شكلت السنوات الثلاث الأولي من هذا القرن, نقطة تحول حاسمة بالنسبة إلي منطقة الشرق الأوسط, لقد غيرت الأحداث في تلك الفترة البيئة الأمنية الإيرانية, وخلصتها دون أن تطلب من خصومها المزعجين, كما شهدت نفس الفترة بلوغ تركيا سن الرشد الديمقراطي المتناغم مع هويتها الإسلامية, وصعودها كمركز ثقل اقتصادي إقليمي, هذه العوامل وغيرها سهلت أمام كل من إيران وتركيا تبني سياسة تقسيم ناعمة للدول العربية, زاد من حماسها الثورات العربية التي وفرت فرصا فريدة لإمكانية إعادة تجزئة بعض الدول العربية. يري محمد أيوب, الأستاذ البارز في العلاقات الدولية بجامعة ميشيجان الأمريكية, أن مستقبل منطقة الشرق الأوسط, هو مستقبل تركي فارسي, كانت ملامحه قد رسمت منذ عام1991, مع استنزاف القوة العراقية, خلال حرب الخليج الأولي, حيث توفر فضاء سياسيا رحبا أمام كل من البلدين لممارسة نفوذهما في الخليج العربي وكردستان العراق بعد ذلك, ثم اكتملت الملامح بشكل شبه كامل وواقعي إلي ابعد الحدود, بعد غزو الولاياتالمتحدة وحلفائها لأفغانستان والعراق بين عامي2001 و2003. هذا الاجتياح الأمريكي, غير بلا رجعة, ميزان القوي في الجزء الشرقي من الشرق الأوسط الكبير, عن طريق إزالة ابرز خصمين إقليميين لإيران, وهما حركة طالبان وحزب البعث العراقي, أيضا تزامن هذا الاجتياح مع تحول كبير في التوازن بين القوي السياسية داخل تركيا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلي السلطة عام2002, بعدها كانت التداعيات الدولية لهذا الحدث الذي دفع المحلل السياسي التركي البارز سولي ازويل إلي تسميته ب'تسونامي' السياسية التركية. كانت قاعدة حزب العدالة والتنمية الاقتصادية, والتي تتألف أساسا من برجوازية محلية متشبثة بالعولمة والتحرر الاقتصادي, هي التي دفعت بتركيا نحو طريق التصاعد الاقتصادي,مما أدي إلي تزايد نفوذها الاقتصادي وتحولها إلي مركز ثقل إقليمي. ويري أيوب في مقال له بمجلة فورن افيرز الأمريكية, أنه بعد الانسحاب الأمريكي من العراق, أصبحت تركيا هي الراعي الإقليمي أمام كردستان العراق, لحمايتها من هيمنة بغداد من جهة, ومن جهة أخري توفير ممر لتصدير النفط إلي الغرب. يكتب الباحث بجامعة كامبريدج, جايسون باك, أن من يسير في شوارع اربيل يلاحظ الوجود التركي في كل مكان, في شكل بناء واستثمار وسلع استهلاكية وأيضا سياح, وستكون النتيجة الفعلية لكل هذا أن تصبح كردستان, دولة عزل عراقية كردية, سوف تعتمد علي تركيا بشكل أساسي من اجل بقائها, هذه الدولة سوف تشكل من ناحية أيضا, حاجزا أمام التدخل الإيراني أو الأمريكي, أو حتي التدخل من حزب العمال الكردستاني في الشئون التركية. في حين تسعي إيران من جانبها إلي خلق دولة عازلة شيعية في جنوب العراق, لتكون حصنا ضد التجاوزات التركية والأمريكية والسعودية. ونعود لأيوب, الذي يري أن التحول الاستراتيجي والسياسي في الشرق الأوسط الكبير, هو نتيجة لمجموعة من العوامل, بعضها محلي وبعضها إقليمي وهناك أيضا العوامل الدولية, لكن الأهم انه نتاج استخدام مزيج من القوة الناعمة والقوة الخشنة, مع براعة متزايدة من قبل أنقرة وطهران في الجمع بين القوتين في حالات معينة, لكن بلا شك تبقي القوة الناعمة هي الأكثر جاذبية, وهي القوة التي لا تملك دولا أخري في المنطقة مفاتيحها, لكنها تبقي النموذج الذي تتوق إليه بقية شعوب دول الشرق الأوسط, خاصة النموذج التركي. من جهته يري مارتن كريفليد, الذي يعد واحدا من ابرز الخبراء الأمريكيين في التاريخ العسكري,انه قد غاب عن المراقبين الغربيين خيط رئيسي للأحداث, وهو أن التقسيم الناعم الجاري الآن بشكل غير متماثل للجمهوريات العربية بين إيران وتركيا, يؤكد تلاشي الوجود الأمريكي باعتباره قوة الهيمنة في المنطقة, ويلاحظ, انه لم يبقي سوي الممالك العربية وإسرائيل, من لازالوا يتطلعون إلي الولاياتالمتحدة باعتبارها الراعي الإقليمي لهم. ويستكمل كريفليد تصوره لهذا التقسيم الناعم, بأنه في مرحلة ما بعد الربيع العربي, ومع انبعاث الحركات الإسلامية في كل من مصر وتونس والمغرب, فقد قسمت أيضا هذه الدول بين تركيا وإيران, حيث دعم الأتراك' المعتدلين' إسلاميا, المنتصرين حتي الآن في انتخابات تونس ومصر. في حين أيدت إيران السلفيين, علي رغم كونهم من السنة. ويكمل, انه خلال الانتخابات المصرية والتونسية, وخلال الصراع بين الميليشيات المدنية في ليبيا, فقد دعم الجناحين الإسلاميين بعضهما البعض ضد العلمانيين والليبراليين الجدد المدعومين من الغرب, وبما أن دول الثورات في شمال أفريقيا تفتقد إلي غالبية شيعية, فقد أصبح الإسلاميون' المعتدلون' اللاعبين الرئيسيين في المنطقة بدعم من تركيا السنية, جنبا إلي جنب مع دولة قطر الراعي الصاعد علي المستوي السياسي والتجاري في شمال أفريقيا. يؤكد العديد من المحللين اليمنيين الأمريكيين والإسرائيليين, أن هناك صراع جيواستراتيجيا بدأت تتكشف ملامحه في منطقة الشرق الأوسط, وهم يرجحون أن ينتج عنه حرب باردة جديدة بين أمريكا وإيران حول ما بات يعرف بمنطقة' الهلال الشيعي' الممتدة من لبنان إلي العراق, وما يدفع المحللين لتصور أن الأمور لن تتعدي الحرب الباردة, حقيقة أن كل من الولاياتالمتحدةوإيران تعانيان من صعوبات هائلة داخلية علي المستويين السياسي والاقتصادي, ويتزامن هذا مع حقيقة أن كلا منهما قد هزم أمام تركيا الصاعدة باندفاع. الصراع من اجل الهيمنة الإقليمية بين كل من إيران وتركيا وفقا لكل من باك وكريفيلد, لا يعني أن هناك تحد بينهما في بقية عناصر النفوذ, حيث تتلاقي السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية مع إيران, وعلي عكس ما هو متصور فانه يبدو هناك اتفاق غير معلن بين البلدين حول الأزمة السورية, ففي الوقت الذي تدعم فيه إيران وحزب الله نظام الأسد, يوفر الأتراك ملاذا آمن للثوار السوريين, وبعد انتهاء الأزمة السورية, فانه في سوريا مجزأة منتظرة, ستتفق القوتان علي دعم تركيا للسوريين السنة, وستبقي إيران نصيرا للعلويين, علاوة علي ذلك, فان كلا منهما سوف يجد بالتأكيد وسيلة لحماية مصالحه الإستراتيجية والمالية في إي نظام قادم. بالنسبة إلي كثير من المحللين الغربيين, فان الثقة بالنفس التي أظهرتها تركيا وإيران في العقد الماضي هي علي ما يبدو محاولة لإعادة الإمبراطورية العثمانية( بالإشارة إلي شعبية مصطلح' العثمانية الجديدة' فيما يخص السياسة الخارجية التركية) من جهة, وبروز الهلال الشيعي( كلمة السر في ممارسة النفوذ الإيراني من خلال السكان الشيعة في كل من العراق والبحرين ولبنان وشرق المملكة العربية السعودية) من جهة أخري, في حين يري المراقبين الأكثر دقة في تفحص المنطقة, أن ظهور تركيا وإيران كلاعبين إقليميين كبيرين لا يكشف عن مثل هذه الاتجاهات المقلقة أو الدرامية. حيث أن النخب السياسية في أنقرة وطهران ليست بهذه الساذجة لتكون كل قضيتها إعادة الإمبراطوريات العثمانية والصفوية ولكنها تسعي فقط لتأكيد دورها كقوي إقليمية فاعلة, في نظام يضم دول ذات السيادة.