السؤال لغير الله مذلة.. هكذا الاستئذان للبشر اذ قد يجد فيه المرء تقييدا لحريته .. وربما يراه تلجيما لانطلاقه وأحيانا عائقا أمام مضيه قدما نحو احتضان الحياة ومن ثم التحليق بها ومعها نحو آفاق الادراك البشري وسماوات الابداع الانساني. وتأتي حكمة من جبال التبت لتقول لنا: «الأمر الطيب يهمس..أما الأمر الشرير فيصرخ». ومن هنا نقرأ أيضا سطور كتبها الأمريكي رالف والدو ايمرسون «فلنكن في صمت وهذا قد يجعلنا نسمع همسات الآلهة».. ونسمع من نصيحة الحكماء: «دع قلبك يرشدك. انه يهمس لك بتأن فاستمع اليه باهتمام» وسواء كان القلب أم الضمير هامسا أو كانت حكم الأقدمين أو همسات العشاق فان الاستماع الى تلك الهمسات مهما كانت خافتة وربما «مشوشة» وسط الضجيج المنتشر حولنا من الصرخات هو المطلوب دائما في تحصيل المعرفة وتجويد الاستمتاع بتفاصيل الحياة التي تحتضن كعادتها الهمسات والصرخات معا .. وما عليك الا السعي لمعرفة ما هو الطيب وما هو الشرير وما هو الصالح وما هو الطالح .. فقط اصمت وانصت «لهمسك الداخلي» وتبين واختار ودائما لك الخيار. نعم، اختار وقل كلمتك .. ولا تستأذن أحدا. ومنذ أكثر من أسبوع تحاصرنا الهمسات والصرخات حول رحيل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم وما تركه لنا من وصية نضال ومقاومة «منتصب القامة أمشي .. مرفوع الهامة أمشي» ومن تحذير لقوات الاحتلال والبطش «تقدموا..تقدموا براجمات حقدكم.. وناقلات جندكم.. فكل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم». وأيضا ما كتبه من حكمة وتجربة «لا أستأذن أحدا بهدوء وروية» قالها كما كتب وهو يقطف الوردة ويغني للحبيبة وهو يقذف حجره في وجه البشرية ويغني لعواصف السخط في ليل البشرية.. وأخيرا قال بوضوح»لا أستأذن أحدا /أقضم تفاحة موتي / وأغني وأغني للحرية» وسميح كان الشاعر الذي تذكر أبيه قائلا:»يا أبي! والدي! أبوي! ويابا» وقال أيضا « أتشهى نداءك العذب «يا ابني» وجوابي لدى ندائك : «أمرك!» .. ثم خاطب والده قائلا «يا أبي ما زلت في منزلنا ماثلا ، لم ننس حتى نذكرك» .. و»طفلك المتعب مشتاق، فمن يا أبي، عن موعدك قد أخرك؟» وسميح القاسم كان ثالثهم .. ممن كتبوا شعر المقاومة والصمود والتحرر والمواجهة وعدم الاستسلام والنضال والعزة والكرامة. وكان مع توفيق زياد ومحمود درويش عشنا معهم ومع كتاباتهم فلسطين الأرض وفلسطين الشعب وفلسطين القضية والمقاومة والتحرر. وكما جرت العادة ذهب الشاعر وبقيت الكلمة مثلما رحل الملحن وخلدت النغمة ومات الحكيم وعاشت الحكمة وتوفى المرء وترك وراءه الذكرى.وجميل أن يذكرنا الكثيرون ومنهم خليل صويلح وعبلة الرويني بالرسائل المتبادلة بين سميح القاسم ومحمود درويش والتي كتبت في النصف الثاني من الثمانينيات من القرن الماضي. وكانت هذه الرسائل اكتشافا وابحارا ومغامرة وغوصا وطيرانا وهمسا وصراخا بين شاعرين فلسطينيين جمعهما أشياء كثيرة ومعا عاشا لفترة. كانت الرسائل أو كتابات «شطري البرتقالة» رسم قلب ورسم مخ ورؤية حلم لدرويش والقاسم ومن خلالها لمشاعر وأحاسيس الداخل والمنفى والهجرة والاقامة وأيضا منطق العقل وتدفق القلب. وفيها قرأنا من ضمن ما قرأنا سميح وهو يقول: «لسنا غصنا مقطوعا من شجرة هذه الأمة. نحن حراس أحلامها وسدنة نارها الطاهرة» وفي موضع آخر يقول سميح لدرويش: « «لا باس عليك اذا أنت أحزنتك سخريتي بعض الشئ، فاننا نتسلى بأعصابنا ونلوذ بما تبقى من هواجسنا، احتمي بهبلك كما تحتمي بهبلي، ونظل رغم كل شئ ولدين عاقلين لدرجة الفجيعة». وعندما سأله درويش: «أين قبري يا أخي؟ أين قبري؟ أجاب سميح: «لا تسألني أين قبرك، مادام هذا المهد قضية معلقة فسيظل القبر سؤالا محرجا يتيم الاجابة». وكان سميح القاسم في زيارته الأولى للقاهرة عام 1988 حريصا على زيارة قبر الفلسطيني معين بسيسو بعد أن زار ضريح عبد الناصر وذلك قبل أن يلتقي بالشيخ امام في حوش آدم. وقد اعتبرت نفسي يومها محظوظا وأنا بصحبته وبصحبة يوسف القعيد ونجوان عبد اللطيف .. كنا معا مع سميح وهو يطل على النيل ومعه في جولة طالت ساعاتها وهو يسعى للقاء مع مصر والقاهرة «اللي في البال». وأذكر هنا أنني كنت قد تلقيت منه عام 1986 كتابا لقصائده عبر صديقة مشتركة هى الأكاديمية جورجيت آفاكيان التي كانت قد حملت الى الشاعر الفلسطيني رسالة منى. وقد كتب سميح اهداء في صفحته الأولى «الى اخي توماس مع أجمل الأمنيات وعلى أمل اللقاء في ضوء الشمس الغامر والأبدي الرامة 86». وبما أننا التقينا لأول مرة وتعانقنا وتحاورنا في القاهرة عام 1988 فما كان مني الا أن أعطى له الكتاب ذاته من جديد ليكتب تحت الاهداء الأول التالي « عزيزي توماس .. ها نحن نلتقي ثانية في مركب الشمس ونواصل الرحيل». وبعد هذا اللقاء عام 1988 مرت أكثر من عشرين عاما لنلتقي من جديد عام 2009 في الدوحة ونواصل الحوار وكأنه كان بالأمس وأنا أريد أن أستمع اليه أكثر فأكثر والى همساته التي لم تتوقف والى صرخاته التي لم ترضخ وكان سميح القاسم يتحدث معي عن الوطن والبيت والأسرة والذاكرة والتاريخ والشتات الفلسطيني والأرمني!! ومهما قيل وكتب عن الفقيد والفقدان والمفقود فان غياب ضمير الشاعر في حياتنا و» ما يأتي به من الهمس الحافز والصارخ في وجوهنا بدون استئذان « وهو الغائب غالبا وهو أيضا المطلوب كلما تلبدت السماء الغيوم وتشوشت الرؤية وتبلدت العقول وتزايدت الصرخات في الفضائيات .. وهذا هو ما يحدث الآن على الشاشات في بيوتنا وفي زوايا عقولنا.. وهذا هو»العالم الافتراضي الذي اعتدناه ونتباهى به ونجاهد ونكافح و»نطنطن» من خلاله .. واعتبرناه بديلا لكل شئ في حياتنا». والقانون السائد في هذا العالم تحديدا (ومع الأسف) هو البقاء للأعلى صوتا والأكثر صراخا سواء كان هذا الصراخ متواجدا في صوته كاعلامي أو كان هذا «الصراخ» ظاهرا ومكشوفا في شكلها ومظهرها كاعلامية.. وبينما كنت منهمكا فى التذكر والانصات من جديد للهمسات والصرخات في قصائد سميح ورسائله مع درويش وأيضا في حديثه الممتد معى وقعت عيني على صورة(مرفقة مع هذا المقال) لستار مصنوع من الستنلس ستيل وهو عمل فني ابداعي من أعمال جوم بلينزا يسمى «الهمس» معلق حاليا في المركز الطبي بكليفلاند بولاية أوهايو. وهذا العمل مثل غيره من الأعمال الفنية التشكيلية صارت منذ فترة ليست ببعيدة جزءا أساسيا في مستشفيات ومراكز طبية أمريكية على أساس أن الانسان عندما يكون مريضا يكون في حاجة الى هذه الالوان والأشكال لكي يخرج مما هو فيه .. ويتحرر من واقعه المؤلم والمقبض معا.وقد تكشف للباحثين في علوم النفس البشرية وبشكل أكبر في الفترة الأخيرة مدى تأثير اللوحات والقطع الفنية على صحة الانسان و»مزاجه العام». وكيف أن هذه الأعمال الفنية بألوانها المتعددة وأشكالها المختلفة تساعد المرضى وأسرهم في الاسراع بعملية العلاج. كما بينت دراسات أجريت في هذا المجال العلاقة المباشرة بين العمل الفني من جهة و»رد فعل المخ» تجاه الألم والاجهاد النفسي والقلق. وذكرت «ايفا فاتوريني» الطبيبة المختصة في أمراض الجلد ومديرة معهد الفن العالمي والطب بمركز كليفلاند الطبي بأن الهدف من ايجاد الأعمال الفنية ومنها «الهمس» في المستشفى أمام المرضى «هو أخذ دماغك وتفكيرك بعيدا عن المرض الذي تعاني أنت منه وأن يتم وضع بديل له.. كما يتم استبدال الوقت الذي يضيع منك في المستشفى ببعض من الجمال». في كل الأحوال وطالما أن الحياة بهمساتها وصرخاتها هي «الهم الشاغل» وبالتالي التعامل معها هو «الطريقة المثلى» لمواجهة تحديات الحياة اليومية مهما كانت حجمها وتعقيداتها.فاسمع دائما وأبدا الى «همسك الداخلي..الخاص بك وحدك» ولا تستأذن أحدا فيما تفعله أو تريد أن تفعله أو تنوي أن تفعله. وبالمثل لا تعتذر أيضا لأحد عما فعلته أو أردت أن تفعله أو نويت أن تفعله. خاصة أن بين تردد الاستئذان وتخبط الاعتذار كم من لحظات صدق ضاعت بسبب هذا الحذر المتواصل أو ذاك التردد المستمر وغالبا ما يكون انك ارتضيت بذلك وتبريرك كان «تفادي الصدام» أو «الابتعاد عن المغامرة وعواقبها».. الا أن هذه اللحظات غالبا ما تتبعها لحظة أو لحظات ندم ولو كانت بعد وقت طويل .. نعم، لحظة ندم على كل ما فات وكل ما ضاع وأيضا كل ما راح ضحية الاستئذان أو الاعتذار!! وأنت بالتأكيد لست في حاجة أن تكون لا نادما ولا مستئذنا ولا معتذرا!