الأمن القومى مفهوم شامل يتدرج من حق البقاء ، فحماية الذات، انتهاء بفرض الإرادة. فى حق البقاء تفعل الدول كل ما هو لازم من وجهة نظرها لبقائها ، وهو من الحقوق الأساسية للدول أو الحقوق المطلقة غير القابلة للتصرف، ومثله فى ذلك حق الاستقلال والمساواة. وفى حق حماية الذات ، وهو مرتبط بسابقه، تسعى الدول لحماية ذاتها وتعزيز بقائها ، وهى بذلك ككل كائن حى له الحق المطلق فى حماية ذاته ، أو الدفاع عن النفس لضمان بقائه . أما فرض الإرادة، فهو لا يتضمن معنى الحق، ولكنه نتيجة يُفضى إليها ما قبلها من جانب الدولة التى ترى استمرار بقائها وذاتها ، نظرا لأن الخالق يستودع الكائن الحى حماية الذات والدفاع عنها. وقد شاع لدى كثيرين تصور أن الأمن القومى للدولة يتعلق أولا وآخرا بقوتها العسكرية، بصفتها الدرع التى تحميها من كافة الأخطار التى تهددها ، فهى بذلك تحقق " الردع" ضد أى عدوان ، وفى الوقت نفسه تكون بمثابة حد " السيف" الذى يحقق للدولة أهدافها .. ومن الغريب أن يأتى الرأى الذى يدرك ضيق هذه النظرة إلى الأمن القومى من رجل كان يقف على رأس أضخم وأقوى قوة عسكرية فى العصر الحديث ، وهو " روبرت مكنمارا" ، ولعل خبرته فى المجال العسكري، ثم خبرته بعد ذلك كرئيس للبنك الدولي، تؤكد رؤية شاملة، أقرب إلى الحق، مما ظهر فى كتابه ( جوهر الأمن) . وتقوم الفكرة الحديثة على أساس أن الأمن فى الحقيقة ينبع جوهره من وجود نظام متناسق للمعتقدات والمبادئ المشتركة فى المجتمع، وهذه العناصر هى الأساس الحقيقى للأمن وليس المعدات العسكرية. وفى الدول النامية التى تواجه تحديات عملية التنمية والتغير الاجتماعي، فإن الأمن ينبع أساسا من التنمية، وكما كتب على الدين هلال(مجلة شئون عربية ،1984 )، فإن الأمن ليس هو المعدات العسكرية، وإن كان يتضمنها، والأمن ليس هو القوة العسكرية ، وإن كان ركنا مهما له، وليس النشاط العسكرى التقليدي، وإن كان قد يشمله. إن الأمن هو التنمية ، وبدون التنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول النامية التى لا تنمو، لا يمكن أن تظل آمنة. ولقد أصبح من مسلمات الفكر المعاصر القول بأن التنمية الإنسانية هى قاعدة كل تنمية اقتصادية واجتماعية، فمن معطيات العصر الأولية أن التنمية تستهدف الإنسان، غاية ، وتصطنعه وسيلة، والإنسان القادر على الإبداع ،وتجاوز الواقع هو الذى يصنع التنمية، لأن التنمية فى نهاية الأمر، تغيير علاقات الإنسان بالطبيعة،وتغيير علاقات الإنسان بالإنسان، بما يصنع واقعا أفضل ، فى إطار أهداف اجتماعية محددة. وحين يمكن القول عن الإنسان القادر، يمكن القول فى الوقت نفسه عن المجتمع كله، ذلك أن المجتمع ليس مجموعة أفراد وحسب، ولكنه بناء مستقل من النظم والتنظيمات ، يمارس تأثيرا جوهريا فى سلوك أعضائه ، فى دورة كاملة من التفاعل الاجتماعي، فهو مستودع القيم ومناط الحقوق والواجبات، فالتنمية التى تطلب، هى التنمية الشاملة، رأسيا وأفقيا، إنسانا وطبيعة ونظاما. فماذا نقصد بالأمن التربوي؟ ولعلنا بعد هذا لا نشعر بأى قدر من المبالغة عندما نؤكد أن عملية بناء الإنسان المصرى هى حجر الأساس فى قضية الأمن القومى بمختلف أبعادها ومجالاتها ومستوياتها، ويصبح من الضرورى أن نلح على التحديد الواضح والصريح لمفهوم " الأمن التربوى ". والحق أننا كنا قد اقترحنا فى زمن سابق مفهوما أوليا للأمن التربوى يجعله تعبيرا عن قدرة المجتمع المصري، من خلال نظامه التربوي، على حماية الكيان الذاتى المصرى ، ونظام القيم المادية والمعنوية التى يقوم عليها هذا الكيان، من خلال منظومة من الوسائل التربوية والثقافية، حمايتها من خطر التهديد المباشر، أو غير المباشر، خارج الحدود المتمثل فى " الغزو الثقافي"، وداخل الحدود المتمثل فى مظاهر التخلف ، وتوفر المناخ الفكرى والاجتماعى السليم تشريعا وتنظيما وممارسة، مما يسهم فى إيجاد الإنسان المصرى القادر على الإبداع وتجاوز الواقع ، سعيا إلى مستقبل أفضل. والأمن التربوى بهذا المفهوم يشمل كل ما له علاقة ببناء الإنسان، مما يفتح الباب للنظر بعين الاعتبار إلى قوى التنشئة والتكوين فى المجتمع، من ثقافة وإعلام، وتعليم ، ودعوة، وأسرة، ووسط مجتمعي، لكننا سوف نقتصر هنا على الدائرة المباشرة التى تتصل بمؤسسات التعليم. خطوات على طريق "تجسير" الفجوة : ولقد عاشت مصر قرونا طويلة تتمثل هذه الحقيقة العلمية النفسية والاجتماعية والتربوية، واقعا مُعاشا، حيث كان نسيجها الثقافى واحدا ينطلق من منطلق ديني، أيا كان الموقف من هذا المنطلق، فكانت الكتاتيب تمثل مرحلة التعليم الأولى ، يتعلم فيها الطفل مبادئ القراءة والكتابة، ويحفظ القرآن الكريم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة تعليم متقدم فى المساجد الكبرى التى كانت تمثل معاهد تعليمية، إلى جانب وظيفتها الدينية المعروفة من حيث كونها أماكن لأداء شعائر الصلاة . ثم حدث ما حدث، عند قيام دولة مصر الحديثة على يد محمد على منذ عام 1805، وكيف تم استحداث، ولأول مرة، نظام جديد فى التعليم يغاير كلية ما كان قائما، ويماثل إلى حد كبير ما قام فى دول أوربا، وترتب على هذا ما هو معروف من " ازدواجية تعليم " أفرزت، عبر العقود التالية ازدواجية تفكير،وازدواجية ثقافة، أفاض كثيرون فى الحديث عنها، وتناولنا نحن هذه القضية أكثر من مرة فى مواضع أخرى . وزاد الطين بلة، من حيث الازدواجية والتعديد، ما شهدته مصر، منذ عصر إسماعيل بصفة خاصة، وما تلاه، من طوفان من مدارس أجنبية عمقت من التجزئة ، بحيث لم يعد الأمر مجرد ازدواجية . وأدرك كثير من مفكرى مصر خطر الازدواجية بين التعليمين الدينى والمدنى على الشخصية القومية، وكان سبيلهم الأول فى مواجتها، كما رأينا على يد الشيخ محمد عبده ، هو " تحديث " التعليم الديني، واتجه هذا التحديث إلى أمرين ، أولهما تجديد ما يتم تعليمه تحت مظلة العلوم الدينية، وثانيهما ، إدخال بعض العلوم الحديثة مما يتم تعليمه فى المدارس المدنية . ولم يكن الطريق سهلا، سواء لهذا أو ذاك، بل كثيرا ما كان يلاقى العقبات والمعارضة التى كانت أحيانا ما تتخذ شكل هجوم حاد يشكك أحيانا فى النوايا والمقاصد لدى دعاة التطوير والإصلاح. وفى معظم ما حدث فى هذا المجال ، كانت " ألاعيب الساسة " تقف من وراء ... بل لقد وقف شاعر كبير مثل أحمد شوقى ناظرا إلى ناقدى التعليم الدينى نظرة شك وشجب ، فقال فى قصيدة دبجها أثناء اضطرابات عام 24 ، و25 من القرن الماضى : لا تحذ حذو عصابة مفتونة يجدون كل قديم منكرا ولو استطاعوا فى المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عمرا ! وكان من سبل تقريب المسافة بين التعليم الدينى والمدني، إدخال بعض " العلوم العصرية " على الكتاتيب كى تستعمل التعبير المألوف فى ذلك العهد ، وحولوها إلى مكاتب أو مدارس أولية، وأنشأوا مدرسة دار العلوم، ثم مدرسة القضاء الشرعي، ومدارس المعلمين الأولية ، لتكون قنطرة بين التعليم الدينى والمدنى ، وحاولوا أن يمصروا التعليم المدنى بدوره إنْ فى لغته أو فى مناهجه، فعرّبوه وأبرزوا فيه معالم التربية القومية، وجعلوا للدين فيه نصيبا وإن يكن غير ملحوظ . ويظهر أن رجال الأزهر لم يقنعوا بهذا ، بل شاءوا أن يتبنوا التعليم المدنى كله ، فأنشأوا سنة 1912 قسما نظاميا يشتمل على مرحلتين أولية وثانوية ، محاكين فى ذلك المدارس الابتدائية والثانوية، ومهملين فقط فى تقديرهم اللغات الأجنبية، ولم يكن هذا تقريبا بين التعليمين بقدر ما رسخ الازدواجية وعمقها . ولعل من أبرز الأمثلة للجهود التى بذلت على طريق جَسْر الفجوة بين التعليمين ، عن طريق " تحديث " التعليم داخل المؤسسة التعليمية الأزهرية ، تلك المذكرة الشهيرة التى كتبها الشيخ مصطفى المراغى ونشرت يومى 5 ، و 7 أغسطس من عام 1928 بجريدة الأهرام ، ومما جاء بها : " يجب أن يدرس الفقه الإسلامى دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب ، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة ، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة ، كما كان يفعل السلف من العلماء " . وزاد على ذلك بقوله : " ويجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام، بما هو موجود فى الدين الإسلامي، ليظهر للناس يسره وقدسه، وامتيازه عن غيره فى مواطن الاختلاف. ويجب أن تدرس أصول المذاهب فى العالم قديما وحديثا ، وكل المسائل العلمية فى النظام الشمسى مما يتوقف عليه فهم القرآن ، فى الآيات التى أشارت إلى ذلك " . وعندما تطرق إلى نظام التعليم الدينى ، وأشار إلى مرحلتيه ( القسم الأولى ، والقسم الثانوى ) كتب بعبارة صريحة : " والتعليم فى القسمين الأولى والثانوى يكون عاما على مثال التعليم فى المدارس الأميرية " ، لكن من المهم التنبه إلى أنه لم يقصد " الدمج " و " التوحيد ، بقدر ما قصد " التقريب " و " جسر "الفجوة بين النظامين . وأيد أحد رجال الإصلاح " الشيخ عبد المتعال الصعيدى " نهج التقريب ، فكتب فى جريدة البلاغ فى 24/6/1929 يطالب بأن يجرى التعليم بالأزهر " على النظام الذى يجرى الآن فى كل معاهد العلم الحديثة ليصلح حاله كما صلحت حالها ، ويلائم العصر الذى يعيش فيه ، ولا يمكنه أن يستمر على تجاهله ". ولما أراد أن يبين السبيل إلى ذلك ، أكد على ضرورة أن يقسم التعليم فيه إلى مرحلتين ، يهمنا منهما هذه المرحلة التى تسبق التعليم العالى ، حيث أوجب أن تكون : " مرحلة ثقافة عامة تشمل أقسامه الأولية والثانوية ، ويدرس فيها كل ما يلزم هذه الثقافة من العلوم الدينية واللغوية والطبيعية والرياضية ، ويستوى فيها من يتخصص بعدها للعوم الدينية أو اللغوية أو الطبيعية أو الرياضية أو لفرع من فروع هذه العلوم ،كالطب أو الهندسة أو نحوهما ..." . وكان طه حسين أبعد نظرا من كثيرين ، وأوسع أفقا ، ذلك أنه نظر إلى المسألة فى كليتها بحيث تشمل هذا التعدد المؤسف فى مختلف أنواع التعليم بين مدنى ، ينقسم بدوره إلى اتجاهين ، أحدهما وطنى ، والآخر أجنبى ، ودينى ، تمثل فى الأزهر ومعاهده . كانت نقطة الانطلاق لدى طه حسين ، كما عبر عن ذلك فى كتابه الشهير ( مستقبل الثقافة فى مصر ) " تكوين الوحدة المصرية " من جهة، و " تثبيت الديموقراطية وحماية الاستقلال من جهة أخرى ، فما ترجمة هذا تعليميا ؟ " ..معنى ذلك أن هناك مقدارا من مناهج التعليم العام وبرامجه يجب أن يكون مشتركا بين المصريين ، ويجب أن تشرف الدولة بالملاحظة والتفتيش والامتحان على أن المصريين جميعا مشتركون فيه ، شركة عادلة ، سواء تعلموا فى المدارس الرسمية ، أم فى المدارس المصرية الحرة ، أم فى المدارس الأجنبية ، أم فى الأزهر ومعاهده " ( ص 94 ، طبعة دار الكتاب اللبنانى ، بيروت ، 1973 ) . وفى كلمته أمام مؤتمر سياسة التعليم الذى عقدته جمعية المعلمين فى نوفمبر عام 1945 ، أكد الدكتور إبراهيم بيومى مدكور، أستاذ الفلسفة الإسلامية الشهير،والرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية، على خطورة استمرار الثنائية بين التعليمين ، وذكّر الجمهور بأنه عرض هذه الفكرة بالفعل على مجلس الشيوخ أكثر من مرة فى العهد الملكى ، وأيدته لجنة الأوقاف والمعاهد فى تقريرها عن ميزانية الجامع الأزهر لسنة 40-1941 المالية . تطوير 1961 استهدف "تجسير " الفجوة بين التعليمين المدنى والدينى : شروخ التعديد تزداد فى جسم التعليم: وكان أشد ما كان ينقد به التعليم فى مصر فى الفترة السابقة على قيام ثورة يوليو1952،هو هذا "التعديد"فى تعليم المرحلة الأولى بصفة خاصة ، من مدارس كانت تسمى "أولية"لأبناءالفقراء، لا توصل إلى التعليم العالي،وتعليم ابتدائى لأبناء الطبقة المتوسطة ، وتعليم أجنبى لأبناء الطبقة الأرستقراطية،فضلا عن قطاع ضخم يتعلم تحت مظلة الأزهر ، يختلف اختلافا شديدا عن الثلاثةالسابقة ، حيث كان يتم بدرجة أساسية فى الكتاتيب ، ثم يستكمل هذا التعليم فى معاهد أزهرية. وكانت أعظم خطوة تمت حقا منذ عام 1953 ، هى توحيد تعليم المرحلة الأولى ، حتى ينشأ الأبناء وفقا لمعايير موحدة فى بداية حياتهم التعليمية ، وليكن بعد ذلك تنوع إلى تعليم تجارى أو صناعى أو زراعى ، أو عام 0 لكن لا ينبغى أن ننسى أن التوحيد كان بين التعليمين الأولى والابتدائى فقط وظل التعليمان : الأجنبى ، والأزهرى ، فى طريقهما المباين والمتباين . إلا أن وقوع العدوان الثلاثى عام 1956 ، كان فرصة لتأميم التعليم الأجنبى ، وتصبح مدارسه الابتدائيةملزمة بأن تعلم أساسيات التعليم الوطنى الذى تحدده الدولة ، وكانت تلك خطوة مهمة للغاية على طريق وحدة العقل العام 0 لكن العجيب حقاأن الانتصار العظيم فى اكتوبر عام 1973 الذى كان تخليصا لنا من نكسة 1967 ، كان مقدمة لنكسة قومية خطيرة ، عن طريق التعليم، تتزايد شدة وانتشارا يوما بعد يوم حتى كتابة هذه السطور !! فقد أدى الارتباط بعجلة الرأسمالية العالمية ، وخاصة بالولايات المتحدةالأمريكية،أو بمعنى أصح "الويلات الأمريكية "أن تنشأ سوق اقتصادى يقوم على الخدمات بالدرجة الأولى ( القرى والمنتجعات السياحية والفنادق ، والسلع الاستهلاكية،والدخول "الريعية" )دخول العاملين فى الخارج ، قناة السويس،السياحة ) ، وأن تكون الغلبة للاستيراد لا للتصدير . ووفقاللنهج نفسه ، غلب علينا فى المجال الثقافى والأخلاقى : الاستيراد ، لاالتصدير ... وكمارأينا أن يغلب على ما نستورده العديد من السلع الاستهلاكيةالاستفزازية ، كذلك غلب على ما نستورده من أخلاقيات وقيم وسلوكيات ، لاالإتقان ، والنظام ، والصحة ، والنظافة ، والحرص على المال العام ، وإنما فى كثير من الأحيان، أغان وموسيقى صاخبة ، وملابس كاشفة ، وألسن معوجة ، وسينما هابطة … هنابدأت الحاجة إلى تعلم اللغات الأجنبية ، لا كوسيلة اطلاع على منجزات العصرالمعرفية والتكنولوجية ، ولكن كوسيلة التعامل مع السوق ، ومن هنا قفزت الجامعة الأمريكيةلتكون الملك غير المتوج للتعليم فى مصر لتستقطب أبناء عِلية القوم ( ماليا وإدارياوسياسيا ) . ثم برزت كذلك مدارس لغات على كافة المستويات : بدءا من الحضانة ، حتى نهاية التعليم الثانوي. ووجدالبعض أن هناك عراقيل بيروقراطية تؤخر وتعوق الحصول على تراخيص إنشاء مثل هذه النوعيةمن المدارس ، فتفتقت الأذهان عن الحصول على تراخيص من جهات أجنبية - أمريكية بالدرجة الأولى - لإنشاء مدارس على أرض مصر ، يقيمها مصريون ، ويلتحق بهاأبناء مصريين ، ليتعلموا وفقا لمناهج أجنبية !! ويسجل تاريخ التعليم فى مصر، كيف تقرر اعتماد شهادة إنجليزية كمعادلة للثانوية العامة فى مصر عرفت باسم(G.C.E ) أن بعض أهل بيت كبير فى السلطة قد نَفَذوا إلى الجامعة وفقا لهذه الشهادة، حيث مكنت من الإفلات من مستويات معينة فى اللغة العربية، وفى الرياضيات، وفى مذكرات الدكتور عبد العظيم أنيس المنشورة فى سلسلة كتاب الهلال( 2002) تفاصيل ذلك : فقد التقى فى إحدى المناسبات بسيدة إنجليزية كانت قريبة من العمل فى المجلس الثقافى البريطانى بالقاهرة ، وسألته بقدر من الاستنكار- وكان ذلك بعد حرب أكتوبر 1973- كيف تسمح أنظمتكم التعليمية بدخول الحاصلين على الثانوية البريطانية (المستوى العادي)، الجامعات المصرية، مع أن هذه الشهادة فى بريطانيا تؤهل الحاصل عليها للخروج فقط من المدرسة الثانوية إلى العمل، وأن الطالب فى بريطانيا عليه أن يمضى عامين فى الدراسة قبل أن تقبله الجامعة، وكيف تقبل الجامعات المصرية طلبة لم يدرسوا لغتهم القومية، اللغة العربية، فى السنتين الثانية والثالثة الثانوية ؟ لقد ترتب على هذا أن قد كانت هناك أعداد هائلة متزايدة كل عام من الطلبة المصريين ، بعد نجاحهم فى امتحان السنة الأولى الثانوية فى مدارسهم ، يتقدمون لامتحان المجلس البريطانى فى الشهادة الثانوية البريطانية ، وهى لا تتضمن بالطبع امتحانا فى اللغة العربية، ويحصلون عليها خلال عام ، وبعدها يدخلون جامعاتنا ، فكأنهم بذلك قد وفروا عاما كاملا من دراستهم ووفروا مشقة دراسة اللغة العربية سنيتن كاملتين، وجامعاتنا تقبلهم على ذلك؟ فما تفسير هذا اللغز، تساءلت السيدة الإنجليزية؟ وزاد الدكتور أنيس على كلام السيدة الإنجليزية أن طالب الثانوية البريطانية المصرى قد وفر على نفسه أيضا مشقة دراسة الرياضيات فى المناهج المصرية لمدة عامين، لأن مناهج الرياضيات فى الثانوية البريطانية كانت أدنى كثيرا من مناهج مصر( أنيس: 152). وكان عدد الطلاب المصريين المتقدمين لهذه الشهادة فى هذه الفترةيزيد عادة على الألفين !! وأكدت السيدة الإنجليزية: لو أن مصريا حاصلا على الشهادة الثانوية البريطانية فى مصر تقدم إلى إحدى الجامعات البريطانية لرفض على الفور لأن هذه الشهادة فى مصر لم تكن تؤهل للالتحاق بالجامعة!! وقد تم تصحيح هذا الوضع بعد ذلك، لكن، بعد أن أفلت آلاف عبر هذه الشهادة إلى الجامعات المصرية بغير جدارة حقيقية!! وفى رسالته للماجستير التى تمت تحت إشرافنا، والدكتورة صفاء شحاتة، قدم الدكتور عاشور أحمد مجموعة من الحقائق المذهلة والمؤلمة لمدى الانتشار المستمر للتعليم الأجنبى فى مصر ، حيث بلغ عدد المدارس التى يحصل خريجوها على الI.G.C.S.E عام 2007، (68) مدرسة، وبعد سبع سنوات ، لابد أن يكون هذا العدد قد تضاعف، فى ظل الهرولة المحزنة لأبناء الشرائح الاجتماعية المرتفعة والمتوسطة إلى الحصول على هذا المستوي. ولم يقتصر الأمر بطبيعة الحال على التعليم البريطاني، بل امتد ليضم كذلك التعليم الأمريكي، والفرنسى والألمانى وغيره، ولمعرفة مدى التسارع هنا يكفى أن تعرف أن عدد المدارس التى منحت ما يسمى بالدبلومة الأمريكية كان سنة 1994، مدرستان، أصبح عام 2007 ( 81) مدرسة، ولم تسعفنا وزارة التربية حين طلبنا منذ عدة شهور إحصاء معاصرا بأعداد وجنسيات وطلاب المدارس الأجنبية بمصر. كما عرفت مصر نوعية أخرى باسم المدارس الدولية، التى تدرس مناهج دراسية تخص هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات الأجنبية لتلاميذ مصريين يعيشون على أرض مصر، أمريكية، وبريطانية ، وشهاداتها تتيح للطالب فرصة التعامل بها خارج مصر . إن المأساة التى تزعجنا هنا حقا هو أن هذه المدارس تعتبر " مستوطنات تعليمية": انجليزية، وأمريكية ، وألمانية وفرنسية، وهلم جرا، يعيش فيها أبناؤنا بيئة ثقافية منعزلة إلى حد كبير عن البيئة الاجتماعية والثقافية المصرية، حيث لا يُشجع فيها التحدث باللغة العربية. والمسألة لا تقف عند حد لغة أجنبية، وإنما هى منظومة متكاملة من القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم والاتجاها التى تنزع أبناءنا من " شجرتهم" ليكونوا صالحين للزرع فى مجتمعات أخري. وويزيد الطين بلة أن نجد أنه بدلامن أن تقف الدولة أمام هذا التيار ، أو على الأقل توجهه وترشده ، دخلت فى منافسةمعه ، فأنشأت هى الأخرى مدارس لغات حكومية حتى تهرب من النص الدستورى الملزم بتقديم التعليم مجانيا ، وتفرض مصروفات ، وتزعم للناس أنها تقدم لهم خدمة رخيصةمقارنة بمدارس اللغات الخاصة ، لكنها تتحاشى المقارنة بما يجب أن تكون عليه مدارس الدولةالحكومية . والأكثر مدعاة للحزن حقا، أن يدخل التعليم الأزهرى ، المنوط به الحفاظ على اللغة العربية، حلبة التنافس، فيفتح أبوابه لمدارس تعليم بلغة أجنبية، مشاركا وزارة التربية فى الانضواء تحت تحت شعار " الجمهور عايز كده" . وهكذاأصبح لدينا هذا ( الموزاييك التعليمي: ( - التعليم الحكومى المجانى متدن الخدمة التعليمية . - التعليم الحكومى بلغات . - التعليم الخاص بغير لغات . - التعليم الخاص بلغات . - التعليمالأجنبي. - التعليم الدينى ( والذى تفرع بدوره إلى تعليم " بلسان عربى مبين"، وتعليم بلسان لا هو عربى ولا هو مبين!!). ست أنواع...أكرر ، فى تعليم المرحلة الأولى ، الذى يمثل فى المنطق التربوى والتنشئة الوطنيةوالقومية(جذرالشجرة التعليمية ) !! إننا،وفقالما هو متفق عليه فى علم النبات ، نجد أن الشجرة الواحدة ، لابد أن يكون لها جذرواحد ، فإذا ما تعددت الجذور، تعددت الأشجار، فهكذا فى التعليم ، تعليم المرحلةالأولى هو بمثابة جذر الشجرة ، لابد أن يكون واحدا ، وإلا رأينا أشجارا متعددة ! نظرة إلى المستقبل : من هنا فإننا نرى أن نعود إلى نقطة البداية لنؤكد تلك الحقيقة التى يبدو أنها – فى التطبيق – قد غابت عن كثيرين ، ألا وهى أنه ليس شئ أكثر عونا على تحقيق التناسق والانسجام فى أمة من وسائل التربية والتعليم ، ففى المدرسة ينبغى أن يقضى أبناء الجيل الواحد ، أطفالا وشبابنا ، ردحا من الزمن ، وهم إخوة متعاونون ، وأصدقاء مؤتلفون ، وفيها يغذون بغذاء عقلى وروحى مشترك ، ويربون على طرائق فى السلوك والتفكير متشابهة ، ويزودون بقسط من الحقائق والمعلومات يلتقون عنده على مدى الحياة ، ذلك لأن الاتصال والتعاون الفكرى فى حاجة إلى أدوات ووسائل لا تقل خطرا وأهمية عن وسائل التعامل والتبادل المادى ، فإذا كان هناك " عملة "، متفق عليها تقوم عليها المعاملات بين أفراد المجتمع، فلا يقل عن ذلك أهمية الاتفاق على جملة المفاهيم والقيم التى تعد بمثابة " العُملة " الفكرية، والتى بدونها يعز التفاهم والاتفاق ، وكلما كان هذا النقد ( العُملة)عاما واضحا متفقا عليه متداولا، تقاربت الآراء وتلاقت الأفكار . والترجمة العملية لهذا هى ضرورةأن تكون هناك مدرسة موحدة تقدم تعليما أساسيا لكل أبناء المصريين، حتى نأمن توافر جملة الشروط الأساسية لتنشئة مواطن يشعر بمصريته ويعتز بها، ولا يراها منقوصة لا تكتمل إلا بما هو أجنبي، وأن يكون التنويع والتعديد فيما بعد مرحلة التعليم الأساسي.. إننا نؤكد للجميع ضرورة التفرقة بين "تعليم لغة أجنبية" ، و" التعليم باللغة الأجنبية""، ولا يوجد عاقل فى العصر الحالى إلا ويرحب بتعليم لغة أجنبية، لكن فى الوقت نفسه، فإن الوطنية تفرض على كل عاقل أن يعترض على التعليم بلغة أجنبية، خاصة فى مرحلة التعليم الأولي. إن من أولى خطوات النهوض الحضاري، الثقة بالقدرة الوطنية على هذا النهوض، وتزايد أعداد أبناء المصريين فى التربية والتنشئة وفقا لهويات وثقافات أجنبية فى المرحلة الأولى خطر لابد من إيقافه. ألا ، هل بلّغت؟ اللهم فاشهد...