خلص مقال الأسبوع الماضي إلى أنه من الظواهر الإعلامية التي يجب ضبطها بوضعها على ميزان المعايير الإسلامية: عدم الحكم على نيات الناس وبواطنهم، علاوة على تجنب الوقوع في فخ تصنيفهم. وفي هذا المقال نستعرض دعوة الإسلام إلى تجنب الانشغال بعيوب الناس، والامتناع عن سوء النظر إليهم، ونبذ ثقافة أو مقولة: "هلك الناس". إذا أبصر المرء عيوب نفسه سوف ينشغل بها عن عيوب الناس؛ ذلك أنه مطالب بإصلاحها أولا، باعتبار أنه سيُسأل عنها قبل غيرها، قال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ". (المدثر:38). وقال سبحانه: "مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا".(الإسراء : 15). وقال: "وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى".(الأنعام : 164). وجاء في حديث الترمذي وابن ماجة وابن حبان بإسنادٍ حسنٍ عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". وفي هذا الحديث قال ابن عبد البر: "من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، وهو مما لم يقله أحد قبله -صلى الله عليه وسلم- لأن من حَسُن إسلامه ترَكَ ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال؛ إذ الإسلام يقتضي فعل الواجبات، وترك المحرمات، وإذا حسُن الإسلام استلزم ترك ما لا يعني من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات". وأضاف: "قد يكون انشغال العبد بعيوب الناس بمثابة ورقة التوت التي يحاول أن يغطي بها عيوبه، فقد سمع أعرابي رجلا يقع في الناس، فقال :"قد استدللتُ على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها". وكان الفضيل بن عياض يقول في قوله تعالى: "وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا". (النساء: 29): "لا تغفلوا عن أنفسكم، فإن من غفل عن نفسه فقد قتلها". وإنها لصيحة حق نطق بها الربيع بن خُثَيْم في وجه من قال له: "ما نراك تعيب أحدًا؟ فقال: ما أنا عن نفسي براضٍ، فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس، وإن الناس خافوا الله تعالى في ذنوب الناس، وأمنوا على ذنوبهم". وورد في الأثر مقولة: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس". ويقول ديل كارنيجي: "عندي ملف في درج مكتبي عنوانه: "حماقات ارتكبتها"، أسجل فيه أخطائي؛ لأتجنبها مع الزمن". وقال سفيان: "لي ثلاثون سنة أجاهد نفسي في ترك عيب، وما زلتُ أجاهد". فالإصلاح الحقيقي إصلاح النفس. قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا".(الشمس: 9 و10).. قال ابن كثير: "قد فازَ من طهَّرَ نفسَهُ بالإيمانِ، والطاعةِ؛ فصار زاكياً طَاهراً بنعيمِ الجنة.. وقد خَسِرَ من أهمل نفسَهُ؛ حتى عمِلت بالفجور، ورَكبتِ المعاصي". كما كان من دعاء النبي -عليه السلام-: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها".(رواه مسلم). ومن أراد أن يبتعد عن الخطأ، والوقوع في الزلل، فليقرأ بقلبه دُرة الحسن البصري: "أدركت أقواماً لم تكن لهم عيوب، فتكلموا في عيوب الناس، فأحدث اللّه لهم عيوباً، وأدركت أقواماً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فستر اللّه عيوبهم". ويقول الدكتور مصطفى السباعي في كتابه: "هكذا علمتني الحياة": "إذا همَّت نفسك بالمعصية؛ فذكرها بالله، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فاعلم بأن نفسك بعد هذه اللحظة قد تحوَّلت إلى حيوان"! والأمر هكذا، لابد من التحلي بخلق التغافل أحيانًا مع الناس.. قال الشاعر:"َليسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي". مقولة "هلك الناس" روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :"إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ. فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ". قال الحافظ ابن عبد البر: "لا أعلم خلافا بين أهل العلم أن الرجل يقول ذلك القول احتقارا للناس، وازدراء بهم، وإعجابا بنفسه". وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: رُوي أهلكهم على وجهين: رفع الكاف، ومعناها أشدهم هلاكا، أما رواية الفتح فمعناها "جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا في الحقيقة". واتفق العلماء على أن هذا الذم فيمن قاله على سبيل الازراء على الناس، واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، أما من قاله تحزنا لما يرى في نفسه والناس من النقص بأمر الدين فلا بأس عليه. عن ابن مسعود قال: "إذا رأيتم أخاكم قارف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، تقولون: اللهم اخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية". ورُوي أن أبا الدرداء مر على رجل أصاب ذنباً، فكانوا يسبونه، فقال لهم: أرأيتم لو وجدتموه في بئر ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. قالوا: أفلا نبغضه؟ قال: "إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي".