نهر حب لا يتوقف عن الجريان. تؤرجح أمواجه النسمة الحالمة. علي ضفتيه تتجلي «بودا» و»بشت» حيث يمتزج سحر أوروبا الشرقية مع حداثة أوروبا الغربية، لتتألق عاصمة المجر «بودابست» في أبهي صورها، محتفظة بتاريخها الجميل من أبنية و شوارع قديمة عريقة. تمخر السفينة عباب النهر علي موسيقي سحرية لقيثارة ناغمة تعزف «الدانوب الأزرق»، واحدة من أرقي المقطوعات الموسيقية للمبدع يوهان شتراوس. لحن أبدّي يغازل نهر حلو الخرير.. ملاذ ظمئ الفؤاد. ملكة متوّجه فوق عرش الليل بأضواء مصابيح المقاهي وجسور «السلسلة» و«الحرية» و«مارجريت». وفي الصباح تسكب الشمس أشعتها عليه لتضفي علي وجهه الصافي لونا ذهبيا. وإن كان يمر بعشر دول أوروبية، تبقي «بودابست» هي أجمل زهور الدانوب! أسقي نفسي الظمآي من ينبوع الجمال في مدينة تتنفس الحرية.. تحب الأطفال وتنسيق الزهور والحيوانات الأليفة.. تعشق الكلمة والألوان والنغمة الحلوة. أتجول بين حدائق الوجوه لأكتشف جوهر شعب طيب المعشر، يحسن استقبال الغريب. أركض بين حدائقها الغنّاء التي تزخر بمنحوتات رخامية ذات الأحجام المتنوعة لشعراء وموسيقيين ورسامين أثروا الحياة الفنية.. فيستوقفني تماثيل الموسيقار «بيلا بارتوك» ورفيقيه «زولتان كوداي»، و«فرانز ليست» (صاحب الملحمة الهنجارية الشهيرة).. اتساءل: كيف نحت الفنان وجوه هؤلاء ونجح أن ينقل عذوبة الروح إلي الصلصال؟.. كيف استطاع ناحت الصخر أن يجسد نبضهم، وأوجاعهم، ولحظات الإلهام، وجنون الإبداع علي حجر كاد أن ينطق من فرط الإتقان؟.. ربما رحل هؤلاء العمالقة بعيداً..إلي حدائق القمر.. لكن تماثيلهم الرخامية تبقي في سكون الوجود لحناً سرمدّيا. علي هذه الأرض الجميع يمارس الرياضة بكافة أشكالها، خاصة الفروسية وركوب الدراجات. أطوي دروب المدينة الحلم لأقطف ما شئت من زهور الذكري. فإذا بروحي تشرد أمام بهاء مبني البرلمان العريق ذى المائة عام الذي صممه وأشرف علي بنائه المهندس شتايندل امري علي الطريقة النيوقوطية. وعلي بعد خطوات منه، يطل من أعلي تل جيليرت «تمثال الحرية» لامرأة تمسك بأيديها سعفة نخل وتتطلع إلي السماء. صمم هذا التمثال البرونزي عام 1947 تخليدا لذكري تحرير السوفييت للمجر من الإحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية. كُتب عليه: «شيّدته الأمة المجرية امتناناً لأبطال روسيا الذين حرروها». تلاشت ذكريات الوجع والدمع في المآقي، ولم يبق سوي كلمة وفاء وتقدير، للصديق الروسي، من شعب عاني أهوال الحروب والاستعمار علي مر التاريخ. جاءت زيارتي إلي المجر ضمن وفد الاتحاد الدولي للكتاب السياحيين (فيجيت). وخلال افتتاح الدورة السادسة والخمسين لاجتماعات الاتحاد، أكد وزير السياحة هشام زعزوع إن الشراكة بين الاتحاد ووزارة السياحة المصرية عميقة. وأضاف في الكلمة التي القاها نيابة عنه صلاح عطية نائب رئيس الاتحاد إن مصر تترقب مزيدا من الدعم من ( فيجيت) للسياحة المصرية مثلما يحدث في كل الازمات التي تمر بها. كما أعرب عن امتنانه لجميع الأقلام الأجنبية التي كتبت في صحفها مقالات عن مصر داعمة لنا في أزمتنا. بينما أشار رئيس الاتحاد الدولي للكتاب السياحيين تيجاني حداد إلي أن السياحة أصبحت من أهم الصناعات في العالم حيث تشكل حوالي 30% من الدخل العالمي، بالإضافة إلي أنها تسهم بصورة كبيرة في التقارب والتبادل الثقافي بين مختلف دول العالم. ومن جانبها، أكدت وزيرة الاقتصاد المحلي المجري اندريا نيميس ان السياحة من أهم القطاعات التي تعتمد عليها المجر في اقتصادها حيث وصل إلي المجر 8,8 مليون سائح في العام 2013 وهو ما يعد ارتفاعا بنسبة 5% عن العام السابق له. يذكر أن وزير السياحة هشام زعزوع كان قد عقد -في يوليو الماضي- جلسة مباحثات ثنائية مع السفير المجري بالقاهرة «ببيتر كيفيك» لبحث سبل تعزيز السياحة بين البلدين. تضمن اللقاء اقتراحات بإمكانية عمل خارطة طريق لتنشيط السياحة المصرية في المجر بهدف رفع وعي المجريين بالمقصد المصري وتعريفهم بمقومات المنتج السياحي المصري المختلفة. كما تناول الاجتماع فكرة قيام المجريين بعقد مراسم زواجهم في الأقصر أمام المعابد علي أن يطلق عليه «الزواج الفرعوني».. بالإضافة إلي أهمية زيادة حجم الطائرات التي تعمل بين بودابست والقاهرة وشرم الشيخ. بدي لي واضحا عشق المجريين للمحروسة من خلال جولاتي بالأسواق وسؤال الباعة عن أحوال مصر واحتفائهم الكبير بالوفد المصري. كما لمسته في زياراتي لمصانع البورسلين. فليس من السهل علي بلد مثل المجر، يجسد هويته في كل تفاصيل الحياة، أن يصنع أواني فخارية أو فازات زهور تحمل وجوها فرعونية وأهرامات!.. إنه عشق أكيد لحضارة مصر التي أبهرت الدنيا منذ ميلاد شمسها. قبو النبيذ.. مزارع العنب الأبيض.. حقول البابريكا (الفلفل الأحمر).. فارس شجاع يروض الثيران، وآخر يقود عربة يجرها ستة خيول برّية.. فتاة ضحكتها عذبة ترتدي ملابس فلكلورية ترسم أناملها وردات علي أوان من الفخار أو تطرّز بها مفروشات.. موسيقي ورقصات شعبية يشارك فيها جموع الفلاحين.. مفردات عديدة يزخر بها ريف المجر الساحر. لا أعلم أي الأزمنة دخلناها؟.. هل جئنا من العدم، أم من حياة نسيناها؟.. أدخل في تفاصيلها لأجد نفسي بمدن الحكايات وكتب الأساطير.. خيالات قرأت عنها أو شاهدت بعض ملامحها في أفلام تصوّر حياة أوروبا خلال القرون الوسطي. الريف هنا ضالة هواة ركوب الخيل.. تنتشر مزارعها التي هي شاهد علي ماض عريق للمجر في تاريخ الفروسية. فقد لعبت الخيول دوراً مهماً منذ أن وصل الأسلاف من سهول اللآورال علي ظهورها، وارتعدت أوروبا لسنين من النبال المجرية. عُرف الفارس المجري بأنه أشجع وأقوي المقاتلين قبل أكثر من ألف عام. هو الذي ابتدع سلاح الفرسان الخفيف سريع الحركة في مقابل الفارس الأوروبي التقليدي المثقل بالأسلحة والدروع. لذلك قام العثمانيون خلال فترة حكمهم لدولة المجر وأجزاء من النمسا (مائة وخمسين عامًا) بالقضاءعلي خيول دولة المجر بالكامل. في الشتاء، تتساقط الثلوج فتكون قبلة لهواة التزحلق علي الجليد. وفي الصيف، هي وجهة السائح الراغب في الاستجمام والاستمتاع بينابيع المياه الصالحة للعلاج. الحياة المجرية قوس قزح مشعّ حيّ الألوان، تختلط فيها أوراق الشرق والغرب. حفل لكلاسيكيات «بيلا بارتوك» في الأوبرا، ليس بديلا عن الاستمتاع بفنون الريف من موسيقي شعبية ورقصات فلكلورية مصاحبا لها أنشودة مطر أو تغريدات الطيور. بلد مدهش في كل شيء، لا تكفي فصول سنة واحدة للاستمتاع به!.. لا يكفي ربيع واحد لتطوقك ورود حدائقه اليانعة وأشجار شوارعه المورقة. لا يكفي صيف واحد لتطوّي فيه السهول الخضراء علي ظهر جواد أصيل، تشرب معه رحيق الحقول فجرا. لا يكفي خريف واحد لنسجل فيه اسماءنا علي أشجار الغابات العارية، بعد أن عصف تراب من طيب ومن طرب بأوراقها.. لا يكفي شتاء واحد لنعيش فيه فصل الحب، ونرشف فيه كأس الدفء والهوي علي ضفاف الدانوب.