من تابع رحلة تجفيف المحروسة من عقولها الكبيرة لابد أن يتوقف عند إصرار حسني مبارك ألا يوجد بجانبه من تطول قامة أفكاره عن قامة أفكار مبارك ، فقد سبح مبارك في ملكوت تقديس الذات حتى ولو كانت تلك الذات تحتاج إلى خيال له صلة بالواقع. وقد لمست ذلك بنفسي حين عملت مع السياسي الراحل منصور حسن مستشارا لبعض الوقت ، وعاينت عدم قدرة مبارك على مناقشة أي رأي يخرج من السادات ، عكس منصور حسن الذي كان قادرا على مناقشة السادات في قراراته . والمثال الحاضر في ذهني هو إصرار منصور حسن على إعادة تأسيس الحزب الوطني من القاعدة إلى القمة ، وكيف وقفت تشكيلات العصابات السياسية ضد ذلك. وقد يخطئ البعض حين يظنون أن منصور حسن هو من إكتشاف السادات ، فالحقيقة أن أول من اكتشفه هو الرئيس جمال عبد الناصر الذي ألحقه بمكتبه للشئون العربية لمعاونة الرائع الرائد فتحي الديب الذي حفظ خفايا البيت العربي بكل تفاصيله ؛ أما كيف كان منصور من اكتشاف عبد الناصر فالقصة تبدأ من والد منصور الذي اشترى شركة لصناعة الدواء ، فاكتشف منصور أن كثيرا من سكان المحروسة الفقراء لا يستطيعون دفع ثمن الدواء فكتب لعبد الناصر رجاء أن يقوم بتأميم شركات الدواء . واستقبل جمال عبد الناصر تلك الرسالة ليؤسس من بعدها شركة الجمهورية وعددا من شركات تصنيع الدواء . وحين تواصل منصور مع مكتب جمال عبد الناصر التقى هناك بعضا من زملاء هارفارد كأسامة الباز ، وعمل منصور في الشئون العربية بقلب لاترهقه سوى جدران الشك المقامة حول قصور الحكم ، لإيمانه بأن ما يهدد بيوت الحكم هو تلك الجبال من الشكوك التي تزرعها أيد غربية تريد للاستعمار أن يأخذ شكلا جديدا ، فبدلا من مقاومة الأجنبي يمكن للجهد العربي أن يتبدد في مقاومة أركانه لبعضها البعض . واستقال منصور من العمل العربي الرسمي بعد وفاة عبد الناصر ، وظل قابلا لقدره الذي يتقنه ولا يفضله ، وهو أن يكون رجل أعمال . إلى أن استدعاه السادات ليناقشه ويسند إليه الكثير من المسئوليات . وكان وجود منصور على ساحة السياسة مصاحبا لرحلات من هجوم كثير من الإذاعات العربية على مصر و السادات بسبب إتفاقية كامب دافيد ، وكان هناك في واقعنا من استسلم لدور رد الفعل ، فامتلات أعمدة الصحف ومحطات الإذاعة بأوصاف تسخر أو تقلل من مكانة بعض من حكام البلدان العربية . وكان منصور مقتنعا برأي د. قدري حفني الدارس لتفاصيل نشأة إسرائيل ، وموجزه أن كامب دافيد مجرد اتفاقية وعلى العالم العربي أن يجعل تقدمه هو ما يملأ الواقع العربي بتقدم علمي وصناعي، يضع إسرائيل في حجمها الطبيعي بدلا من أن يتم تبديد القوة العربية بحالة الاحتراق الذاتي التي استسلمنا لها.ولن أنسى أبدا رفض منصور حسن أن يصدر أي سباب أو وصف غير لائق لاي قائد عربي، رغم ازدحام الفضاء العربي بإذاعات وصحف تثري حالة التقليل من شأن بعضنا البعض . وعندما شعر ياسر عرفات بأن مسلسل عزلة مصر عن العالم العربي يكون الخاسر الأكبر فيه هو الفلسطينيون أرسل من يتواصل مع منصور حسن لينقل له رغبة أبو عمار في بناء جسر للتواصل رغم الإختلاف . وكانت الجملة الأولى من كلمات منصور لممثل أبي عمار «» حدث منكم أن وجهتم ألفاظا غير لائقة للزعيم جمال عبد الناصر حين وقع مبادرة روجرز التي ساعدته على استكمال بناء حائط الصواريخ ، وفي الشهور التالية ذقتم مرارة الابتعاد عن مصر حيث دار التقتيل لمقاتليكم بأحداث سبتمبر الأسود عام 1970 ، وفقدت الأمة قائدها عبد الناصر وهو يوقف مسلسل المذابح. ولا أدري لماذا لا يتذكر القادة الفلسطينيون أن الخلاف مع القاهرة يقود إلى مذابح يتم إعدادها لكم. فأنتم دون مصر التي لا تفرض عليكم أي شروط تسلمون أنفسكم إلى الضعف. وأقرت منظمة التحرير بخطا تعاملها مع مصر . وصاحب ذلك قرار منصور حسن كوزير للإعلام بعدم توجيه أي سباب لأي رئيس عربي لأن ذلك يخصم من قوة الأمة العربية ككل . وحين تولى حسني مبارك الحكم بعد رحيل السادات كان أول ما طلبه من منصور حسن هو السفر إلى الأردن ليبدأ رحلة عودة العالم العربي لمصر ، لينجح في بناء جسر مودة مع الأردن ثم العراق ثم السعودية . ومن بعدها ترك الساحة ليتفرغ للمتابعة إلى أن اختاره المجلس العسكري رئيسا للمجلس الإستشاري . وكثيرا ما سألته عن هذا المجلس الأعلى للقوات المسلحة فكان يتوقف بكلمات الثقة عند اثنين بجانب المشير حسين طنطاوي هما اللواء محمد العصار واللواء عبد الفتاح السيسي . لن أنسى كلمات منصور عن أن عبد الفتاح السيسي بجولاته في عقول وقلوب الأطراف السياسية بكل أطيافها يذكره بما كتبه جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة ، حيث بدت كل القوى متنافرة تترصد كل قوة غيرها . ومن المؤكد أن القوى السياسية التي حاول منصور أن يغزل فيما بينها توافقا ، كانت في أغلبها قابلة لرسم صورة توافق سياسي لن يخونه إلا من ثرثروا بأحاديث خيانة الله ورسوله ، بينما هم من لحظة تأسيسهم لوجودهم على أرض مصر هم أهل تواطؤ وخيانة لله ورسوله وللوطن ورفض من منصور الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية بأصوات إخوانية تأتيه من مجلس الشعب الإخواني . ومكث في منزله إلى أن صعدت روحه إلى بارئها بالسكتة المفاجئة . ومن الوفاء لمن شاءوا العطاء دون انتظار مقابل أو ثمن ؛ ويمثلهم أعضاء المجلس الاستشاري، ومعهم الكوكبة البشرية التي وضعت الدستور ؛ من الوفاء أن يجتمع كل هؤلاء كجمعية تأسيسية لاختيار الصالحين لعضوية البرلمان القادم ، فهو ليس برلمان خدمات بل برلمان تشريع لما أفرزته ثورتا الخامس والعشرين والثلاثين . وطبعا لن يوجد في تلك الجمعية ذلك النفر من المتأسلمين الذين خانوا أحلام المصريين وراحوا يعيثون بالقتل والتخريب إمكانات النهوض . ولابد أن ينظر هؤلاء جميعا في إعداد ميثاق توافق وطني له أعضاء محددون يدخلون انتخابات مجلس الشعب دون غيرهم ليكون المجلس سندا في رحلة بناء المستقبل لارحلة جعجعة سياسية تبدد الطاقة . وأقرر أن هذا الحلم هو ابن لرحلة تذكار لسنوات من النقاش مع منصور الذي رأي رأي العين أن كل قوة سياسية في مصر هي قوة محدودة التأثير بفعل التجريف المباركي ، ولابد أن نلملم أطراف قوتنا . ومن يرقب قول الرئيس السيسي « أنا مش حا أشيل لوحدي .. لازم تشيلوا معايا»، لابد أن يعي عجز أي قوة من قوى الساحة على التفرد بالمشهد ، فالقزمية مرض سياسي أصاب الجمع ، ولكي تطول قامة الإنجاز لابد من التضافر .