قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم لماذا حدثت الثورات، حيث ان ذلك هو الذى يسمح بفهم مسار الثورات، والى أين يمكن أن تصل. فالمسألة لا تتعلق بملاحظة ما يظهر بين مرحلة وأخرى حيث تشهد الثورات عموماً فى مسار انتصارها صعوداً وهبوطاً، تقدماً وانكفاءً، وهو الأمر الذى يوجد الأمل ومن ثم اليأس لدى «النخب» التى لا ترى سوى هذه الحركة الصاعدة الهابطة. ولأننا دخلنا فى مرحلة الهبوط بات السؤال: أين ذهبت الثورات؟ يجاب عليه بنفى أن ما حدث هو ثورة، أو أن قوى أصولية قد سرقتها وشوهتها، صرتها فى الحرية والديمقراطية، هذه القيم التى هى مطالبها، فإن الحشود الهائلة التى خرجت كانت تحمل مطالب أخري، هى أكثر أهمية بالنسبة لها، وهى تتعلق بالحق فى العمل بعد أن أصبحت البطالة تطال ثلث القوى العاملة تقريباً، والحق بأجر يسمح بعيش كريم بعد أن انهار الوضع المعيشي، والحق فى التعليم الجيد والصحة، والخدمات المناسبة. لقد أفقرت وتهمّشت أغلبية الشعب، ولم تعد تستطيع تحمّل وضعها، لهذا تمرّدت بعد أن انسدّت كل الآفاق أمامها، بهدف تغيير هذه الوضعية بالتحديد. هذا هو جوهر الأمر، والذى يفرض تغيير النمط الاقتصادى بعد أن تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد ريعى بفعل سيطرة رأسمالية طابعها مافياوى لكن الحشود لم تستطع فرض بديلها لأن تاريخ الحركة السياسية لم يبلور هذا البديل، ولهذا فرحت لأول انتصار معتقدة أنها ستحقق التغيير. وهذا ما فتح على دور الدولة من جهة و»النخب» من جهة اخري. لقد عاد الأمر لنشاط الأحزاب التى لم تستطع فهم واقع الطبقات، ولا طرح ما يعبّر عن مطالبها، بل ركّزت خلال العقود الماضية على مطالب «النخب» التى تتعلق ب «الحرية والديمقراطية» فقط. فدخلت فى متاهة «النشاط السياسى من أجل تحقيق تكوين دولة ديمقراطية يسمح لها بالنشاط والتعبير الحقيقي. بمعنى أنها عادت إلى نشاطها «الطبيعي» الذى كان قبل الثورات دون أن تلمس معنى الثورات التى انطلقت من مطالب غير التى تطرحه هى (وإنْ كانت لا تعارضها). ودخلت فى «اللعبة السياسية»، حيث بات واضحاً التفارق بين النشاط الشعبى الذى يركز على قضايا مطلبية عميقة وبين نشاطها هي، وهو ما كان يبعدها عن الشعب أكثر فأكثر، ويقود إلى أن يهيمن على النشاط السياسى القوى الأقوى فى الواقع، والتى كانت هى القوى الأصولية. بالتالى ظهرت هامشية القوى الديمقراطية، وبدا أن الأصوليين هم الذين يأخذون فى الهيمنة. هذا الأمر هو الذى جعل «النخب» تندب على وضعية هى السبب الرئيسى فى نشوئها. فقد طرحت مطالبها التى تحوز على دعم فئة ضيقة، ونشطت فى السياسة بعيداً عن أى قاعدة اجتماعية. لهذا بدا أن الأصوليين هم المستفيدون من الثورات، أو أن ما جرى هو مؤامرة من أجل إيصال الأصوليين إلى السلطة، كما أخذت تنظّر وتلغو. فمشكلة الثورات أنها لا تجد البديل الذى يحمل مطالب ورؤية الطبقات الشعبية، ويحدد كيف يمكن أن تقود الثورة إلى تغيير حقيقى بالاتيان بسلطة تحقق هذه المطالب. هنا يظهر التفارق بين الشعب والأحزاب التى من المفترض أن تطرح مطالبه، وهو ما همشها، وجعل الشعب دون قوة تحقق مطالبه. هذا الوضع ألقى ضبابية على الثورات، ومع مرور الزمن يجرى تناسى أن ثورات حدثت، لكنها لم تحقق مطالبها، ومن ثم يتبلور التصور حول أن ما حدث هو فوضى وميل أصولى للسيطرة على السلطة. لكن يجب أن نلحظ أنه لم يتحقق شيء من مطالب الشعب، وأن الوضع مازال مزرياً، وأن الاحتقان الاجتماعى مازال قائماً، وبعد ان تراجع نتيجة الأمل فى التغيير عاد يتصاعد. وسيظل يتصاعد لتعود الحشود من جديد. بالتالى الثورات التى انفجرت أصبحت حالة ثورية مستمرة، تصعد وتهبط حسب الظرف، لكنها مستمرة. كل تجارب الثورات فى العصر الحديث كانت تشير إلى ذلك، حتى حينما تفشل تؤسس لاحتقان جديد يفضى إلى ثورة جديدة. وكلها (ربما فيما عدا وضع الثورات فى البلدان الاشتراكية السابقة) نتجت عن اختلال الوضع المعيشى للشعب، حيث يصبح التفارق الطبقى واسعاً بين من يسيطر على الثروة ومن لا يجد ما يساعده على العيش. وهو ما كان يظهر فى ارتفاع نسبة البطالة وارتفاع أعداد الذين يعانون من أجر متدنٍ، ومن فقدان المقدرة على التعليم والعلاج والسكن. لكن ما يمكن أن نضيفه فى الثورات العربية هو أن الأمر وصل إلى حالة اختلال فى التكوين المجتمعى نتيجة النمط الاقتصادى الريعى الذى أشرنا إليه قبلاً، والتى تؤدى إلى عملية إفقار وتهميش هائلة لأن هذا النمط لا يستوعب أكثر من 20% من المجتمع بينما يهمّش الباقي، ويضع الاقتصاد فى حالة عجز مستديم لغياب الإنتاج وفائض القيمة، ليكون النهب والفساد هما السمة الجوهرية فيه. هذا ما يجعل الثورات مستمرة إلى أن يتحقق التغيير. إذن، إن الأساس الذى فرض الثورات هو الذى لن يسمح بانطفائها، بل بتحقيق مطالبها. ولا يظن أحد أنه يمكن اللعب على الشعب، وتمرير الوضع دون تغيير حقيقي، فإما التغيير الحقيقى أو الثورة من جديد. لمزيد من مقالات سلامة كيلة