قدمت أحداث الأسبوع الماضى صورة واضحة الى حد كبير عن السياسة الإقليمية المصرية الجديدة التى تمضى فى طريقها تخط طريقا مختلفا عما جرى فى السنوات الثلاث الماضية والتى أرهقت خلالها الدبلوماسية المصرية بأثقال الوضع الداخلى المضطرب الذى أعقب ثورة 25 يناير والصعود الكارثى لجماعة الإخوان الإرهابية التى كادت تأخذ مصر فى طريق تصادمى لم تعتده الدولة المصرية على مر تاريخها الضارب فى عمق الزمن، من وساطة ناجحة للتوصل إلى تهدئة نهائية فى قطاع غزة إلى دعم المؤسسات الشرعية المنتخبة الجديدة فى ليبيا والمشاركة فى اجتماعات دول أصدقاء سوريا فى مدينة جدة، مرورا بجولة مثمرة فى الخرطوم حول مفاوضات سد النهضة مع السودان وإثيوبيا، تعود مصر إلى دورها العربى التقليدى الذى يعلى من شأن تغليب صوت العقل فى حل المشكلات المزمنة، وفى المقدمة منها أوضاع الفلسطينيين فى غزة الذين يدفعون الثمن فى كل مرة فى مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية الشرسة، وفى محاولة الحفاظ على وحدة أراضى دول الجوار مثلما هى الحال فيما يخص الشأنين السورى والليبى والرجوع إلى مائدة المفاوضات مع أديس أبابا للتوصل إلى صيغ أفضل للتعاون حول الموارد المائية التى تمثل عصب الحياة فى حوض نهر النيل. فى ظل التحركات المصرية الأخيرة، تبدو الإستراتيجية التى ينتهجها الرئيس عبدالفتاح السيسى وينفذها وزير الخارجية سامح شكرى تضع اللبنات لرؤية أعمق تتصل بكيفية التفاعل مع الأوضاع المتفجرة فى المنطقة العربية، وفى محيطينا الإسلامى والإفريقى، ويمكن استخلاص عدد من الثوابت الجديدة التى ظهرت فى الأيام الأخيرة. قضية الشعب الفلسطينى مازالت محور اهتمام الدولة المصرية رغم الأجواء المضطربة التى سادت العلاقة مع حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة، وأن الخلاف مع أحد الفصائل الفلسطينية لا يعنى على الإطلاق التنازل عن ثوابت مصرية راسخة أولها التمسك بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى وعدم التنازل عن حقوقه فى إقامة دولة مستقلة ذات سيادة تعيش فى سلام إلى جوار إسرائيل. فمصر على مدى تاريخ الصراع تدعم الشعب الفلسطينى ولاتدعم فصيلا أو حركة أو منظمة. وقد كان المسئولون المصريون عند قدر المسئولية القومية فى مفاوضات القاهرة ولم يتركوا للجانب الإسرائيلى فرصا للمراوغة فى الوقف غير المشروط لإطلاق النار بين الجانبين وفتح المعابر وإنهاء المعاناة الراهنة التى تفاقمت بعد التدمير الواسع للبنية الأساسية فى القطاع وهو الموقف الذى أثنت عليه حركة حماس والجهاد الإسلامى فى البيانات التى صدرت عقب الإعلان عن الهدنة الدائمة. وقد كان الرئيس السيسى واضحا فى أكثر من موضع عندما تحدث عن ضرورة بدء عملية سياسية للتوصل إلى حل نهائى للقضية وتأكيده أن مسألة التفاوض على «تهدئة» كلما تصاعدت المواجهات بين إسرائيل والفلسطينيين ليست مجدية ولا طائل من ورائها وتزيد من معاناة الشعب الفلسطيني. كما كان التعامل «الهادئ» مع الانتقادات التى ملأت فضائيات وصحفا مناوئة للمواقف المصرية دليلا جديدا على أن مصر الدولة الأكبر فى المنطقة تملك زمام القيادة ولا تعير الصخب والأصوات الملوثة بأموال المصالح الخاصة والمغرضة اهتماما وهو فى حد ذاته برهان على أن الدولة المصرية عادت إلى ممارسة دورها القيادى فى حمل أثقال القضايا العربية فيما يتفرغ آخرون لهدم منظومة الأمن القومى العربى وتنفيذ جداول أعمال مرسومة بدقة فى عواصم أجنبية فى خيانة واضحة للشعوب العربية التى تمر بواحدة من أسوأ فتراتها عبر التاريخ. مواجهة التيارات المتاجرة بالدين من المحيط الأطلسى إلى الخليج العربى ومعالجة أسباب انقضاض تلك الجماعات الدموية على الأوضاع الداخلية فى دول ما أطلق عليه «الربيع العربي» وهى الرؤية المصرية المجردة والنزيهة التى خرجت من عباءة موقف شعبى عظيم فى الثلاثين من يونيو 2013 .. ففى سوريا وليبيا والعراق تظهر أصابع تحالف جماعة الإخوان المندحرة مع جماعات تشكلت برعاية وأموال تفوح منها رائحة المؤامرة على تماسك ووحدة الدول التى ضربها محور الشر الجديد والذى تلعب دولتا قطر وتركيا أدوارا أساسية فى تناميه وانتشاره على نحو كارثى اليوم حتى وصلت رسالة مصر إلى الجميع بضرورة التكاتف قبل فوات الأوان. وقد يجادل البعض بأن تنظيمات مثل «داعش» و«جبهة النصر» و«أنصار الشريعة» قد قطعت اشواطا فى تثبيت أركانها فى الدول المنكوبة بتطرف ودموية غير مسبوقة إلا أن مصر اليوم ترى أن مسئوليتها القومية هى «إفاقة» محيطها العربى إلى خطورة استمرار التشرذم والتفكيك وتغليب مصالح فئوية أو قبلية أو مذهبية. ولعل فى موقف بلد مثل تونس، الذى يعتبر تنظيم موال للتنظيم العالمى للإخوان المسلمين المكون الرئيسى للسلطة الحالية، المثال والعبرة، حيث رأى أن لهيب الجماعات المتطرفة فى الجوار الليبى سوف يمتد إليه عاجلا أو آجلا فقرر العودة إلى الصف العربى من أجل بحث كيفية مواجهة الخطر الداهم وهذه شهادة أخرى على سلامة مواقفنا القومية التى تشوش عليها تلك الأبواق الرخيصة فى إعلام مأجور هدفه الرئيسى هو العمل على هدم الأوطان بكل السبل تحقيقا لمآرب وأطماع خارجية وأخرى من دول قزمية! تضرب مصر فى تعاملها مع الشأن الليبي، خاصة بعد استقبال رئيس البرلمان الجديد ورئيس الأركان الليبى فى القاهرة، نموذجا جديدا فى حماية إرادة الشعوب التى تتعرض لخطر داهم نتيجة تفتت الارادات المحلية وكانت القيادة المصرية قد أعلنت عن ثلاثة عناصر رئيسية تحكم توجهها وهي، دعم إرادة الشعب الليبى الذى انهكته الميليشيات المسلحة والدخيلة والأمر الثانى دعم مؤسسات الدولة الليبية فى سبيل إعادة البناء واستعادة الوحدة بين كل أطراف العملية السياسية فى البلاد والأمر الثالث هو استعداد مصر لتقديم المساعدة لإعادة بناء الجيش والشرطة فى ليبيا باعتبارهما الركيزتين الرئيسيتين لاستعادة كيان الدولة ومنع انهيارها تماماً. ولم تنجح الشائعات المغرضة التى تحدثت عن قيام مصر بالتعاون مع دولة الامارات بضرب معسكرات فى الداخل الليبى فى الإساءة إلى الجهود المصرية الأخيرة وهى الشائعات التى خرجت من منابر إعلامية لا تريد لمصر أن تلعب دورا فى عودة ليبيا إلى حالة الوفاق الوطنى بدق اسفين بين الشعبين ولعل التوقيت المريب لتلك الادعاءات يبرهن على أن هناك مخططات واضحة للوقوف ضد أى جهود للمصالحة وتشير بأصابع الاتهام مجددا إلى تحالف الشر الجديد فى الشرق الأوسط بكل مكوناته القذرة. لقد أشار الرئيس السيسي، للمرة الأولي، فى لقائه برؤساء تحرير الصحف المصرية يوم الأحد الماضى إلى كيانات إعلامية بعينها تقوم بتأجيج الحرب ضد السياسة المصرية وهى التصريحات التى جاءت فى موعدها تماما، حيث لم يعد السكوت من ذهب إزاء تلك الأصوات الناشزة التى مع الأسف الشديد تضم شخصيات مصرية تلعب لمصالحها الخاصة ومصالح التنظيم الإرهابى فى الخارج. التقدم فى المفاوضات الثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان حول سد النهضة نحو التوصل إلى آلية لتنفيذ توصيات اللجنة الدولية التى طلبت مجموعة من الدراسات حول السد والاتفاق على اختيار الدول الثلاث مكتبا دوليا استشاريا، يقوم بعمل الدراسات الخاصة بسد النهضة، لضمان عدم تأثير السد على نصيب مصر من المياه على أن يبدأ المكتب الاستشارى أعماله، أول سبتمبر المقبل ولمدة 6 أشهر يمثل خطوة مهمة فى سبيل التقارب فى الرؤى بين العواصم الثلاث ويذيب الجليد بين القاهرةوأديس أبابا بعد شهور من الشد والجذب حول مشروع السد وإضراره بحصة دولة المصب. ومرة أخري، يأتى التطور الجديد فى ظل توجه يرمى إلى اقتحام المشكلة والتذكير بالعلاقات والروابط التاريخية التى تربط بين شعبين عريقين واعتماد لغة المصالح المشتركة وإحراج الأطراف التى تسعى إلى إثارة المشكلات من خلال الإقبال عليها والتحاور معها وليس الإحجام وتكرار أخطاء الماضي. ومثلما قال وزير الرى الدكتور حسام مغازى فى الخرطوم فإن مصر تعمل بقوة مع كل الأطراف من أجل التوصل إلى اتفاق يمكن أن يحقق الرفاهية لجميع دولنا من أجل إعطاء مثال للعالم أجمع أن «المياه» هى بالأساس حافز للتعاون وليست مصدرًا للصراع بين الشعوب. ما جرى فى الخرطوم هو خطوة فى طريق طويل علينا أن نستمر فيه بنفس الرؤية الواضحة. ....... هكذا، تبدو السياسة المصرية واضحة وشفافة فى تعاملها مع قضايا حيوية تمس أمنها الداخلى ومحيطها العربى وتبتعد عن حالة الإعوجاج التى كادت تغرق فيها على يد ممثل جماعة الإخوان الإرهابية فى قصر الرئاسة والتى قٌدر لمصر أن تنجو من براثنها فى وقت قياسى ولو كانت تلك الغمة قد استمرت أكثر من عام واحد فى الحكم لربما رأينا مصر اليوم غارقة حتى أذنيها فى صراعات، وربما حروب، لا قبل لنا بمواجهة تداعياتها أو المدى الذى كان يمكن أن تصل إليه. ولو كانت تلك هى حصيلة أسبوع واحد فقط من السياسة المصرية فى المحيطين العربى والإفريقى فالمؤشرات طيبة والبناء على ما تحقق مسئولية كبيرة وهو بداية الطريق لاستعادة مصر مكانتها الإقليمية الرفيعة التى لن ينازعها فيها أحد ولن يؤثر فيها أذناب المؤامرات التى ابتليت بها المنطقة. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام