لا جديد. ثمانى سنوات مضت على رحيل نجيب محفوظ فى الثلاثين من أغسطس سنة 2006، بعد عامين من الآن يا ترى من يعيش يكتمل عقد من الزمان على رحيله. عدم تذكرنا له تنبأ به فى مفتتح روايته: أولاد حارتنا. عندما أقر واعترف أن آفة حارتنا النسيان. وما أكثر ذكر النسيان فى رواياته. الجديد بالنسبة لى شخصياً عودتى لقراءة: أصداء السيرة الذاتية. التى يمكن القول إنها عمله المنشور قبل الأخير. باعتبار أن أحلام فترة النقاهة الصادرة سنة 2004 هى آخر ما نشر له قبل رحيله عن الدنيا. عبد ربه التائه بطل يظهر فى أصداء السيرة الذاتية فى الصفحة 1974، والعمل كله لا يزيد على 115 صفحة. أى أن الرجل يعد بطل أو لا بطلا الصفحات الأخيرة من النص العذب والجميل الذى لا ينافسه فى جماله سوى أحلام فترة النقاهة. ورغم أن من ينشرون أعماله يصرون على أن العملين: أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة. تصنف ضمن مجموعات القصص القصيرة. فإننى أعتبرها نصوصاً بامتياز. والنص يخرج من الكتابة التى لا تلتزم بشكل فنى معين. فلا هى قصة ولا رواية ولا مسرحية ولا مقال. بل كتابة مفتوحة على جميع الأشكال الأدبية التى عرفتها البشرية منذ أن اخترعت الكتابة وحتى الآن. سنوات مضت على رحيله ومن يتابع ما يكتب الآن عن مستقبل الأدب عندنا أو عندهم. سيكتشف أن النقاد الكبار يقولون إن الكتابة الأدبية تتجه لكتابة النص المفتوح على كل الأشكال الأدبية التى عرفت من قبل. ببساطة فالرجل كان يقرأ الآتى فى فنون الكتابة دون تصريحات ولا كلمات كبيرة. ونفذه فى عمليه الأخيرين. فى آخر حوار لى معه قال لى وهو على سرير المرض الذى ذهب به إلى الموت «إنه يحلم أن يكتب قصة السطر الواحد. قصة قصيرة لا تزيد على سطر واحد». والآن إلى عبد ربه التائه. ونجيب محفوظ يقدمه هكذا: كان أول ظهور الشيخ عبد ربه التائه فى حينا حين سُمِعَ وهو ينادى: ولد تائه يا أولاد الحلال. ولما سُئِل عن أوصاف الولد المفقود قال: - فقدته منذ أكثر من سبعين عاماً. فغابت عنى جميع أوصافه. وكنا نلقاه فى الطريق أو المقهى أو الكهف. وفى كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب. حيث ترمى بهم فرحة المناجاة فى غيبوبة النشوات. فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم الخمارة. ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعنى الوقت وأذن لى الفراغ وأن فى صحبته مسرة. وفى كلامه متعة. وإن استعصى على العقل أحيانا. وتلك هى بعض أقواله التى يمكن أن نرى أنها اخترقت حجب الغيب. وما زالت قادرة على أن توحى لنا الكثير. سألت الشيخ عبد ربه التائه: - متى ينصلح حال البلد؟. فأجاب: - عندما يؤمن أهلها أن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة. سألت الشيخ عبد ربه التائه: - كيف تنتهى المحنة التى نعانيها؟ فأجاب: - إن خرجنا سالمين فهى الرحمة. وإن خرجنا هالكين فهو العدل. قال الشيخ عبد ربه التائه: - بعض أكاذيب الحياة تنفجر صدقا. قال الشيخ عبد ربه التائه: - لقد فتح باب النهاية عندما قال: أفلا تعقلون. قال الشيخ عبد ربه التائه: - أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه وهو يمارس حريته بالحق. سألت الشيخ عبد ربه التائه: - لماذا يغلب عليك التفاؤل. فأجاب: - لأننا ما زلنا نُعجب بالأقوال الجميلة حتى وإن لم نعمل بها. قال الشيخ عبد ربه التائه: - من خسر إيمانه. خسر الحياة والموت. قال الشيخ عبد ربه التائه: - ما نكاد نفرغ من إعداد المنزل. حتى يترامى إلينا لحن الرحيل. قال الشيخ عبد ربه التائه: - إن مسَّك الشك. فانظر فى مرآة نفسك مليَّا. قال الشيخ عبد ربه التائه: - أشمل صراع فى الوجود هو الصراع بين الحب والموت. قال الشيخ عبد ربه التائه: - أقوى الأقوياء من يصفحون. قال الشيخ عبد ربه التائه: - عندما يلم الموت بالآخر يُذكِّرنا بأننا ما زلنا نمرح فى نعمة الحياة. قال الشيخ عبد ربه التائه: - لا يوجد أغبى من المؤمن الغبى إلا الكافر الغبى. قال الشيخ عبد ربه التائه: - قد تغيب الحبيبة عن الوجود. أما الحب فلا يغيب. قال الشيخ عبد ربه التائه: - خفقة واحدة من قلب عاشق. جديرة بطرد مائة من رواسب الأحزان. أما آخر ما قاله الشيخ عبد ربه التائه. وهو شخص مطلق. قرر نجيب محفوظ أن يستنطقه بكلماته الأخيرة للدنيا: - وفى ليلة الموسم جمعنا الكهف فلم يتخلف أحد. وقال الشيخ عبد ربه التائه: - هنيئاً لمن قام بواجبه فى السوق أو تحدى الكدر. غضضنا الأبصار من الحياة. وقال الشيخ عبد ربه التائه: - انظروا إلى باب الكهف ولا تحولوا عنه الأبصار. وخفقت القلوب حتى ارتعشت جذورها فى انتظار الفرج. وفى لهفتنا رأته البصيرة وسمعته السريرة. ألف رحمة ونور عليك يا عم نجيب. لمزيد من مقالات يوسف القعيد