منذ نحو عشرين عاماً اتخذ مجلس الوزراء قراراً بإلغاء مايسمى «بالكارت الأصفر»، وهو بطاقة لابد من حصول أى موظف بالدولة والقطاع العام عليها من جهة العمل كى يتمكن من السفر الى الخارج باعتبار ان ذلك يمثل اعتداء سافراً على حق من حقوق الانسان بالسفر والتنقل حيثما يشاء.. وفور صدور هذا القرار عقد المجلس الأعلى للجامعات اجتماعاً لبحث هذا الأمر وكالعادة أصدر قراراً بالترحيب بقرار الحكومة بإلغاء «الكارت الأصفر» وأقترح أن يتم استبداله «بكارت أبيض» يصرح بمقتضاه بالسفر لأعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعات ومعاهد التعليم العالى بمصر !!.. وبالطبع رفض هذا الطلب الغريب للمجلس الأعلى للجامعات وأثار السخرية والاستهزاء حيث أصبحت المشكلة لدى المجلس هى لون الكارت وليس مايعبر عنه من تقييد للحريات على نحو يذكرنا «بالنكتة» الشهيرة عن شخص يدعى عوض (الدهل) كان يستشعر الخجل من اسمه فقام بتغييره إلى سيد (الدهل)... ولأن الأمور لا تتغير فى مصرنا المحروسة إلا بشق (بكسر الشين) الأنفس وشق (بفتح الشين) الصدور والجيوب أيضا، فلقد تقرر إعادة لجنة لا يوجد أساس قانونى لها وتم افتعالها كى تكون لجنة وسيطة بين الرقابة على المصنفات الفنية ولجنة التظلمات، وهى لجنة الرقابة العليا، ولكن مع إعادة تسميتها بلجنة «حماية حرية الابداع»، وهو عنوان براق مثل «الكارت الأبيض» البديل «للكارت الأصفر»، فاللون الأصفر كما اصطلح عليه هو لون الدنس والغيرة والحسد حسب تصنيفات قواميس الألوان الشهيرة.. وهكذا عدنا إلى التسميات الجوفاء بدلاً من النظر الى مضمونها، وتبدو هذه المحاولة اليائسة لزيادة قبضة الرقابة على الفكر والابداع فى مصر، كبديل للنوايا التى تم اعلانها من قبل بإلغاء الرقابة واستبدالها بالتصنيف العمرى كما هو الحال فى سائر أنحاء المعمورة باستثناء عدد ضئيل من البلدان الخاضعة لانظمة ديكتاتورية فاشية، حيث اعتبر العالم الحر المتقدم والذى يرفض البعض ان تكون جزءا منه، ان مجرد وجود رقابة تحدد لمواطنيه ما يقرأون أو يشاهدونه أو يسمعونه هو عار ما بعده عار، واخذت مؤسسات الرقابة واجهزتها فى الاحتفاء منذ ما يقرب من خمسين عاما بينما ظلت صامدة ومتزايدة عاما بعد آخر فى مصر (!!).. والرقابة فى السينما المصرية على عكس ما يظن البعض هى رقابة لها ماض حسب المفهوم الشائع فى افلامها فى وصف المرأة المنحرفة، فلم يكن الهدف منها ومنذ بدايتها إلا قمع الشعب، وعندما صدرت »لائحة التيارات (المسارح)« فى 12 يوليو عام 1911، كان الهدف منها أساسا منع المسرحيات الوطنية التى بدأت تنتشر وقتها لمناهضة الاحتلال البريطانى لمصر، وبينما كانت حكمدارية القاهرة بمسئوليها البريطانيين تجيز مسرحية تشهر بقائد الثورة العرابية الزعيم الوطنى الكبير أحمد عرابى عام 1909 كانت تصادر فى نفس العام مسرحية تدافع عنه.. وهى نفس الحكمدارية التى صادرت عام 1906 مسرحية تجتمع على مذبحة دنشواى وتشهر بجرائم الاحتلال البريطانى فى مصر، ومع استمرار التنديد بالاحتلال البريطانى على المسرح المصرى، وعدم رضوخ الفرق المسرحية لقراراته الخطيرة بدأ التدخل فى النشاط المسرحى واغلاق المسارح، وهو الأمر الذى توج «بلائحة التيارات» التى تعد اول جهاز رقابى فى مصر يقضى بالحصول على اذن مسبق قبل عرض اي مسرحية... ومع انتشار السينما الوليدة وقتها فى مصر، أثبتت «لائحة التياترات» مخالبها فى السينما ايضا ولصالح الاحتلال البريطانى فى اثناء الحرب العالمية الأولى حيث قامت بمنع افلام المانيا والدول المتحالفة معها... وهكذا فان هذه الرقابة التى ظهرت اساسا كجهاز لقمع الحركة الوطنية فى مصر، وبهدف منع اى هجوم على الاحتلال البريطانى، تحولت الى جهاز مستقر وثابت فى منعه لاي افكار متقدمة، وظل هذا الجهاز اللقيط ينمو ويستفحل وتزداد سلطاته حتى اصبح متحكما تماما فى الفنون السمعية والبصرية، ويترصد اي آراء او انتقادات أو افكار مخالفة للنظام الحاكم أيا كان، وسواء كان احتلالا بريطانيا أو مصريا متمثلا فى سلطات جائرة عديدة فرضت بشكل او بآخر على الشعب المصرى... واستمرت «لائحة التيارات» صامدة لأكثر من أربعين عاما يصدر بشأنها قرارات حكومية تزيدها تعسفا وتنكيلا بحرية الرأى والإبداع يوما بعد يوم وعاما بعد عام. وفى عام 1955 صدر قانون لتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحرى والأغانى والمسرحيات والمونولوجات والأسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتى، وهو القانون الذى مازال ساريا حتى الآن، وإن كان قد اعتراه ايضا ما أعترى «لائحة التيارات» (اياها) سيئة السمعة، حيث قام الدكتور جمال العطيفى الذى عين وزيرا للثقافة والإعلام بإصدار القرار الوزارى رقم 220 لعام 1976 الذى يزيد فيه من شديد قبضة الرقابة على المصنفات الفنية بكل اشكالها، وكاتجاه من الدولة وقتها بتملق جماعات الإسلام السياسى التى اعطاها الرئيس الأسبق أنور السادات فرصة الظهور والنمو حتى تم اغتياله على يديها، غالى الدكتور العطيفى فى التشدد على ما تصوره أمورا وعظية ارشادية دينية، كفيلة إذا ما جرى تطبيقها بمنع ظهور أى فيلم، وأضاف الى منعه اظهار صورة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحد من الخلفاء الراشدين وأهل البيت، منع صور العشرة المبشرين بالجنة أو حتى سماع أصواتهم، وكذلك اظهار صورة السيد المسيح أو صور الانبياء عموما... وجاء هذا التملق الدينى من قبل الدكتور العطيفى اعتداء فظا على حق ديانات أخرى وعلى رأسها الديانة المسيحية فى إظهار صورة السيد المسيح الموجودة فى كل كنائس مصر والعالم، ولسنوات كانت دور العرض تذخر بعروض افلام عن السيد المسيح فى الأعياد المسيحية فى مصر الى أن صدر قرار الدكتور العطيفى الذى لا يملك حق المنع فأعطاه على طريقة وعد «بلفور» الشهيرة لمن لا يستحق وهو جهاز الرقابة وغلاة المتشددين والمتطرفين الدينيين فى مصر.. واذكر (بضم الكاف) فى هذا السياق واذكر (بكسر الكاف) بأن الدكتور جابر عصفور عندما كان رئيسا للمجلس الأعلى للثقافة كان هو من وقع التصريح الرقابى بعرض فيلم «آلام المسيح» بعد ان قام الدكتور مدكور ثابت رئيس الرقابة وقتها برحلة مفاجئة الى المغرب نفذ بجلده خلالها من تعليمات العطيفى البائدة... ولان الزمن دوار كما يقال، فلقد جاء وفى نفس السياق عرض فيلم «نوح» وقد أصبح الدكتور جابر عصفور وزيرا للثقافة، فماذا حدث؟!... ولماذا لم يعرض الفيلم رغم موافقة رئيس الرقابة السابق الدكتور احمد عواض على عرضه؟! بعد تصريحات للدكتور جابر عصفور بأنه ليس من حق مؤسسة الأزهر التدخل لمنع عرض أى فيلم، وبعدما بدا تورطا بالسماح بعرض الفيلم الذى يعرض فى جميع انحاء العالم بما فى ذلك عدد من الدول العربية والاسلامية، لجأت الدولة الى حيلة قديمة مكشوفة سبق استخدامها من قبل ويطلق عليها «شفرة ابو شادى»، حيث تمكن الصديق الناقد على ابو شادى عندما كان رئيسا للرقابة من منع فيلم «شفرة دافنشى» بناء على صراخ وعويل النائبة جورجيت قللينى فى مجلس الشعب وقتها، بأن طلب من الشركة التى تقوم بتوزيع الفيلم بألا تحضر الفيلم وإلا سيتم رفضه، وهكذا فإن مصر التى هى احدى دولتين فى العالم قامتا بمنع الفيلم باستثناء دولة الفاتيكان بالطبع والتى لا يوجد بها دور عرض سينمائى، معذورة فى عدم عرض فيلم «شفرة دافنشى» الذى لم يصل اليها اصلا. وفيما بعد تم عرض «شفرة دافنشى» على عدد من قنوات الافلام السعودية والعربية.. وهكذا عادت «شفرة ابو شادى» على استحياء لتنقذ ماء وجه وزارة الثقافة، وتمثلت هذه المرة بالقول بأن موزع الفيلم ولاسباب مجهولة قام بسحبه من العرض فى مصر... (هكذا؟!).. لقد تم تقريبا التراجع عن قرار اقامة ما يسمى «بلجنة الدفاع عن حرية التعبير» كلجنة رقابية مستحدثة نتيجة لاحتجاج السينمائيين المصريين ونقابتهم على هذا العبث الذى يجرى... ولكن مشكلة الرقابة المهنية للشعب المصرى الذى قام بثورتين فى اقل من عامين ونصف العام ما زالت قائمة، وهى بصورتها الراهنة مخالفة صريحة للدستور الذى ينص صراحة على حماية حرية التعبير، إن الذى لا يدركه كل من يتحايلون لابقاء الرقابة وتشديدها على الآراء السياسية أساسا وان تذرعوا بحجة الدفاع عن الاخلاق الحميدة، لا يدركون ان الشعب المصرى بعد ثورتين متتاليتين لم يعد نفس الشعب الذى كانوا يمعنون فى غلق كل منافذ التعبير الفنى بكل اشكالها فى وجهه، وعلى هؤلاء المتشدقين بحرية التعبير وحمايتها ان يدركوا انه لا مفر من اسقاط آخر مظاهر الاحتلال البريطانى لمصر والمتمثلة فى «لائحة التياترات» القديمة التى هى الام الشرعية لجهاز الرقابة الحالى البالى المتخلف، وبدلا من ان تعود (ريمة) متمثلة فى وزارة الثقافة الى رقابتها القديمة، عليها ان تعلن جدولا وخطة زمنية محددة لالغاء الرقابة واستبدالها بتصنيف عمرى كما هو الحال فى عالم تحول الى قرية كونية كبيرة، ولم تعد اي رقابة من أى نوع وبفضل وسائل الاتصال الحديثة قادرة على منع أى شىء،