لم يَحسِم عددٌ من رجال الأزهر الشريف أمرَهم بعد، إذا ما كانوا مع مساعى بناء الدولة الحديثة، دولة القانون والحكم المدني، التى نصّ عليها الدستور، الذى شارك ممثلو الأزهر فى أعمال لجنة تعديلاته ووافقوا على كل بنوده، ثم جاءت موافقة الشعب فى الاستفتاء عليه بأغلبية تقارب الإجماع، أم إذا كانوا مع الدولة الدينية التى كانت تسعى لإقامتها جماعة الإخوان، ثم صار يحمل لواءها الآن تنظيم داعش ومن لفّ لفّه. بل يبدو أن هناك من رجال الأزهر من حسموا أمرَهم بالفعل مع الدولة الدينية، فى وقت يُعلِن فيه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أن الأزهر الشريف يمثل الوسطية ليس فى مصر وحدها وإنما فى العالم أجمع. أنظرْ إلى تصريحات عَلَم من أعلام الأزهر الأسبوع الماضى بخصوص الجماعة الإرهابية المسلحة التى أطلقت على نفسها «كتائب حلوان» والتى نجحت أجهزة الأمن فى إلقاء القبض على بعض المتهمين بالانتماء إليها، وتعمل على تكييف الاتهام لهم لإحالتهم إلى القضاء. ولكن كان هنالك رأى آخر للشيخ، الذى سبقته صفته بأنه من كبار لجنة الفتوى بالأزهر، حيث طالب بتطبيق حدّ الحرابة عليهم، وقال إن هذه الجماعة خرجت على نظام الدولة بهدف إحداث الفوضى والبلبلة وترويع الآمنين فى البلاد، ووصمها بأنها غير شرعية، وقال إنه مادام أن البلد له حاكم ورئيس فلا يجوز الخروج عن طوع الدولة. لاحِظْ أن المتحدث ينطلق مما هو متفق عليه عن جرائم هذه الجماعة وأخطارها على المجتمع والمواطنين والدولة، وهذه جميعاً جرائم منصوص عليها فى القانون الذى يحدد لها عقوبات واضحة، إلا أنه يتصرف وكأنه يتحرك فى فضاء دستورى وقانوني، ويعلن عن وجوب تطبيق حدٍّ غير منصوص عليه فى القانون، ويجئ كلامه فى توافق غريب، يكاد يتطابق، مع كلام تنظيم داعش المصنَّف بأنه الأكثر تطرفاً فى العصر الحديث، بل إنه يستند على نفس الآيات التى يدعم بها داعش أفعالَه فى الذبح والتقتيل! ثم إنه يعتمد على تأويلات قديمة، ليس هنالك مبرر لطرحها فى هذا السياق، عن عدم جواز الخروج عن طوع الدولة، وهذه بالضبط كانت حجة شيوخ السلطان التى أفتوا بها لمبارك، ثم لمرسى، وهى التى يرددها الآن أنصار الخليفة الذى نصَّبَه داعش فى العراق! لقد كثرت هذه الأيام فتاوى تتعارض مع القول بالوسطية، كما أنها تخرج على وجوب الالتزام بدستور البلاد الذى قطع شوطاً فى تلبية بعض شعارات الثورة التى حددت أهم أهدافها فى تأسيس الدولة الحديثة، دولة القانون. بل إن الكثير من هذه الفتاوى تثير الفوضى بأكثر من الفزع الذى تتسبب فيه، ذلك أن المفروض فى كل قانون أن تتوافر له الآليات الخاصة بتنفيذه، فمَن سوف يقوم بتنفيذ حدّ الحرابة، وبالذات هذا الجزء الخاص بالتقتيل والتصليب وتقطيع الأيادى والأرجل من خلاف؟ وحتى لو افترضنا أن العالَم المتربص بنا سوف يغض الطرف ويتغافل عن انتهاكات الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والتى صارت مُلزِمة منذ أن صَدَّقت عليها مصر قبل عقود، فهل سوف تسمح نقابة الأطباء لأعضائها بالقيام بهذه المهام التى تهدر كل القيم التى درسها طالبُ الطب والتى يلتزم بها كلُ طبيب؟ أم أن المهمة ستناط بعدد من الجزارين العتاة الذين سوف يتعاملون مع الذبيحة الآدمية؟ ومن سوف يتكفل بتطبيب مبتور الأطراف؟ ومن سيتولى الإنفاق عليه هو وعياله حتى يتمكن من كسب رزقه بعد أن يتأهل؟ إذا كان له أن يتأهل يوماً! ولماذا نفترض ما قد يحدث فى المستقبل وبين أيادينا وقائعُ قريبة لم تسقط من الذاكرة بعد؟ لعل أبرزها التحريض الذى قام به بعضُ رجال الدين، منهم من ينتسب إلى الأزهر الشريف، ضد الشيعة، فى حضرة رئيس الإخوان الدكتور مرسي، وما حدث بعد ذلك من فتنة فى صفوف البسطاء فذهبوا إلى الشيعة فى دارهم وقتلوهم شر قتلة وهم يؤدون شعائرهم! وانتشرت فى الوقت نفسه حوادث مثل أن يقضى بعض الفلاحين، ممن يتلقون دينهم من التكفيريين، بتأثيم من يرمونه بالسرقة أو بالبلطجة، وقاموا بقتل بعضهم بعد أن بتروا أياديهم وسحلوهم وصلبوهم على الأشجار وعلى أعمدة النور. وفى خلفية هذه الجرائم تتولى ميكروفونات المساجد شحن البسطاء بحكايات الصحابة الأجلاء فى العصر الذهبى عندما كانوا يتولون قتال الكفار والمرتدين والممتنعين عن دفع الزكاة! ومن الشيوخ من يترك كل مشكلات المسلمين الحالية، فى عُسر الحياة وفى الوقوع تحت طائلة الاستبداد وفى الامتهان الذى يعانونه يومياً، ويقول لهم إنهم مأمورون بمحاربة الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، بل هناك من يدعوهم إلى التحايل للسفر إلى دول «الكفار» ويُسمِّى لهم بعض الدول المتقدمة التى يعتنق معظم مواطنيها المسيحية(!) ليعمل على نشر الدعوة فى صفوفهم، فيعرض عليهم الإسلام، فإن لم يستجيبوا فعليهم أن يدفعوا الجزية! وإلا فعلى المسلم أن يقاتلهم فى بلادهم! هلى يرى أحدٌ أيَ فارق جوهرى بين مضمون هذا الكلام وبين ما يعلنه داعش؟ وهل يدخل هذا فى حرية العقيدة أو فى حرية التعبير؟ أم هو بث صريح لخطاب الكراهية وتحريض مباشر على ممارسة العنف ورفع السلاح؟ وهل يغيب عن أولى الأمر خطورة ما سوف يترتب على انتشار هذا الكلام؟ وهل لا تصل هذه الأصوات إلى أسماع فضيلة شيخ الأزهر وفضلاء كبار العلماء؟ وهل هم يظنون بالفعل أن علاج الأمر مقصور على منع غير الأزهريين من الخطابة من منابر المساجد؟ لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب