر إبراهيم التى علمه ربه إياها: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما.. وتختتم الآية الكريمة فى سورة البقرة بذكره تعالي: «ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم» صدق الله العظيم.
أتوقف هنا عند القول الكريم ويفيض بى الجيشان.. الله سبحانه جل جلاله بكل جبروته وسلطانه وقوته وبأسه وعظمته يقول فى قرآنه: فإن الله شاكر.. الله.. شاكر.. إن كلمة الشكر هنا لتلقى بظلالها الندية وراء هذا المعنى المجرد. تلقى بظلال الرضى الكامل، لمكانة الشكر من الرب للعبد، ومن ثم توحى بالأدب الواجب من العبد تجاه الرب.. فإذا ما كان الرب يشكر لعبده الخير، فماذا بالله يصنع العبد الفقير إلى الله ليوفى الرب حقه من الشكر والحمد؟!!.. تلك نورانيات التعبير النورانى التى تمس شغاف القلب بكل ما فيها من الندي.. بكل ما ينبثق منها من جلال.. ومثل هذا القول الجليل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فى حق أبى بكر الصديق على لسان رب العزة مخاطبا أبا بكر: يا أبا بكر الله يقرئك السلام ويقول لك إنه راض عنك فهل أنت راض عن الله.... يا الله..
أبتسم فى سرى وأنا أبتلع من فورى مهابة وخشية وتقهقرا وتأدبا تعبيرا يتسرب لفكرى يكاد يفضحه قولى «فتش عن المرأة» وذلك فى قراءاتى لقصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام من كان زوجا لسارة التى يئست من أن تنجب له الأبناء من بعد طول زواج فتسامت بمشاعرها وحبست طبيعة المرأة التى مرادها الانفراد بزوجها، وقامت بتضحيتها الكبري.. بتفضيل سعادة الحبيب على سعادتها الشخصية.. وهبت جاريتها هاجر الحسناء لزوجها إبراهيم عليه السلام.. وسرعان ما حملت العروس.. وهنا تهاوت أستار التسامي، وتبدت واقعية الغيرة لتنفجر أنهارا، فما كان من الزوج المتفهم لطباع الأنثى المستنفرة إلا بأخذ هاجر بما يضمه رحمها بعيدا عن عيون سارة، وتخوفا من أن تتعقبهما فى رحلة الهروب كانت هاجر ترخى ذيلها ليمسح آثار أقدامهما من فوق الرمال، والغريب أن سارة التى كانت فى حكم العاقر قد حملت مع فورة دماء الغضب بابنها اسحق الذى أتى بيعقوب والذى يقال إنه ولد بعد وفاة جده إبراهيم عليه السلام، وإن كان هذا القول يتعارض مع البشارة فى قوله تعالي: «فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».
فى رحلة الفرار أنجبت هاجر إسماعيل لينتهى بهما المقام عند دوحة فوق زمزم عند البيت الحرام فى مكة، وعندما تركها إبراهيم مغادرا تبعته فى وجل تسأله: أتذهب وتتركنا بواد بلا أنيس؟.. ويأتى الرد بلا رد.. وتعود لرجفة السؤال بلا استقبال لجواب.. وينبثق على لسانها نور المعرفة والإدراك: أهو أمر الله؟.. هنا يجيب الخليل: نعم.. فترتسم الطمأنينة فى قولها الموقن بقضاء الله وأمره: إذا لن يضيعنا.. وتعود هاجر بخطى الأمل، وإبراهيم مبتعدا فى تماسك ظاهرى وما أن انثنت به زاوية الطريق حيث لم يعد يرى رفع وجهه لخالقه بأنين شكايته: ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم، وكان الله بذرية إبراهيم الحنيف رءوفا رحيما... عادت أم إسماعيل تشرب ما عندها من ماء وتلقم صغيرها ثديها حتى فنى الماء وانقطع لبنها فظمأ ابنها واشتد به الظمأ فخشيت أن يموت، فانطلقت أما تهيم بلا وجهة لا تريد أن تواجه قرة عينها فى نزعه الأخير.. اندفعت تجرى وتهرول تعتلى أقرب الجبال إليها.. الصفا.. تتطلع إلى الوادى من تحته فيقابلها الخواء.. تهبط من الصفا لتصعد رمالا حارقة لسفح المروة تمسح بعينيها المحتقنتين من جديد الوادى الشاغر إلا من صفير الريح.. وتدور مهزومة بين جبلين.. جيئة وذهابا مدحورة ملكومة مشعثة راجفة واجفة فى صدرها نار وفى قلبها إسماعيل تنسحب منه الحياة ويتغضن جلده اللدن ويرتسم على شفتيه لهاث الظمأ.. سبع مرات هابطة صاعدة ولا من سبيل.. فى عودتها السابعة مشرفة على المروة مرتعبة من السباع التى ارتفع زئيرها فى الأجواء وهناك صغير بلا حول ولا قوة فى النزع الأخير ظمآن إلى حد الجفاف.. لكن.. لكن جبريل الملك هناك.. يهزم الأرض بجناحه فينبثق النبع القدسى زمزم.. الماءتحت خد إسماعيل يحرك الرأس فيرتوي.. أفراح الأمومة.. الصائمة أفطرت.. المتعبة ارتاحت لكنها خافت أن تتبدد السعادة.. أن يذهب الماء سدى وتجف السقيا من جديد.. من هنا كتمت هاجر نبع الماء بيديها حتى تحضر وعاء فقال لها جبريل: دعيه فإنه رواء.. لا تخافى عليه من الضياع فهنا بيت الله يبنيه ولدك وأبوه وإن الله لا يضيع أهله.. ومازلت أذكر لقاءنا البعيد بالرئيس معمر القذافى خلال مؤتمر صحفى عقده بطرابلس، فوجئنا خلاله بإعلانه عن تغيير التقويم الهجرى، واقتراحه بحذف لفظة «قل» الموجهة للرسول الكريم فى الآيات البينات وحُجته فى ذلك أن من وُجِهَ إليه الخطاب قد مات، وعدم الاقتداء بالسيدة هاجر فى مناسك الحج بالسعى بين الصفا والمروة لأنها من وجهة نظره كانت مجرد امرأة تجرى ملتاثة بلا وجهة فزعاً على رضيعها من الموت ظمأً، وبالتالى ليس على جموع المسلمين الواعين السير على نسقها من بعد الطواف بالكعبة، وأذكر أننى قبل عودتى إلى الديار بكامل قواى العقلية قد دسست بالكتاب الأخضر للقذافى الذى وُزِعَ علينا قسرًا تحت فراشى بالفندق حتى لا أحمل إثمًا، وكفانى ما قد سمعت!!!
وتقيم هاجر عند زمزم مع إسماعيل ويورق المكان وإذا بركب يمر ببطن الوادى يشاهد طيرا فأنكر أن يكون هناك طير بلا ماء فبعث برسوله فأتاه بالخبر اليقين فرجع الركب كله يسألها: لمن هذا الماء؟! فقالت إنه لي، فاستأذنها جمع الركب أن يسكنوا معها فأذنت فنزلوا وبعثوا إلى أهلهم ليلحقوا بهم وأقاموا العرائش تحت الدوح لتساعدهم فى تشييدها مع ابنها، وشب إسماعيل عليه السلام ليتعلم منهم العربية ويتزوج إحدى بناتهم..
غاب إبراهيم وفى عودته وجد إسماعيل يبرى نبالا تحت دوحة قريبة من زمزم فقال: يا إسماعيل إن الله أمرنى أن ابنى هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة فأجابه الابن: أطع ربك عز وجل، فعاد الأب يخبره: إنه أمرنى أن تعيننى عليه: «وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود» صدق الله العظيم.. فقاما وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحا يقال لها الخجوج، لها جناحان ورأس على هيئة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة لوضع أساس البيت الأول، فأتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس فجاء القول الحق فى سورة الحج: «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت» صدق الله العظيم.. ومن بعد وضع الأساس قام إبراهيم وإسماعيل ببناء القواعد حتى بلغا مكان الركن فقال إبراهيم: يا بنى ابحث لى عن حجر أضعه هنا.. قال: يا أبى إنى تعب.. وذهب ليأتيه بحجر قريب لم يرضه، فطلب منه الأحسن فانطلق يبحث عن آخر، فجاء جبريل لإبراهيم بالحجر الأسود، وعندما عاد إسماعيل بحجر جديد وجده عند الركن فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك، فرفعاه وهما يقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم».
الحجر الأسود الذى يزعم المستشرقون أنه نيزك من النيازك وشهاب من الشهب استقر على الأرض، وما يعلمه المسلمون أنه من ياقوت الجنة يشهد يوم القيامة لمن استلمه وقبله من أهل الدنيا وقد وضعه إبراهيم عليه السلام فى مكانه من الكعبة بوحى من الله.. ولقد تعرض الحجر الأسود للاعتداء فى آخر محرم عام1351 ه وذلك حينما أقدم رجل فارسى من بلاد الأفغان على قطع جزء منه إلى جانب سرقته لقطعة من أستار الكعبة المشرفة فأعدم عقوبة له، وقام الملك عبدالعزيز آل سعود بإعادة القطعة بيده فى مكانها بعد لصقها بمعجون خاص للتثبيت أمام جمع من العلماء.
فى الطواف تتعلق عينى من بعيد بحجر الجنة فالزحام لا يمكننى من لمسه وهو الذى قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يديه عليه ثم مسح بهما وجهه بعدما فاضت عيناه بالبكاء.. ووصفه العالم ابن علان المكى أيام السلطان مراد العثمانى بأن طوله نصف ذراع وعرضه ثلث ذراع، وأول من طوق الحجر الأسود بالفضة عبدالله بن الزبير، ثم تتابع الخلفاء والأثرياء من بعده فى عمل الإطار من ذهب وفضة، وكان آخر من أهدى إطار الحجر من الفضة الخالصة قبل الحكومة السعودية السلطان محمد رشاد خان فى عام1331 ه وأتى الملك عبدالعزيز عام1366 ه ليصلح من الإطار ثم فى عام1375 جدد الملك سعود الإطار من الفضة الخالصة.
كان ظهور زمزم فى عام2572 قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبسبب الظروف السياسية والجغرافية طمرت واندثر موضعها، وظلت لا يُعرف لها مكان إلى أن أظهرها عبدالمطلب من محبسها بأمر إلهى جاءه فى رؤياه فاندفع مع ابنه الوحيد الحارث لحفرها، وأنذر لئن أتم حفرها وتم له أمرها واكتمل له من الأبناء عشرة ليذبحن أحدهم لله عز وجل فمنحه الله مراده وأصبح له من الأبناء الحارث وهلال، وعبدالله والزبير وأمهما المخزومية، والعباس وضرار وأمهما النمرية، وأبولهب وأمه الخزاعية، والغيداق وأمه خزاعية، وحمزة والمقوم وأمهما الزهرية، ووقعت القرعة على عبدالله والد رسول الله، ولكن الله الذى جعل زمزم سببا لحياة إسماعيل فيما قبل لم يجعلها سببا لقتل أحد فيما بعد فهى ماء الحياة، لهذا كان فداء عبدالله بمائة من الإبل.. وفى يوم إنقاذ الابن انصرف عبدالمطلب إلى منزله ليمر بوهب بن زهرة بن كلاب وهو جالس فى المسجد وكان من أشراف مكة فزوج ابنته آمنة لعبدالله بن عبدالمطلب ليولد الهدى أشرف خلق الله أجمعين.
زمزم.. البئر المبارك الذى لم ينقطع ماؤه عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد كتب إلى سهيل بن عمرو يقول: إن جاء لك كتابى هذا ليلا فلا تصبحن، وإن جاءك نهارا فلا تمسين حتى تبعث إلى بماء زمزم، فملأ له فرادتين وبعث بهما على بعير.. وقال ابن أبى رباح التابعى عن ماء زمزم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حمله، وأيضا حمله الحسن والحسين.. وتردد أم المؤمنين عائشة قول لبيد الشاعر الذى روت له نحو ألف بيت عندما ذهب يؤنب رجلا ويخبره بأنه مع شرفه لم يبلغ مبلغ رفعة قريش سكان الحرم شاربو زمزم:
فما أنت من أهل الصفا ولا لك حظ الشرب من ماء زمزم
وأزور وأطوف وأشوف وأستشعر وحشة للدرج الهابط للينبوع المقدس.. كنت أضغط على الصنبور الغليظ فيندفع الماءالزلال.. أفتقد ذلك الكوز المعدنى المثبت بالسلسلة لأرتوى وأتوضأ وفوق بلاط بئر زمزم المندى فى ساحته الأمامية أصلي، فهكذا كان يدعونى المكان النوراني.. الآن وبعد أكبر توسعة فى تاريخ الحرم المكى لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز التى تستوعب ملايين الحجيج من كل فج عميق أكتفي بالارتواء.. ألتزم بأن زمزم هنا وهناك.. بأن زمزم يجرى ماؤها فى شعاب الأرض التى أخطو عليها وأركع فوقها وأصلى بين حناياها.. زمزم ملء السمع والبصر ومسام الجسد والروح هناك بجوار مقام إبراهيم أمام الكعبة المشرفة.. زمزم هنا على بعد 18 مترا من الحجر الأسود.. زمزم.. أدور فى الأنحاء المباركة أنهل منها حتى أتضلع فأملأ الضلوع، فماؤها إن شربته لقضاء مطلب قضاه الله لك، وإن شربته لطلب العلم شرح الله صدرك وفقهك فيه وعلمك ما لم تكن تعلم، وإن شربته طلبا للفهم رفع الله الغفلة عن قلبك.. وأكثرنا غافلون.. زمزم.. خير ماء على وجه الأرض كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينضب ولا ينتهى ولا ينفد.
اللهم ارزقنا العودة.. واجعلنا من عواد بيتك الحرام ممن يستطيع إليه سبيلا.
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.