تتهشم الرؤيا على هذه القارعة المبلّلة، يغلّف السواد الإسفلت فتبرز بقع قاتمة تخفى حاجتي. صارت عيناى تلتهمان الأرض فى قلق مربك، وترصد فى متاهة الأشياء الملقاة، شيء ما يعلن امتلاءً. هذا الامتداد المطمئنّ لا ينسجم مع ما أريد، إنه مترف على نحو مغر لكنه لا يحمل ورقتي. أشعر كما لو أنى تلبسنى الجنون؛ فأنا أبحث عبثا عن ورقة جافّة وسط هذا المحيط المبتلّ. المطر الخفيف يستوطن الطريق، فيطغى ليشمل جميع التفاصيل. تلقفت عقب سيجارة ملقى فى مسار مائي، تحسّسته بأصابعي، تلمّسنى الماء البارد بلؤم وقح، أحسست بهزيمة ما تخترقني. - لا توجد ورقة تحمل أملا لمَا أنوى اقترافه. بدا الطريق الممتدّ أمامى قاسيا بليدا وقد توسّط صفوف بناءات تائهة. لا يوجد هنا تناسق يشمل تلك الواجهات الفقيرة: هى فسيفساء قبيحة تحمل معنا هجينا، أشباح هياكل بائسة لمكعبات قائمة على أرض مصطنعة تلتحف اليأس. غشا الظلام الشارع فى حراك لئيم، وانتهى المطاف إلى سواد معتم تمزّقه بعض الفوانيس الخافتة وهى تشرق فى خجل ماكر. وقفت أتابع تلاشى حركة الكلّ. لاحت لى من هناك عينان ترقبانني، أو ربما توهمت ذلك. شلّت حركتي. انسللت فى خفّة إلى عمق الجدار، انحشرت فى الظلام الدامس، ثم غرقت فى صمت مطبق. لا مجال لخفّة الحركة فى هذا الفضاء الحزين إلا عبر مسار يحتمى بالظلّ؛ ففى الانكسارات المعتمة فقط قد أشهد قيامتي. بعد برهة، أنسلُّ ببلاهة إلى مقام آخر، متخلّصا من خوفي. أتدحرج متلصّصا عابرا تفاصيل الدروب القديمة، كانت مدينة بنزرت غارقة فى هدوء ليلها الشتوي. أتذوّق زخّات المطر. أستسلم لقلق الطريق وهو يوقظ فيّ معانى شريدة. لا إيقاع مرهق يشاركنى عزلتى هنا، فالكلّ نيام. على شاشة الأفول تلك أحيا وحيدا، فيتملّكنى شعور بالطمأنينة. أسمع مسارات الماء تتشابك فى رقّة. أقنع بالصمت. أتجوّل فى مدى لا يعكّره ضيق أيّ نظرة. أشعر بثقل يكبّلني، ما عدت قادرا على خط الكلمات فى صفاء الورقة. اختلّ النظام؛ تغمرنى الفوضى؛ يموت فيّ شيء ما. أتسكّع فى ليل المدينة، أطوف بأرجاء الميناء الفينيقى وحيدا، فلا أجد راحتي. كلّ شيء أُتلف، ما عدت أشهد عالما حقيقيّا ولا توازنا معقولا. سأحاول أن أفسق عن عجزى لأرسم الحرف من جديد، سأعاود كتابة نفسى من خلال تشكّل بدن الخطّ. توقفت أمام مقهى مغلق مطلّ على الميناء القديم، كانت بعض كراسيه البلاستيكيّة مرصوفة أمامه، أخذت كرسيّا وجلست وحيدا أتأمّل هذا الفضاء الغريب. فكّرت بأنى حشرت فى مدى الألم والعذاب، صرت أخرس لا أقوى على فهم رموز العالم وأشيائه التافهة. استسلمت لشرودى العميق. تلحّف كلّ شيء بالضياع. القلق ينخرنى ويمزّقني. الميناء يختنق أمامي، أشعر بكآبته وهزيمته. تجتمع كلّ تفاهات هذا العالم الكئيب فى نقطة هائلة لتنفجر، لا شيء. أى ملل يتلبّسني؟ لم يعد القلم يطاوع حركتي؛ فخطوطى اللينة أثقلها التصنّع والرياء. تيبست أطرافي، أصبحتُ آلة صدئة. كلّ علامات الكون تتداخل فى عشوائيّة عاصفة لتستقرّ على خواء... تيقظت إلى أنى أعبر الطرقات تائها بلا غاية ولا أمل؛ لن أجد ورقة ما تحمل ألمي، قررت العودة إلى مسكني. دلفت بهو العمارة وسط ظلام دامس، صعدت المدرج القديم بتؤدة؛ كى لا أتعثّر فى نتوءات شروخه. فتحت الباب لأستقرّ فى مدارى المخلص. أغلقت الباب بأقفاله الخمس وانتهيت إلى صمت طويل. الغرفة الكبيرة بفوضاها تشملني؛ كانت فى ما مضى أربع غرف قبل أن أهدم فواصلها لتتحوّل مرسما كبيرا يتسع لتسكّعى وقنوطي. تمددت على الفراش. الصور تتشعب وتهبّ فى حراك عنيف. نهضت لأملأ كأسا من الماء، أخذت قرصا مهدئا. تملّكنى نعاس مصطنع، رحت فى دوّامة من الغياب المرهق. ما بين النوم واليقظة سمعت صوتا غامضا يناديني، تنبهت، كانت الشقّة غارقة فى صمتها. استلقيت فى حوض الاستحمام، بدا الماء ساخنا على نحو مؤذٍ. أشعر بدوّار خفيف. استغرقت فى جنان الخنوع، لم أشعر بالراحة لكنى استسلمت. خشيت أن أغفو أو أنهار مغشيّا عليّ، عجلت بالنهوض. عدت إلى الفراش عاريا، تغطيت جيدا بالملاءة باحثا عن الدفء. استقرّت عينيّ على السقف، أغمضتها بدون رغبة حقيقيّة فى النوم. كأنى فى مدى فسيح بلا معالم واضحة، أخترق الفضاء مغتصبا خصائص الأشياء. اللعنة! أكره الاعتياد، أجرّب كسر صلابة الزمن عبر بعثرة الخيال، فأفشل. أعزل أعبر فواجع التشتّت. فى مدى المرآة أستطلع انحناءات جسدى الفاضحة، تنتفخ أجزاء جثتى على نحو مضحك. تتآكل أطرافي، ينفلق جسدى عن دود ينهشني، تبرز جمجمتى اللعينة. تنتن جيفتي. لن أقوى على العيش هكذا. لمَ عليّ الخرس؟ بل، لمَ عليّ التحدّث؟ العالم من حولى يحتكم إلى براهين واهية، إلى سخريات عابثة، إلى قسوة جبانة. أيّ ثقل لى فى هذا المدى الشاسع؟ لا شيء، مجرّد تضاؤل لزمن بلا قيمة، مجرّد هامة تعبر الفضاء فى قنوط ظاهر. حتى أنهم لن يحتاجوا إلى موتي. لم يكن عليّ التميّز لأدرك خواء العالم، كلّ الأدلّة مبثوثة فى عمقى على نحو غامض. تعبت