كل ذلك الذى يبددنا: أفرادا وأمما..نحن المغتسلين بدماء التاريخ وآثامه. نتحرك كتلا مفتتة بعد غروب طويل لمن نظن أنه نحن. يعمل العالم معاوله فينا, ونساعده فى هد ما قد تبقى منا أو كما قال غسان كنفانى فى عنوان إحدى رواياته (ما تبقى لكم). لا نطال حتى فرصة الحداد. نحزن لننسى لأنه لا وقت, لا فاصل, بين حزن حديث وقديم وآخر يحدث للتو, وآخر نترقبه بوجل. ثم ننسى أن ندفن الموتى وأن نعزى الثكالى وأن نرحم اليتامى بيننا. نعيش مع بروتوس فى كل آوان. ونجدد ابتكار نيرون, وفى كل يوم يقطع أبو الحجاج الثقفى ما أينع بيننا من رءوس.نتبع خطى أنكيد وفى جحيم المعرى ودانتى. نتيه مع امرئ القيس الملك الضآل فى بيداء هى أبيس الزمن الأسود. كأننا فى القرن الواحد والعشرين , ملايين الخراف الضآلة تحت سطوة السواطير والنار والحديد والتكنولوجيا والريموت كونترول كألعاب فيديو تضغط عليها أصابع المراهقين من وراء الشاشات كى تتفجر وتتبدد مدن الشرق العظيم ويباد بشره دون سابق توقع وتسقط المآذن والكنائس والمعابد والتماثيل والآثار والأضرحة خارجة من شموخ الآف السنين لتتحول إلى ذرات رماد وتراب ملطخة بالأحمر والروث وبقايا قنابل ورصاص وصواريخ وحرائق هنا, وهناك. يقولون إن التاريخ يعيد نفسه , أى أن هولاكو وهتلر والهكسوس والمغول وهيرود يعودون من جديد فتحرق الكتب وتقطع الرءوس وتستباح الأعراض وتغتصب البلدان مرارا وتكرارا. تتغير الأسماء والهويات لكن روح الشر المريع يعيد ابتكار نفسه المرة تلو الأخرى. ولا داعى أن تكون داحس والغبراء من جديد, فداعش والقاعدة ومرتزقة بلاك ووتر وما شابههم بدائل كافية. ولا داعى لروما وفارس القديمة وأزمنة الاحتلال الأوروبى فإسرائيل وأمريكا بديلتان بما يكفى , أيضا. لكن لا موسى ولا عيسى ولا محمد, ولا بوذا ولا زرادشت ولا كونفيوشس من جديد. انتهى زمن الرسالات الكبرى للبشرية.وحتى الفلاسفة والدعاة الإنسانيين والأخلاقيين والمجددين اختفوا فى الزمن الحديث. وتبقى إرث كل ذلك ليكون أقنعة وجود وصلبان حياة وقطع رءوس واقتتال باسم الشرائع والتكفير والطائفية والتحيز وحرب الإنسان والآلة ضد الإنسان. يقولون شرق أوسط جديد, ونرى فيما يتجلى لنا أنه عالم جديد فى كل مكان. ولكنها جدة رثة ومهترئة وقائمة على ظلم الإنسان للإنسان , والاستبداد, وتمزيق المجتمعات, وفواحش تجارة المال والسلاح والدواء والمخدرات والجنس والنفط. سبقتنا جمهوريات الموز السابقة فى امريكا اللاتينية وجمهوريات الاتحاد السوفيتى وشرق اوروبا المفككة ونمور الشرق الأقصى ومذابح الأرمن والأكراد والبوسنة والهرسك وأفغانستان والخمير روج والتاميل وميدان تيان وربيع براغ وفيتنام والهندوراس وتشيللى وارتجاج أثينا والدماء الحمراء التى غسل بها المتظاهرون شوارع بانكوك منذ سنوات قليلة ماضية. ليس آخر الشريط السينمائى موت ودماء ودمار غزة وأهلها, ووقوف العالم مشاهدا فى ثقافة الفرجة حيث الأطفال يدفنون أحياء تحت ركام بيوتهم. والعالم الكبير الناضج القوى الذى يرتدى البدلة والكرافتة والحذاء الجلدى تحت قباب الأممالمتحدة والجامعة العربية وغيرها من منظمات دولية وإقليمية, يجتر الكلمات الباردة بنظرات باردة مخليا نفسه من تحمل أى مسئولية كأنه جثة محنطة مازالت تتحدث بشريط مسبق التسجيل يقول الكلام نفسه فى كل مناسبة مشابهة من مآسى البشرية والشعوب وما أكثرها! ماذا فعلنا بأنفسنا؟ وماذا فعل العالم الغربى بانحيازه الكامل للمشروع الصهيونى العنصرى ممثلا بإسرائيل بنا؟ لا مرآة لنا نطالع فيها من نحن ومن كنا ومن سنكون! مرآتنا حدودنا التى يعيدون ترسيمها, وهوياتنا الضائعة التى يعيد التخلف والتآمر والدمار كتابة خاناتها. نحن العرب , أمة الكون الضآلة, ميراث الحضارة المبدد, أرض الأديان المتطاحنة, سلب الهجين الذى احتل قلبنا, نحن الأثرياء-الفقراء والمنكوبين بأموالنا ونفطنا وآثارنا وبحارنا وزرعنا وصحارينا وتاريخنا. الكراهية تسودنا بين مذهب وآخر, ودين وآخر, وقومية وأخرى. أتذكر كتاب الفهرست لإبن النديم وهو يكتب فى القرن الأول الهجرى عن طوائف وديانات وأقوام لا حصر لهم تعيش فى أرض العراق فى زمن الإسلام الجديد فى ذلك الزمان.لعلنى, أيضا, أتذكر إخوان الصفا وعلوم الروح للصوفيين من الحلاج والسهروردى إلى جلال الدين الرومى وإبن عربى وإبن الفارض, ولا يفوتنى ابن بطوطة وابن جبير والجاحظ والبيرونى والمسعودى وابن عبد ربه وابن حزم وإبن سينا والفارابى والخوارزمى , تماما كتوماس الإيقونى وبولص وهيباثيا. ربما علينا العودة إلى الكهوف الأولى لأرواحنا وعقولنا وبلداننا. وفك طلاسم الرموز والرسوم كما فعل جوزيف كامبل لندرك أنها كانت مجرد رسائل رغم أنها تطورت واتخذت أشكالا أخرى وأقنعة متراكمة عبر التاريخ الطويل وهى رسائل لتذكر الإنسان بطاقته المهولة المتحدة بالكون والقائمة على توازن دقيق فى الوجود يكفل استمراره وبقاءه بشرط ذلك التوازن الكونى الدقيق القائم على احترام وإجلال الحياة والطاقة الكونية بداخل أجساد ونفوس وعقول البشر.