فى خطابه بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو تساءل الرئيس عبد الفتاح السيسى عما إذا كان لدينا منظومة للقيادات مثل تلك الموجودة فى الدول الناجحة، وكان يقصد ضمنيا أننا فى حاجة إلى هذه المنظومة. وفيما يلى العناصر الأساسية لبناء منظومة معاصرة للقيادات العليا لمؤسسات الدولة، استنادا إلى الأسس العلمية والمهنية والمرجعيات العالمية. أولا: تحديد الأهداف والنتائج والمهام المطلوب إنجازها من قبل شاغلى كل مستوى ونوعية من المواقع القيادية لتحديد القدرات والمهارات المطلوبة (أى معايير الاختيار).ويتطلب هذا تطوير نظام الإدارة والمساءلة لكى يركز على الأهداف والنتائج بديلا للنظام (أو اللانظام) الحالى الذى يركز تارة على اللوائح وتارة على الأنشطة وتارة أخرى على أمور شكلية فى الانضباط. وهناك اختلافات فى متطلبات المواقع القيادية من القدرات والمهارات. فمثلا تحتاج المواقع العليا إلى قدرات فكرية عالية تمكن من التعامل مع المعرفة والتفكير الإبداعى ومهارات اتخاذ القرارات الاستراتيجية وإدارةالإنجاز ومتابعة النتائج على مستوى المؤسسة ككل والتعامل مع الأطراف الخارجية المهمة واستخدام المستشارين إضافة إلى إدارة التحول والتغيير.هذا بخلاف المواقع التى تقع على أول المسار التى تتطلب مهارات اتخاذ القرارات التنفيذيةوالإشراف والتنسيق والرقابة على التفاصيل والاتصال رأسيا وأفقيا. ثانيا: تحديد أساليب القياس الصادقة للقدرات والمهارات المطلوبة التى تمثل ترجمة عملية لمعايير الاختيار وتطبيقها على المرشحين للمواقع القيادية. وتحتاج كل نوعية من القدرات والمهارات إلى وسائل قياس مختلفة. فهناك مقاييس للقدرات والمهارات الفكرية والتحليلية والتشخيصية، وأخرى لقدرات التفكير الاستراتيجى والنقدي، وثالثة لإدارة الإنجاز والنتائج، ورابعة لاتخاذ القرارات وحل المشكلات، وخامسة لمهارات الاتصال والتأثير القيادى والتفاوض والتعامل مع الأزمات، وسادسة للمهارات الوجدانية، وسابعة للنزاهة، وغيرها. وتحتاج كل مجموعة من المواقع القيادية إلى المقاييس التى تناسبها استنادا إلى بحوث ودراسات متعمقة يقوم بها متخصصون ويستفاد فيها من الخبرة العالمية لتأكيد دقة وصدق هذه المقاييس وتحديد إمكان الاعتماد عليها لفرز العناصر القيادية التى تناسب هذه المواقع ولتكون مؤشرا لأدائها المستقبلى فى هذه المواقع. ومن الطبيعى ألا يخضع الوزراء والمحافظون لمثل هذه الاختبارات والمقاييس عند ترشيحهم، لكن تعميم نظام كهذا سيمكن من وجود معلومات عن تأهيلهم وقدراتهم ومهاراتهم فى مجال الإدارة والقيادة وأدائهم فى المواقع الأقل التى شغلوها فى الماضي. ثالثا: المتابعة والتقييم للأداء المؤسسى والأداء الفردى لمختلف القيادات بدءا من القيادات الوسطى. ويمثل هذا عنصرا ضروريا ومكملا للعناصرالسابقة، لأنه يوفر معلومات أساسية لأغراض الترشيح، ويمثل أيضا المحك الحقيقى لصحة وجودة قرارات اختيار القيادات. فالترشيح يحتاج إلى معرفة نظامية عن الأداء والإنجازات السابقة للمرشحين. كذلك يمثل القياس النظامى للأداء المؤسسى والفردى شرطا ومقوما أساسيا لتقييم قرارات الاختيار. كما أن توفير معلومات عن الأداء تقدم دوريا لشاغلى المواقع القيادية يمكن من تصحيحه فى الاتجاه المطلوب، فضلا عن استناد المساءلة إليها. رابعا: الاكتشاف والتعامل المبكر مع المواهب القيادية النادرة وإعطاوها فرصة الحراك والتنمية والتقدم الوظيفى خارج قيود الهيكل الهرمى والأقدمية. ويعنى هذا وجود آلية تمكن من اكتشاف المواهب القيادية الشابة وتوفير فرص لتأهيلها وصقل قدراتها واكتساب مهارات أعلى من خلال إسناد مسئوليات إضافية لها وتحريكها فى مسارات وظيفية متسارعة بعيدا عن قيود المسارات الاعتيادية التى تقوم على الأقدمية والتراتبية الوظيفية العقيمة التى تزخر بها ممارسات الترقى والتقدم الوظيفى فى اجهزة الدولة، وتمثل أحد أسباب ركودها وجمودها وترهلها. ويمثل هذا العنصر، إذا قام على أسس نظامية، الترجمة العلمية لفتح الفرص أمام الشباب لتولى مواقع قيادية، مع اشتراط توافر القدرات والمقومات المطلوبة وتوفير الفرصة لتنميتها وصقلها. خامسا: التأهيل والتنمية وصقل القدرات والمهارات لتولى المواقع القيادية، والكيان المؤسسى الذى يقوم به. هناك حاجة لأن تتكامل أنشطة التأهيل والإعداد وتنمية القدرات والمهارات التى ينبغى أن تقدم على أعلى مستوى مهنى ومعاصر، مع بقية عناصر منظومة القيادات. ومن المهم أيضا أن تقدم جرعات التأهيل والتنمية خلال كل مراحل التقدم الوظيفى للقيادات، وأن ترتبط ارتباطا مباشرا بمكون القدرات والمهارات اللازمة لطبيعة الموقع القيادي، وأن تشتمل على جرعات متنوعة من البرامج التدريبية والخبرات المباشرة على رأس العمل ومن انشطة التنمية الذاتية. ولدينا الكثير من المؤسسات التى توحى بهذه الأدوار وتحمل هذا المسمى لكنها جميعا بلا فاعلية، ليس فقط لأنها تقوم بأنشطة غير فعالة وتستخدم أساليب غير حديثة ولا يتم قياس وتقييم مردودها وآثارها على الأداء، وإنما لأنها تعمل ضمن منظومة مفككة وغير متكاملة لا تحتوى على الحد الأدنى الذى تمثله العناصر السابقة. وعلينا أن نستفيد بخبرات الدول التى لديها رصيد متميز من النجاح فى هذا الخصوص مثل فرنساوماليزيا. فالمدرسة القومية للإدارة فى فرنسا تمثل نموذجا متميزا أخذت به كثير من الدول الفرانكوفونية فى اختيار وتأهيل القيادات والكوادر العليا لأجهزة الدولة، ومن هذه المدرسة تخرج من أصبحوا بعد ذلك قيادات عليا ووزراء ورؤساء حكومة بل وحتى رؤساء جمهورية فى فرنسا. هناك أيضا نموذج المعهد القومى للإدارة العامة فى ماليزيا INTAN الذى اكتسب سمعة دولية وإقليمية بحكم تميز هيئته الأكاديمية وبرامجه وانشطته فى تدريب وإعداد كوادر الخبرة والقيادات للجهاز الحكومى فى ماليزيا. هناك أيضا معهد أحمد أباد للإدارة فى الهند الذى يلعب دورا مميزا فى تأهيل المديرين التنفيذيين لمنظمات الأعمال ويستخدم أحدث الوسائل والأساليب فى هذا الخصوص ولديه هيئة أكاديمية متخرجة فىأرفع المؤسسات الأكاديمية فى العالم. وقد كان لدينا فى الستينيات والسبعينيات المعهد القومى للإدارة العليا الذى كان يتبع رئاسة الجمهورية فى بدايته كدلالة للاهتمام به وقتها وكان متخصصا فى تنمية القيادات العليا للمشروعات العامة،ومعهد الإدارة العامة الموجه للقطاع الحكومي، لكنهما اندثرا بعد أن كانا كيانين متميزين وواعدين. تمثل العناصر السابقة النظام المقترح للقيادات العليا. ويبقى أن يوضع كل هذا فى إطار كلية وطنية للقيادات العليا تؤسس وتدير المنظومة المقترحةإستنادا إلى النظم العالمية وبحيث تكون بعيدة عن النظم الحكومية التقليدية. وتتضمن الكلية المقترحة إنشاء بنك معلومات قومية عن القيادات يشمل كل مؤسسات الدولة ليكون الأساس فى أعمال الترشيح والاكتشاف المبكر للمواهب القيادية. هل يمكن التقدم إلى الأمام وأخذ خطوات جادة لإنشاء المنظومة المقترحة للقيادات؟ لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور