عبر عقود متعددة نسمع فى مثل هذا التوقيت من كل عام الشكوى من مجانية التعليم والتشكيك فيها، ودون ملل تتكرر هذه المعزوفة التى تخبر أن أصحابها لا يؤمنون بحق الآخر فى أن يكون مثلهم متعلما وتؤكد رؤيته الطبقية التى لا تحتمل الاعتراف بحق أبناء الوطن فى التعليم. ورغم عدم الرغبة فى الإغراق فى تاريخ التعليم أجدنى اعود إلى الثقافة الإسلامية والتى يعتبر طلب العلم فيها فريضة أى انه إلزام للفرد ان يتعلم والتزام على السلطة الحاكمة ان تتيح فرصة التعليم... ومع هذا عرف التعليم منذ صدر الإسلام بأنه كان فى المساجد والتى لا تغلق أبوابها فى وجه راغب ويشهد التاريخ على إقبال الاعداد الكبيرة على التعلم فى المساجد الكبرى وعلى أيدى العلماء المشاهير وغيرهم والأزهر الشريف من النماذج الرائعة على هذا وما حوله من المدارس والتى كانت كلها تفتح أبوابها لكل راغب علم وطالب تعليم دون قيود أو سدود حيث كانت توقف الأوقاف للإنفاق على المتعلمين. واستمر الحال حتى تولى محمد على مع بداية القرن التاسع عشر الحكم وعلى يديه كانت بداية التعليم الحديث فى مصر - كما هو مشهور- والذى كان يقدم للمتعلمين دون أى تكاليف مادية. معنى هذا أن ازالة الحاجز المادى الذى قد يحول دون التحاق الفرد بالتعليم او ما يعرف حديثا بمجانية التعليم ثقافة اسلامية وتقليد مصرى حتى أن الخديو إسماعيل وعلى مبارك ناظر التعليم فى زمانه و الذى رأى أن التعليم ليس ترفا بل لابد من إتاحته قدر الإمكان ومن ثم كان إنشاء أول مدرسه للبنات فى عهد الخديو واستمر الحال رغم الأزمات التى اعترضت واقع المجتمع المصرى حتى الاحتلال البريطانى لمصر 1882 والذى رأى ممثل التاج البريطانى اللورد كرومران على من يريد أن يتعلم تعليما غير التعليم الدينى فى الأزهر أن يدفع نفقاته وهذا يعنى تحديدا نهاية المجانية فى التعليم المدنى لمن يرغب فيه. ومن من المهتمين لا يذكر طه حسين وكتابه الشهير مستقبل الثقافة فى مصر عام 1938 ودعوته لأن يكون التعليم كالماء والهواء وكان لدعوته هذه صداها وتدريجيا جاء الاتجاه نحو مجانية التعليم حيث صدقت الحكومة المصرية على مجانية التعليم الأولى فى العام الدراسى 1943/1944 حين كان نجيب الهلالى باشا وزيرا للمعارف وكان ساعده الأيمن فى الوزارة طه حسين، وكم كان رائعا ان يرى وزير حكومة الوفد بأن إتاحة الفرصة لأبناء مصر فى التعليم أعظم من تكلفه المجانية المالية على الحكومة. وفى حكومة مصطفى النحاس باشا تولى طه حسين وزار] المعارف فى يناير 1950 إلا أنه أصر على عدم قبوله لها إلا بعد ان يصبح التعليم بالمجان، وكان ان جاء فى خطاب العرش فقرة كتبها طه حسين وتلاها تنفعه وتنفع الناس. وتحفظ على المواطن مكانته بين الأمم المتحضرة الراقية. إنما هو تعليم أبنائه وتثقيف نفوسهم وتذكيه عقولهم وتهذيب أخلاقهم وتزويدهم بكل الوسائل التى تتيح لهم الجهاد المنتج فى سبيل الرقى والتقدم ولذلك فهى لن تبخل بأى جهد لنشر التعليم وتيسيره والتوسع فى مجانية التعليم حتى تصل به إلى المجانية الشاملة تحقيقا لتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون تفريق وقد أقرت فعلا مجانية التعليم الابتدائى والثانوى والفنى منذ ذلك التاريخ وبذل طه حسين جهدا جبارا من اجل تحقيق المجانية ومتطلباتها. أما مجانية التعليم العالى فقد كانت على يد جمال عبد الناصر حيث أعلنها فى خطاب يوليو السنوى 1961.فقد كان الرأى وبحق أن التعليم سلم اجتماعى وأداة من أدوات تحقيق تكافؤ الفرص. فإلى هؤلاء الذين يتصورون ان مجانية التعليم أمر مستحدث نقول انها حصاد كفاح شعب من اجل العيش والحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية التى هى شعارات ثورة يناير 2011 ذلك انه لا حريه ولا كرامه انسانيه ولا عدالة اجتماعيه دون تعليم. والمجانية والحالة هذه ليست مجرد رأى انها حق بموجب الدستور الذى اقره الشعب عام 2014. ولا خيار بين جوده التعليم ومجانيته فالحديث عن التعليم يتضمن بالضرورة إنه تعليم جيد اذ لو فقد الجودة لا نستطيع ان نسميه تعليما وهذا التعليم الجيد لابد ان يتاح للجميع و السؤال الواجب ان نطرحه هنا كيف نجعل من هذا الحق حقيقة لا تضيع وسط كثير من مشكلات الواقع التعليمى المصري؟ إن رؤية المجانية على انها إرث من الحقبة الاشتراكية رأى غير مدروس وغير علمى وغير إنسانى ومن ثم تصبح المطالبة بتجاوزها ليس فقط خروج على متطلبات العدالة الاجتماعية وإنما تعريض الأمن القومى للخطر وتجاهل لتاريخ نضال الشعب المصرى من أجل الحصول على حق التعليم والاستمتاع بثمراته. إن اتاحة التعليم الجيد للجميع -ولا نمل من التكرار واجب على الدولة وحق للمواطن و ها هو فكتور هوجو يقرر: أنك اذا فتحت أبواب مدرسة أغلقت سجنا ، فالتعليم ليس رفاهية وليس منحة من أحد إنما هو ضرورة ولنعمل معا من أجل تحسينه وتيسيره للحفاظ على أمن المواطن والوطن. أستاذ بجامعة القاهرة لمزيد من مقالات د. نادية جمال الدين