قرأت في صفحة »الفكر الديني« بصحيفة »الأهرام« الصادرة يوم الجمعة 5 من شوال 1435 ه، الموافق 1 من أغسطس 2014 مقالا للأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف بعنوان »فقه المستجدات وضرورة تقنين العمرة«. ومع التقدير الكامل لعلم السيد الوزير ونيته في إصلاح الواقع الاقتصادي، فإن دعوته لإصدار قانون يمنع تكرار الحج أو العمرة في أقل من خمس سنوات تحتاج إلي وقفة.فمما استلفت النظر أن المقال أخذ يسوق المقدمات المتتالية ليصل إلي نتيجة محددة، وهي تدخل لي الأمر ليقيد النوافل والمباحات فيمنع تكرار الحج والعمرة دون خمس سنوات، مع أن تلك المقدمات لا تؤدي إلي هذه النتيجة، وتدخل الحاكم في تقييد النوافل والمباحات ليس مطلقا، ولا يؤثر في صحة العبادة إن وقعت علي خلاف أمره. لقد بدأ المقال بالتذكير بأن الفتوي تتغير بتغير الحال والزمان والمكان وأحوال المستفتين، لكنه لم يذكر بقية القاعدة، وهي أن الفتوي تتغير بتغير الحال والزمان إذا كان للحال أو الزمان أو غيره دخل في طروء الحكم ونشوئه، لأن العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، أما إذا لم يكن لهذه الأمور دخل في الفتوي، فلا تتغير مع تغيرها أبدا. ثم ذكر المقال بأن هناك أولويات في حياة المسلم، وعليه ففي حالة رخاء الأمم والشعوب بحيث لا يكون بين المسملين جائع لا يجد ما يسد جوعته، ولا عار لايجد ما يستر عورته، ولا مريض لا يجد ما يتداوي به، ولا جيش لا يجد من يجهزه، ولا طريق للأمة لا يجد من يعبده، فهنا نحث علي تكرار الحج والعمرة ونعود إلي الأصل وإلي نص حديث النبي صلي الله عليه وسلم »تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة«. وهنا أقول: أما أولا فهذا الكلام في التوقف عن الحث علي تكرار الحج والعمرة مادام في الأمة تلك الحاجات، مع أن مقصود المقال ليس التوقف عن الحث، بل في منع من يريد. وأما ثانيا فلو صح هذا الكلام علي إطلاقه لأدي إلي أنه لن يكون هناك زمن نحث الناس فيه علي التكرار، لأنه ليس هناك زمن يخلو من ذلك. وأما ثالثا فإن المنع لوقوع الضائقة الاقتصادية قد يكون معارضا لنص الحديث في أنها أي المتابعة تنفي الفقر، يعني تبعده إن لم يكن موجودا، وتذهبه إن كان موجودا. وأما رابعا فأين المستجدات في هذه الأمور لتحتاج إلي فقه لها يخرج في النهاية بضرورة تقنين العمرة؟ ولو رجع السيد الوزير إلي ما أورده في مقاله نقلا عن الإمام أبي حامد الغزالي لعلم أن الأمر ليس بجديد، وأن مهمة العلماء النصح والإرشاد لا المنع والتحريم. ومن الغريب أن يسوق المقال الأحكام جزافا، ويجرد الآيات من سياقها ليدلل علي مراده. فهو يصم كل من خالف رأيه في أنه يسير وفق عاطفته وهواه بعيدا عن إعمال العقل، وترتيب الأولويات الشرعية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الرأي ليس الأوحد بين العلماء، وأن ترتيب الألويات في بعض النقاط قي يرجع لفهم الإنسان لأولويات حياته هو دون سواه. ثم يصم المقال المخالفين بأنه تنطبق عليهم مقولة بشر الحافي »إن المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا، فأظهرت الأعمال الصالحات، وقد آلي الله علي نفسه ألا يقبل إلا عمل المتقين«، وقد علم الوزير أن بشرا يؤخذ منه ويرد، وأن الأمر ليس علي سبيل الفتوي المطردة، وهلا جعلها لو كانت فتوي أنها مما يتغير بتغير الزمن والحال والشخص. ومرة أخري يسوق المقال الآيات الواردة في شأن الكافرين أو المانعين للحق الواجب عليهم ليرهب بها المخالفين للرأي الوارد فيه، فيذكر قوله تعالي »رأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض علي طعام المسكين«، وقوله تعالي »والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم«، وغيرها من الآيات. ثم إن المقال تحدث عن منع الناس من تكرار السفر للعمرة والحج دون خمس سنوات، ولم يذكر كيف سيجعل الناس تنفق مالها فيما ذكر من أمور، وكأن الغرض المنع وليس الإنفاق، فهو يمنع الناس من إنفاق أموالهم فيما يريدون من الحج والعمرة، ولو كان السيد الوزير أخذ برأي شيخ الأزهر السابق الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي رحمه الله في أن الدولة المدينة ليس لها أن تخرج أحدا علي نفقتها للحج أو العمرة مع ما عليه من ملاحظات لكان أهون مما قال. ثم إنه مع ملاحظة أن مقدار ما ينفق ليس بالمبلغ الكبير كما ورد في الصفحة نفسها وأن المستهدف ليس المنع من الإنفاق، بل تقليله، وذلك أقل القليل، إلا أنه لم يرد أيضا ما هو الرأي لو أن عدد المعتمرين والحجاج لم يقل لأن هناك آخرين خرجوا لذلك.. فهل نحدد الأعداد أيضا. ولو سلمنا جدا بأن هناك ضررا اقتصاديا سيزال بمثل هذه الإجراءات ألا يكون من فقه الأولويات الذي رتب عليه المقال أحكام، أن نحصر ما يمكن ترشيد الإنفاق فيه ثم نرتبها ترتيبا شرعيا لنري هل نحتاج إلي مثل هذا القانون أم لا. فالمعلوم شرعا أن ترك المباح أولي من ترك النوافل، وأن الابتعاد عن الكروهات أفضل من الابتعاد عن المباح، وهنا نقول أليس السفر للسياحة في تركيا وأوروبا أولي في التقييد من تكرار الحج والعمرة، وأليس منع استراد توافه الأمور التي تذهب بالأموال، وتغلق المصانع عندنا أولي من تقييد هذا التكرار، وأليس ما ينفق علي السينما والمسارح والمسلسلات والقنوات التليفزيونية التي لا حصر لها، وجرائد الرثارة والكذب يفوق ما ينفق علي الحج والعمرة، فأيهما أولي بالمنع أو التقييد. إننا لا نمنع من أن تكون هناك حالات يمكن فيها التقييد، بل المنع، لكن حالنا الراهن، وأسباب هذه الفتوي ليست منها، ولا تعارض في أن هناك أمورا أخري عديدة من البر والإحسان والصلة أولي من متابعة الحج والعمرة، وأعلي ثوابا، وأفضل شرعا، وأكثر قربة إلي الله تعالي، لكن الوصول إليها بالحث والتعليم والفقه في الدين، وليس بسلطان الحاكم، وسيف القانون. »إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب«. لمزيد من مقالات د. حذيفه محمد المسير