العولمة قديمة ربما قدم الانسانية، لكنها مرت بمراحل تطور، لعل أخطرها، كانت المرحلة من عام 1975 الي 1990 عندما حدث تغير فى تمركز الرأسمالية، وأصبحت الإحتكارات تسيطر على النظم الانتاجية. هذه السيطرة أدت إلى التفاوت الكبير للدخول فى كل دول العالم بلا استثناء. وهذا التفاوت المتصاعد باستمرار لايمكن أن يستمر لأنه مرفوض، ولذلك فإنه يؤدى بالضرورة إما إلى ثورات أو انتفاضات تختلف قوتها من مكان لآخر. وهذا النوع من السيطرة يفترض تصفية وجود كيان الدولة وهذا مستحيل لأنه لايوجد تصور لادارة المجتمع دون دولة.. وهنا يحدث التناقض القاتل للعولمة. هذه أحد تجليات مفكرنا الكبير دكتور سمير أمين خلال الندوة التى اقيمت لمناقشة كتابة «قضايا الشيوعية المصرية» وكعادته أبحر بنا بعقله الناصع فى الصراع العالمى وسيطرة الرأسمالية والربيع العربى ، وطبعا قضية الشيوعية المصرية وشاركه فى هذا الابحار نخبة من المثقفين فى مقدمتهم الدكتور جلال أمين والدكتور على الدين هلال وحلمى شعراوى وآخرين وأدار الندوة نبيل عبدالفتاح. وثائق الناصرية قبيل الندوة تحدث الدكتور سمير أمين للأهرام قائلا جمعت مجموعة وثائق خاصة عن المرحلة الأولى للناصرية أى منذ 1952 إلى 1957 وخروج جمال عبدالناصر منتصرا من حرب 56 وهو ما يعتبر بداية الاتجاه الجديد للناصرية التى دخلت مرحلة مختلفة تماما عن المرحلة الأولى .حيث كان تنظيم الضباط الأحرار يسير بسياسة ليبرالية شبيهة بالإنفتاح، وأوهام مساهمة رأس المال الأجنبي.. ولإن ذلك لم تكن له نتيجة فقد حدث ثورة ثانية عام 1954 عندما بدأ عبدالناصر يتخلص من الجناح اليمينى للضباط الأحرار وحل محله الاعتماد على الشعب، ثم تلا ذلك مؤتمر باندونج فى ابريل 1955 الذى تأسست منه مجموعة عدم الانحياز كجبهة جديدة معادية للاستعمار، وكل ذلك أدى للتوجه إلى المرحلة الثانية للناصرية من 1970:57 وسوف أحاول أن أعمل مقارنة بين ما حدث فى تلك المرحلة الباكرة للناصرية، وما قد يحدث خلال السنوات المقبلة بعد إحباط المشروع الاسلامى السياسى وفتح الطريق لنهضة مصرية جديدة. جلال أمين ساخرا بعد هذه المقدمه الخاصة للأهرام بدأت الندوة حيث تحدث الدكتور جلال امين قائلا :الكتاب يعود جزؤه الهام إلى 60 سنة مضت ولكن فيه إشارات إلى ما يجرى بمصر والمنطقة الآن. مضيفا بسخريته المحببة إننى كنت ساذجا وقتها، بينما هم، يقصد الدكتور سمير أمين ، واليسار المصرى كانوا «واخدينها جد شوية»، كانت سذاجتى مفيدة فعبرت الفترة بأمان، أما دكتور سمير أمين صاحب هذه الندوة فعبرها بشق الأنفس وبتضحيات جسيمة. بعد هذه الكلمة الكاشفة دخل إلى العمق مباشرة قائلا: قراءاتى للماركسية ولسمير أمين أفادتنى فى معرفة أهمية العوامل الاقتصادية وأن أتخلص من مناقشة الأمور طبقا لما يجرى على السطح.. دائما هناك مسائل أعمق من ذلك وهى كانت مازالت معى حتى الآن، فمثلا يقال عن داعش أنها تأثرت بالوهابية ولكن المسألة أكبر من ذلك، لان ما يحدث فى المنطقة.. هو جزء مما يحدث فى العالم. وهذه هى أهمية دراسة سمير أمين.. فالربيع العربى لايمكن النظر إليه على أنه عربى و«خلاص»! وقد قلت لأحد الصحفيين الأجانب من الصعب أن تقوم ثورة فى تونس ثم تقوم بعدها فى مصر رغم اختلاف الظروف بين البلدين. ومن هنا فقد خطر فى ذهنى تشخيص لما يجرى فى المنطقة وهو تشخيص يستحق النظر وله علاقة بما استفدته من قراءة سمير أمين، بل وتتلخص فى مقولته «عولمة العالم العربي» فهى لاتقصد ضم دول دون معرفة طبيعة هذه الدول لاكتساح اقتصاديات السوق للمنطقة العربية بأكثر مما كان قائما. ثم ضرب مثلا أخر قائلا: عندما قامت ثورات أوروبا الشرقية قيل إنها ديمقراطية لكننى لم أصدق ذلك أبدا. رغم أن الناس خرجت فى الشوارع تطالب بالديمقراطية مثلما حدث عندنا، ولكن لاحظ أن ما حدث فى أوروبا الشرقية ليس هو الديمقراطية المأمولة. فالنظام الغربى لم يتحمس للديمقراطية ولكنه يتحمس لنظام السوق. فدوافع الغرب للديمقراطية لا تشبه دوافعه لانتشار الكوكاكولا وكنتاكى لقهر أسواق جديدة ففى حالة الديمقراطية تتوقف الجيوش بينما الآخرون عندهم جيوش ومدافع. ولذلك تلاحظ أننا فى المنطقة العربية لم نحصل على ديمقراطية أكبر وأشك أن نحصل على مزيد من الديمقراطية. فالقوى الخارجية أبدت ما يسمى بالربيع العربى لكنهم لم يتحمسوا أبدا للديمقراطية فقد كانوا يؤيدون مبارك لمدة 30 عاما. فالشركات الكبيرة يهمها نظام سوق أكثر انضباطا حتى »يعرفوا يشتغلوا«. وأنا أرى أن هذا ما يحدث (أخمن ذلك) فهل يتعارض ذلك مع الشعارات المرفوعة لداعش. لاحظ أن أغلبهم مرتزقة أو مضحوك عليهم وهم يحاربون من أجل العولمة. تناقض العولمة ثم تحدث الدكتور سمير أمين قائلا: الحركة نحو الاشتراكية بدأت منذ قرن ونصف القرن وأنا دائما أخشى المقارنة لانها تنطوى على خطر عظيم، الآن الأوضاع تغيرت سواء مصريا أو عالميا أو عربيا. ونحن لسنا فى ظروف 52 أو غيرها وعندى وعى بذلك. ولكن أركز الأن على ما هو جديد، بمعنى هل يمكن أن تستفيد من القديم، لكن أولا ما هو الجديد؟ العولمة قديمة قدم التاريخ الانسانى ، و حتى العولمة الحديثة إنطلاقا من القرن الخامس عشر تغيرت ودخلت مرحلة جديدة منذ عام 1975 الى 1990 أى 15 عاما حدث فيها تغير كبير من حيث تمركز الرأسمالية. والتغير الذى حدث فى هذه الفترة القصيرة هو الحاكم للأمور الآن وفى المستقبل المنظور لفترة قد تطول لعقد أو عقدين أو أكثر. فما هو الجديد فى التغير فى تمركز الرأسمالية؟ إنه الاحتكار.. لاننا وصلنا إلى درجة أن الاحتكارات على صعيد عالمى تسيطر على النظم الانتاجية، فالاحتكارات أصبحت »معممة« أى تسيطر على جميع المنظومات الانتاجية والمحلية وهذا يؤدى إلى تناقص جديد هو الآخر.. تناقض بين العولمة والدولة الوطنية. وسيطرة الاحتكارات أنتجت ريعا احتكاريا، وهو الذى أدى إلى التفاوت الكبير فى الدخول فى جميع دول العالم بلا إستثناء سواء كانت غنية أو فقيرة، وهذا التفاوت المتصاعد باستمرار لايمكن أن يستمر لانه مرفوض.. ولذلك يؤدى بالضرورة إما إلى ثورات أو انتفاضات تختلف قوتها وحجمها من مكان لاخر. سيطرة هذا النوع من العولمة على العالم ،يفترض تصفية وجود كيان الدولة ، ولانه لا يوجد تصور لادارة المجتمع دون دولة، فهنا يحدث التناقض القاتل لهذا النمط من العولمة، فالعولمة لا مستقل لها، ولا يمكن أن تستقر، لأنه فى غياب كيان اسمه الدولة لا يوجد بديل الا الضرب بالقنابل وعسكرة المنظومة وصعود الفاشية. العدالة الاجتماعية هناك عوامل مهمة مثل الاستقلال والتقدم والديمقراطية فإذا كنت تريد الاستقلال لتصبح فاعلا فى العولمة فهذا لا يمكن وإنما المطلوب أن تتكيف مع العولمة دون أن يكون لك دور فيها. أما التقدم الإجتماعى فهو جزء من الحركة الشعبية نحو الاشتراكية وهو ما تسميه الشعوب العدالة الإجتماعية، وتبقى الديمقراطية بمعنى الحداثة التعددية والانتخابات. وعودة الى التاريخ لفهم الحاضر قال: كان هناك فى تاريخ مصر فترتا صعود، الأولى من محمد على 1805 الى 1875 والثانية منذ ثورة 1919 الى وفاة عبد الناصر. ثم توقف قائلا عندما جاءت ثورة 1952 اعتبرت نفسها بداية التاريخ أى أننا كنا فى جاهلية وهو كلام لا علاقة له بالواقع. وبين المرحلتين كانت هناك ردة طويلة، وإعادة هيكلة للمجتمع المصرى بصفته ينتمى للتخوم التابعة للعولمة فى ذلك الوقت (العولمة الكولونيالية)، ومنذ سنة 1970 حتى الآن أكثر من 40 سنة بدأت عملية إخضاع المجتمع المصرى للعولمة الجديدة. الديمقراطية ليست حقيقية نقطة أخرى انتقل اليها مفكرنا الكبير دكتور سمير أمين عندما قال لا توجد مؤامرة تستطيع إنزال 30 مليون مواطن. إذن فهؤلاء عندهم مطالب مثل الكرامة والاستقلال الوطنى إلا أنه لا يمكن أن نكون يوم وراء يوم تابعين لأمريكا وإسرائيل. والعدالة الاجتماعية لابد أن تستفيد منها الطبقات الشعبية فالناس لا تمانع من تفاوت الدخول إذا كانت تستفيد ولو بقدر أقل ولكن ليس تفاوتا يهدف إلى الإفقار كما يحدث فى مصر. وقال إن المطالبة بالديمقراطية فى مصر ليست حقيقية ولست مؤمنا بها لأن الديمقراطية لا تؤدى الى تغيير جوهرى وإنما تؤدى لتغييرات هامشية. وقراءاتى لتاريخ الناصرية وقراءة الوثائق النقدية لتلك الأيام تقول إن الناصرية لم تمثل مشروعا وطنيا ولا شعبيا ولا ديمقراطيا وإنما كانت تحاول أن تتكيف مع العولمة. لذلك كانت الناصرية فى مرحلتها الأولى تجد أمامها معارضة شعبية حقيقية أدت الى المرحلة الثانية للناصرية. ولدى قصة رواها صديق صينى قال لى «عبد الناصر سافر مع شوان لاى فى أبريل 1955 وقال له ليس عندنا عدو سوى عدو واحد هو بريطانيا، أما أمريكا فيمكن أن تكون حليفا لنا. فقال له: شوان لاى إن بريطانيا أصبحت أمبريالية فى طريقها للأفول أما أمريكا فهى الإمبريالية الصاعدة. وكان هذا هو سبب التغير الذى حدث لعبد الناصر فبعد عودته من هذا اللقاء تخلص من الضباط الرجعيين وأحل محلهم مساندة الشعب المصرى ، وهو ما أدى الى إدخال العدالة الاجتماعية والتى أطلقوا عليها الإشتراكية ، أى أن النظام أصبح نظاما مدنيا وليس عسكريا وهى المرحلة الثانية للناصرية . ونحن الآن فى ظروف أتمنى أن تكون شبيهة بذلك ليفتح النظام الباب للكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.