على الرغم من تردد كلمة المصالحة والدعوة لضرورة تحقيقها بين النظام والمعارضة، لكنها ظلت الكلمة الأكثر نقدا ورفضا على مدار السنوات الثلاث الأخيرة. فقد قوبلت فكرة المصالحة مع نظام مبارك بالرفض بدعوى أنه لا يمكن التصالح مع فئة سياسية يغلب عليها الفساد والاستبداد ثار عليهم الملايين من المصريين. وقوبلت فكرة تصالح نظام الإخوان مع القوى المدنية بالرفض بدعوى أنه لا داعى للتصالح مع الضعفاء الذين لا وزن شعبى لهم. والآن تقابل فكرة تصالح النظام مع الاخوان بالرفض لأنه لا يمكن التصالح مع الدم، وفكرة تصالح النظام مع ما يمكن تسميته ببعض «القوى الثورية» المعارضة قوبلت أيضا بالرفض بدعوى عدم التصالح مع المخربين والفوضويين! ما يحكم المشهد السياسى فى مصر منذ ثورة يناير هو «ثقافة المنتصر»، والمنتصر هنا هو من يفوز بتأييد الشعب سواء كان هذا التأييد بالخروج فى مظاهرات مليونية أو التأييد عبر صناديق الاقتراع. من ينتصر بهذه الشعبية يرفض المصالحة مع الآخر. آليات العدالة يخطأ من يتصور أن المصالحة المرجوة اليوم أو فى الأوقات السابقة وربما القادمة فى مصر فرصة للإفلات من العقاب أو إهدار لدم الضحايا من اى طرف كان. فالمصالحة الحقيقية السليمة لا يمكن تصورها إلا ضمن سلسلة متصلة ومتشابكة من الآليات ضمن اطار مسار متكامل يسمى «العدالة الانتقالية» وهو المسار الذى من المفترض أن يرسمه مجلس النواب القادم وفقا للمادة 241 من الدستور الحالي. تتضمن العدالة الانتقالية عدة آليات تبدأ بالكشف عن الحقيقة وتوثيقها وإعلانها بهدف الاعتراف بحق الضحايا وحقيقة الأخطاء، ثم إصلاح المؤسسات والقوانين وتحديد الأسباب التى أدت إلى تلك الانتهاكات، مع آليات تعويض الضحايا وذويهم وغيرها من الآليات كل ذلك للوصول الى الهدف الأعظم وهو الحصول على مستقبل خالى من أخطاء الماضي. فى ظل مثل هذا المناخ تكون المصالحة أمر طبيعى ومنطقي. من جانب أخر، لا يمكن تصور أن تكون المصالحة مرادفة للعفو العام ولكن غالبا ما تحتوى على عفو جزئى ومشروط. حتى أن النموذج الأشهر عن المصالحة الوطنية وهو نموذج جنوب افريقيا لم يشهد أبدا عفوا عاما. ومن المنطقى التساؤل: هل الحديث عن المصالحة أمر مناسب للحالة المصرية أم أنه حديث ليس فى محله لأن مصر لم تشهد حرب أهلية او عمليات إبادة جماعية وقتل على الهوية؟ فى حقيقة الأمر ليس هناك نمط نموذجى للصراع الذى يستوجب الوصول اليه استدعاء آلية المصالحة. كما أنه لا يمكن تجاهل وجود درجة من درجات الصراع الداخلى والذى أسفر ومازال عن سقوط ضحايا. والأهم أن خيار المصالحة فى هذه المرحلة قد يفيد كثيرا فى الوقاية من تجدد صراع (Conflict Prevention) أو الوقاية من انتقال الصراع من درجة إلى درجة أكبر. على أى حال تبقى المصالحة أحد خيارات حل الصراعات، وفى المقابل يظل خيار الحل الأمنى والقضائى هو الخيار الأخر لدى النظام. ويظل السؤال: متى يمكن ان تكون المصالحة هى خيار الطرفين النظام والمعارضة فى مصر؟ سيناريو الرفض: تشير أغلب الشواهد أنه الخيار الأقوى للنظام حتى هذه اللحظة، وذلك استنادا على تصريحات متعددة للرئيس عبدالفتاح السيسي، تعبر عن أن النظام ليس فى خصومة او صراع مع جماعة الإخوان بينما الشعب هو من يرفض التصالح مع تلك الجماعة بسبب جنوحها للعنف. كما يلوح بأنه يعلم بأن خيار الشعب بالتأكيد هو رفض تلك المصالحة. كما صدرت تصريحات من بعض الوزراء ردا على المبادرات الأخيرة لتعلن رفضها التام والقاطع لأى نية للمصالحة بين النظام وجماعة الاخوان، ومنها تصريحات وزير العدالة الانتقالية المستشار ابراهيم الهنيدى الذى اعتبر حديث المصالحة مع الاخوان مجرد «حديث قوم لا يفقهون» على حد وصفه، واكد أن عمل الوزارة منصب على تحقيق الوئام بين أبناء المجتمع، لكن لا نية أبدا للتصالح مع من يسفكون الدماء. كما جاءت تصريحات وزير الخارجية المصرى سامح شكرى فى اجتماع باريس للتحالف ضد داعش لتؤكد على ان النظام ليس لديه سوى تصور واحد وهو المساواة الكاملة بين التنظيمات الاسلامية المتشددة، حيث تتساوى كل من داعش والإخوان المسلمين فى كونهما جماعات ارهابية. ومن ثم، تؤكد الخارجية المصرية على ان الموقف الرسمى للنظام هو ضرورة أن يكون التحالف الدولى الجديد ليس تحالفا فقط ضد داعش فى العراق وسوريا ولكن ضد الإرهاب اينما وجد وفى القلب منه تنظيم الاخوان المسلمين. وبناء عليه، يكون الخيار الأقرب الى التأكيد هو خيار محاربة الارهاب (الإخوان) داخليا وخارجيا محاربة أمنية وعسكرية ومخابراتية بامكانيات وقدرات وطنية وكذلك دولية من خلال التحالف الدولى فى المستقبل وهو الأمر الذى يعنى ان خيار المصالحة أمر بعيد فى هذه المرحلة. على جانب أخر، تشير كل التصرفات والتصريحات المعلنة لقيادات جماعة الاخوان وتحالف دعم الشرعية حتى هذه اللحظة إلى رفض خيار المصالحة، وذلك لأنه من المؤكد أن ذهاب الجماعة الى مائدة المفاوضات الأن يعنى بالضرورة وبحكم الواقع انه سيكون الجانب الأضعف الذى سيتعين عليه مبدئيا الاعتراف بثورة 30 يونيه وشرعية الرئيس السيسى وربما يصل الأمر الى حد الاعتراف بالمسئولية عن وقوع ضحايا فض اعتصامى رابعة والنهضة، وهو الأمر الذى سيفكك الجماعة تماما ويؤدى الى انشقاقات مدمرة لها. عامل الوقت وقد تبنت جماعة الاخوان منذ عزل الرئيس السابق محمد مرسى منهج «عامل الوقت» وهو الاستمرار فى رفض الواقع الجديد ومقاومته والتعويل على فكرة أنه بمرور الوقت لابد ان يفقد النظام الجديد شعبيته تحت وطأة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية العديدة. كما تواجه جماعة الإخوان مأزقا حقيقيا يتمثل فى انتشار حالة من الغضب والرفض للمصالحة بين شباب الجماعة الذى لا يعنيه كثيرا المكاسب السياسية أو المستقبلية بقدر ما يشغله مشاعر الغضب من إسقاط النظام ومن حملات التشويه الاعلامية ومن الملاحقات الأمنية والاعتقالات والأحكام القضائية الواسعة بالإعدام وكثرة الضحايا الذين سقطوا فى فض اعتصام رابعة والذى يحرص الشباب على تداول الصور ومقاطع الفيديو التى توثق هذه الأحداث على صفحات الانترنت. سيناريو القبول: يقوم هذا السيناريو على تصور امكانية أن يكون ما يطفو على السطح من مبادرات أو تكهنات او أخبار عن لقاءات تدور فى الكواليس بهدف الوصول الى مصالحة بين النظام والأخوان له أساس غير معلن تفاصيله حتى هذه اللحظة. وعلى الرغم من قيام جميع الأطراف بنفى كل هذه الأخبار او ارتباط الإفراج عن بعض القيادات الاخوانية بمصالحة مرتقبة، إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن وجود متغيرات قد تمهد الطريق أمام صيغة ما من المصالحة. بيئة ضاغطة وهناك العوامل الضاغطة على الاخوان لقبول الانصياع للدولة: الخسارة الكبيرة فى شعبيتها والتى تزيد مع كل عملية عنف تحدث سواء كان هناك ما يثبت فعليا مسئوليتها عنها أم لا، وأيضا مع تسليط الاعلام الضوء على ساحات التقاضى التى يحاكم فيها أعضاء الجماعة بتهم التخابر أو الارهاب. فضلا عن تغير المواقف الدولية، حيث أن النظام المصرى الجديد وخاصة بعد الانتخابات الرئاسية استطاع ان يقتنص اعترافا بشرعيته من دول كانت ترفض الإطاحة بالرئيس السابق مرسي. علاوة على فشل منهج «عامل الوقت» حتى الأن لأنه لم يؤدى الى نجاحات بقدر ما أدى الى انخفاض تدريجى فى القدرة على الحشد، وخسارة كبيرة فى عدد القيادات والكوادر النشيطة لأن معظمهم إما قتلوا او دخلوا السجون. الإدماج المشروط كما أن ثمة احتياج النظام للمصالحة الوطنية: فإذا كانت المصالحة ستبنى على اعتراف بشرعية 30 يونيه والرئيس الجديد. كما ان النظام قد وصل الى قدر مُرضى جدا من خلخلة الجماعة شعبيا وتنظيميا، ومن ثم فإن إعادة ادماج بعض أفرادها فى الحياة السياسية بشروط لن يمثل خطرا أو منافسة أو مزاحمة سياسية للنظام بقدر ما سيعود على النظام من فوائد كثيرة منها: انهاء حالة الاستنفار الامنى المكلف اقتصاديا، وتوفير مناخ من الاستقرار اللازم لمشروعات التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمار، وتحجيم ظاهرة احتجاجات طلاب الاخوان، لأن استمرار تنظيم هذه المظاهرات فى الجامعات يخلق مناخ محفز لانضمام طلاب من خارج الجماعة لهذه المظاهرات ومن ثم توسيع قاعدة المعارضة الشبابية أو الطلابية للنظام، وتحسين صورة الدولة المصرية فيما يخص حقوق الانسان. فعلى رغم كل المساعى الدبلوماسية الحثيثة للنظام المصرى لشرح خطر الارهاب ما زال يتعرض لانتقادات دولية واسعة فى هذا الشأن، كان أخرها يوم الثلاثاء الماضى عندما اصدر الاتحاد الاوروبى بيانا امام مجلس حقوق الانسان الاممى بجنيف والذى تناول بالسلب أوضاع حقوق الانسان فى مصر، وعلى اثرها استدعت الخارجية المصرية سفراء الاتحاد الأوروبى لديها وأبلغتهم رفضها الكامل للبيان وأعربت عن استهجانها من الموقف الأوروبى تجاه أوضاعها الداخلية وقالت إن صدور البيان بالتزامن مع تصاعد العمليات الإرهابية فى مصر «يفتقر للكياسة» ويثير تساؤلات حول موقف الاتحاد من الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب. وعلى الرغم من أن النظام السياسى الحالى غير مضطر للدخول فى مصالحة مع الإخوان وذلك لأنه يستند على شعبية كبيرة تناصب العداء والرفض لجماعة الاخوان، إلا أن هذا فى حد ذاته ليس كافيا ولا يعد ضمانة لاستمرار الاستقرار والتنمية والبقاء. كما أن الضمانة الحقيقية لاستقرار أى نظام هو تحقيق العدالة. العدالة التى تستطيع ان تتعامل مع ظروف استثنائية وانتقالية مرت بها الدولة خلال السنوات الماضية. عدالة تتضمن المصارحة والحقيقة والإصلاح وجبر ضرر الضحايا والعفو المشروط لتمكين ادماج قواعد عريضة من مواطنين غير متورطين بشكل كبير فى قضايا فساد او عنف. كل ذلك يعنى فى النهاية تحقيق المصالحة، التى لا يمكن أن تحدث فى ظل غياب إرادة سياسية للنظام لتبنى هذا الخيار. قنابل موقوتة ففى حين يبدو أن الحل الامنى هو الحل الأكثر فعالية فى تحقيق الاستقرار إلا أن هذا قد يكون سليما على المدى القصير إما على المدى البعيد تبقى هناك خطورة وجود مظلوميات وصراعات كامنة وغضب قد يورث لأجيال قادمة. وهذه الأمور قد تكون قنابل موقوتة تمثل تهديدات قوية للنظام واستقراره. والحل الأصعب والأطول ولكنه الأكثر فعالية هو معالجة بذور هذا الغضب وتلك الصراعات وليس تجاهلها او الاكتفاء بأنها فى الوقت الراهن أقل وأضعف من ان تكون مهددا لنظام ذو شعبية واسعة.