خضير البورسعيدى نقيب الخطاطين، الثانى من بين خمس أشقاء.. كلهم تخصصوا فى أنواع الخط العربى هم: الأكبر محمد «وهو معلمه»، ثم مسعد «الذى قام بتعليم أشقائه الأصغر وهم مصطفى ومحسن ومجدى خضير، لكنه استحق عن جدارة أن يكون معجزة الخط العربى فى العصر الحديث على مستوى مصر والعالم. كان سببها النتاج الإبداعى والابتكارى والمهارى من خلال أعماله الفنية الخطية والتشكيلية الذى عكس تجربة تحمل دلالات كثيرة لأعماله الفنية المتنوعة والمتعددة فى فن الخط العربى، والتى تتعدى 9500 لوحة، غير كتابة القرآن الكريم للتليفزيون المصرى فى 6000 لوحة، وكتبه أيضا لعدد 6 محطات تليفزيونية فى دول أخرى بما يعادل 36 ألف لوحة. فأبدع أعماله بمختلف الأساليب الخطية وبكل الاتجاهات، ولكنه أكملها ببساطته وإنسانيته الشديدة، فجعل من لوحاته وفنه السهل الممتنع. ومن المؤكد أن تجربة الفنان خضير البورسعيدى ككل، عمل جاد ليس بحاجة إلى المديح، بل للعقل والتاريخ فى مجال فن الخط العربى فى مصر، الذى كان خضير ولايزال أحد صانعيه. جاء البورسعيدى فى وقت وقف فيه الخط العربى فيه عند طريقين، الأول الاتجاه الكلاسيكى التقليدى، والثانى هو الاتجاه الحروفى، فكانت الميزة الأساسية في فن خضير.. فهمه وتعامله مع معالم النجاح فى الطريقة الحروفية واكسابها الطريقة الكلاسيكية للخط العربى، فكان (البعد التكوينى) للوحة الخط العربى، وسهولة إدراك العين لها فأحيا مدرسة بصرية قديمة وتقليدية هى (توالد الحروف) وإخراجها من بعدها التعليمى ليكون لها بُعد فنى اشتهرت به لوحاته، ولم يقف الأمر عند التكوين، ولكن شغله (اللون) فى لوحاته غير التقليدية، التى يعكس بعدا تشكيليا تستفيد منه لوحاته الخطية، ثم يدخل فن خضير مرحلة جديدة فى عالم الخط، تمرد فيها فنيا وأراد أن يصوغ لونا جديدا يحسب له، فيكتب بيده اليمين ويده اليسرى، ثم يكتب بكلتا يديه لأول مرة بنفس الجودة والمهارة، وفى نفس الوقت استخدم جميع الأدوات من الفرشاة وأقلام البسط إلى مشط الشعر وعود الثقاب (مشط الكبريت). كما أدخل حركات الحروف المختلفة من أنواع الخط العربى في بعضها بعضا، فجاءت متناغمة وحالمة، واستغل طاقات الحروف ومنحه حرية التمدد والاستطالة محتفظا فى ذات الوقت بأبعاده وقياساته التقليدية. فماذا يقول خضير عن الخط العربى؟: إنه فن (يعرضه ولا يفرضه)، فمادمت أسعى لتكريس مبدأ نشر قيم الجمال والتذوق على مستوى كل شرائح المجتمع، تلك المرحلة لم أصل لها بين عشية أو ضحاها، فالخط العربى هو كل حياتى، (بأكلمه ويكلمنى، بأحبه ويحبنى، بيتجاوب معايا، بنتفاهم مع بعض قوى، ويطيعنى كما أريد ويسمع كلامى). وهذه الحالة يجب أن نرصدها لنتعرف على قصة هذا الحب مع الفنان، والأدوار التى عاشها لكى يصل إلى تلك المرحلة من الفن الراقى، ومحاولة قراءته فنيا وتاريخيا. ولد الفنان مسعد مصطفى محمد خضير فى 17 أكتوبر عام 1942 ببورسعيد، تلك المدينة التى شكلت وجدانه وعقله، وتعلقه بها جعله يطلق على نفسه اسم خضير البورسعيدى، وظهرت المدينة الباسلة فى الكثير من أعماله، أحب الخط العربى منذ صغره، فبدأ يتأمل ويتفاعل مع كل ما يشاهده من لوحات خطية ويتمعن فيها. هذه التلقائية تعكس المهارة الفنية التى صاحبت الطفل منذ ولادته، والتى هى موهبة من عند الله لها حريتها وأصالتها، فتلقف هذه الموهبة أخاه الأكبر الحاج محمد خضير الذى نماها فيه وعلمه أساسيات فن الخط العربى، ويعتبره البورسعيدى أستاذه الأول فى تعلم هذا الفن الجميل، وكان يلازم أخاه الأكبر ويرافقه وهو يكتب اليفط واللوحات ويعد له الأدوات التى يكتب بها، وأخذ يبدع فى رسم الحروف وتكبيرها حتى تشبعت نفسه بهذا الأمر من رسم الحروب بكل أنواع الخط والكتابة، وهذا الاتجاه التطبيقى المبكر كسر الكثير من الحواجز، خصوصا فى بداية حياته المهنية والعملية. يقول خضير: منذ سن العاشرة أشارك فى كتابة الإعلانات التجارية وواجهات المحلات فى أسواق وأحياء مدينة بورسعيد، وأكتب بكلتا يدى فى نفس الوقت.. درست فى مدارس بورسعيد الأولية، وفى اليوم الأول للدراسة دخلت مدرسة البلدية ببورسعيد، أولى ابتدائى بالمريلة واللوح وعمرى 5 سنوات، وعندما دخلت وجدت السبورة نظيفة فوقفت على كرسى وكتبت بعض الكلمات مثل: (الملك فؤاد الأول، الملك فاروق الأول، النحاس باشا، أحمد ماهر) وكنت قد تمرنت على كتابتها من خلال العملة فئة القرش، أما النحاس وأحمد ماهر، فكانت من خلال الإعلانات، وكتبتها بخط الثلث. يقول الفنان: تخيلت السبورة (يافطة) والمطلوب أن أكتب عليها، فأتى المدرس الأستاذ حامد ونادى على »الفراش» وسأله: لماذا لم تمسح السبورة؟، ثم اكتشف أن الذى كتبها طفل، وأثر قدميه على الكرسى، فبكيت وقتها، ولكن الأستاذ طيب خاطرى ونادى على ناظر المدرسة فدخل ليشاهد السبورة ومعه بعض المعلمين، ولم يصدقوا ما كتبت، فقال الناظر: أنت من كتب هذا؟، فأجبته: نعم، فقال: ما هذا؟، قلت: أحمد ماهر، فابتسم وربت على كتفى بحنان، ثم أخذ يشجعنى كل من فى المدرسة وأصداء أصواتهم مازالت فى أذنى وكأن ما حدث كان بالأمس. وكانت مراحل حياة خضير البورسعيدى سجلا لتاريخ مصر فى انتصاراتها وانتكاساتها متفاعلا ضد الاحتلال الإنجليزى. فيقول خضير: قمت بكتابة الشعارات المناهضة لقوات الاحتلال وكان عمرى 6 سنوات على جدران المنازل والطرقات مثل (من يتعاون مع الإنجليز فله الموت).. وفى عام 1956 كان العدوان الثلاثى على مصر، وكان عمرى 14 عاما، وأثناء الهجرة، هاجرت أسرتنا إلى مدينة طنطا، وهاجر أخى محمد إلى منطقة أخرى، ووجدت نفسى وحيدا، فالتحقت بمدرسة لتعليم فن الخط العربى بطنطا، وافتتحت محلا للخط العربى، وبعد العدوان الثلاثى عادت الأسرة إلى بورسعيد، فافتتحت محلا فى بورسعيد مشاركة مع أخى الأكبر، وظللت أمارس نشاطى ودراستى حتى عام 1963، حيث تم استدعائى لأداء الخدمة العسكرية، وعملت بالخط فى إدارة كاتم أسرار، وقابلت كبار القيادات فى الجيش، وقابلت الرئيس جمال عبدالناصر، والسادات، وأثناء وجودى بالجيش، ذهبت إلى حى الحسين وفتحت مكتب خطاط بالجمالية، ثم خرجت من الجيش ورجعت إلى بورسعيد مرة أخرى فى عام 1965، واحتفظت بمكتبى بالجمالية، وفى عام 1967 كان الاعتداء على بورسعيد ومدن القناة، فهاجروا إلى مختلف المحافظات، وهاجرت أنا إلى القاهرة، وعدت إلى مكتب الجمالية ولم أتركه حتى الآن. وفى القاهرة حيث روحانيات الصوفية وابتهالات دينية ومزيج من جنسيات مختلفة تتأمل وتسعد بتراث مدينة القاهرة الدينى والثقافى فى حى الحسين الشهير، حيث السياحة فى الأماكن الأثرية والمقاهى الشهيرة والأسواق القديمة مثل خان الخليلى وشارع المعز على بعد أمتار من المكان الذى اختاره الفنان خضير البورسعيدى ليعلن عن ميلاده وبدايته فى قلب القاهرة، حيث لافتات الشوارع التى كتبها الفنان محمد جعفر، فكان المكان كمدرسة تعليمية يعيش فيها كل يوم، فتأثر بالمكان وأثر فيه حتى أصبح من رموزه، فانتشرت أعماله فى كل مكان متألقة ومتفردة، فكتب (سبيل الباب الأخضر) وقهوة الفيشاوى. وفى القاهرة يضيف البورسعيدى بفخر: التقيت مع كبار أساتذة وعمالقة فن الخط العربى أمثال سيد إبراهيم، ومحمد حسنى، ومحمد عبدالقادر، وشقيقه الحاج زايد، ومحمد الشحات، ومحمد أحمد عبدالعال، ومحمد رضوان، وغيرهم، ثم حصلت على دبلوم التخصص من مدرسة خليل أغا بباب الشعرية، وتعلمت كثيرا من التراكيب وتقنيات الحروف مثل كثير من الفنانين الشباب، من خلال الكتب والكراسات التعليمية الكلاسيكية والحديثة، وذلك أثناء استقرارى فى القاهرة عاصمة الثقافة والفنون فى العالم العربى، فطورت موهبتى بشكل ملحوظ ومختلف. ويقول الفنان: إنه لم يمض أسبوع على وصولى أو عودتى للقاهرة حتى التقيت بالأستاذ حسن اللباد رئيس قسم الخط بالتليفزيون حيث دعانى للعمل معه بالتليفزيون، فقدمت طلبا وتم تعيينى فى نفس الأسبوع. ويقول: كان العمل بالتليفزيون المصرى يمثل دورا جديدا فى تاريخى، حيث تمكنت من نشر فنى بشكل كبير من خلال الشاشة الصغيرة، التى تدخل كل بيت، ومن خلال هذه التجربة كنت أريد أن أصمم شيئا جماهيريا يعلق فى أذهان الناس مثلما يقدم التليفزيون أعمال الجماهير، فكنت أكتب على باب استراحة مثلا كلمة (استراحة) على شكل شخص جالس على كرسى، وأكتب كلمة (لاعب) على شكل شخص جالس على كرة، وكتبت كلمة (ليالى الحلمية) بشكل متداخل يوحى بالليل، و(مصارعة المحترفين) وكأنها مصارعة، وغيرها من أسماء البرامج المتعددة، واتخذت هذا منهجا لى، فأعبر بالكلمة عن مدلولها، فبدأت الناس تعرف خضير، وترى أعماله فى التليفزيون. وهكذا استطاع الفنان خضير البورسعيدى أن يصنع نجومية وشهرة له ولفن الخط العربى، لكن هذه الشهرة لم تكن مرتبطة بالمنصب، بل كانت مرتبطة بأعماله وقدرتها على البقاء داخل أو خارج الوظيفة. وأسأل البورسعيدى: وماذا عن التدريس.. هل أضاف لك أم أخذ من وقتك على حساب الإبداع؟ قمت بالتدريس فى مدارس الخطوط العربية (خليل أغا بباب الشعرية، بورسعيد، النصر بطنطا، كلية الفنون التطبيقية)، ثم أنشأت أكاديمية الخط العربى بباب اللوق. وفى مكتبى بالجمالية بحى الحسين تواصلت المسيرة الإبداعية، فزاوجت بين الكتابة لأغراض وظيفية، وبين كتابة اللوحات الإبداعية. وأصبح مكتبى مقرا لزيارة الخطاطين العرب، والأجانب، ولجميع المهتمين بهذا الفن الرائع الذين يزورون مصر. .. هل خضت تجربة الكتابة على المساجد؟ يقول: كتبت فى العديد من المساجد بمختلف محافظات مصر، منها (مسجد الرحمن بحدائق القبة، ومسجد إبراهيم كامل بسرس الليان بالمنوفية، ومسجد الزراعى بالشرقية، وأنصار السنة بالقاهرة، والهضبة الوسطى بالمقطم، وحمزة بن عبدالمطلب، وتوسعة مسجد الغريب، ومسجد إبراهيم نافع بمحافظة السويس، ومسجد التوفيقى، وحمدى تمام)، بالإضافة إلى 11 مسجدا بمحافظة بورسعيد. .. ما الذى أضفته للخطاطين المصريين وما هي المناصب التى شغلتها؟ قمت بتأسيس الجمعية المصرية العامة للخط العربى، وساهمت فى إنشاء أول نقابة للخط العربى فى مصر، بل والعالم، وترأست شعبة الخطوط باتحاد الفنانين العرب، وعضوية مجلس إدارة الخط العربى بوزارة التربية والتعليم، وشاركت فى إعداد وتطوير المناهج لمدارس الخطوط، وكان آخر وأهم المناصب التى توليتها هى عضوية لجنة التحكيم الدولية باسطانبول بتركيا (اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضارى والإسلامى). .. ما عدد المعارض وأهمها محليا ودوليا؟ يقول البورسعيدى: أقمت أكثر من سبعين معرضا خاصا بمصر، أهمها معرضى الرمضانى بقاعة بيكاسو بالزمالك، والذى يقام كل عامين، ومعرضى الدائم بمتحفى الخاص بالجمالية بحى الحسين، كما أقمت العديد من المعارض الدولية فى دبى، والشارقة، والكويت، والرياض، وبغداد، والبحرين، والجزائر، وفرنسا، وبلغاريا، وفرانكفورت، وأكاديمية الفنون بروما ولوس أنجلوس. ويضيف قائلا: إن العديد من المتاحف الفنية فى العالم اقتنت لوحاتى الفنية، منها متحف لاهور بباكستان، وكلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ومتحف الشارقة ووزارة الأوقاف الكويتية، وأيضا دار الأوبرا المصرية، والأكاديمية المصرية بروما، ومكتبة الإسكندرية، ومكتبة طلعت حرب ، وغيرها. وتعد الكتابة عند خضير البورسعيدى هاجسا يوميا إذ انقطع منذ سنوات إلى الكتابة الفنية بعدما هجر الكتابة الوظيفية، وهو ينتقل فى لوحاته بين مختلف الخطوط، إذ أن النص هو الذى يوحى بنوعية الأسلوب الذى ينبغى استخدامه فى إبداعه. وإذا كان بعض الخطاطين قد تخصص فى نوع أو نوعين من الأساليب الخطية، فإن الفنان يعرف 108 قواعد من قواعد الخط العربى المنقرضة، يجيد الكتابة بأكثر من 40 قاعدة، ومنها: (الخط المسمارى، والخسى، والصينى، والمسند الحميرى، والآرامى، والثيرانى، والنبطى، والفلوى، والتدمرى، والطومار، والنصف، والثلثين، والثلث، والخرفاج، والديباج، والسميعى، والأشربة، والحرم، والمؤامرات، وغبار الحلية، والعهود، والمدور، والرياسى، والنرجسى، والريحانى، والمرصع، واللؤلؤى، والحواشى، والمقترن، والمدمج، والمعلق، والقصصى، والمسلسل، والحوائجى، والاختزال، والحيرى، والكوفى، والمدنى، والمكى، والبصرى، والأصفهانى، والتجويد، والمصنوع، والمائل، والراصف، والسلواطى، والسحلى، والشعر، والنسخ، والرقعة، والديوانى، والنستعليق، والتعليق، والشكستة، والتاج، والمغربى، والسياقط، وهذا آخر الخطوط المنقرضة، والتمتكى، والكروانى، والنيسابورى، والجرير، والمحقق). ويقول الفنان البورسعيد: إن دار الأوبرا المصرية كرمته فى مهرجان الموسيقى العربية السادس عام 1997، وكرمته أيضا وزارة الثقافة فى مهرجان الخط العربى عام 2000 بقصر الفنون. وتم تكريمه أيضا فى جامعة أسيوط وبعض الجامعات المصرية، ومنح جائزة الكوفة التقديرية فى الخط العربى عام 1995، ومنح الوسام الذهبى لمهرجان كاظمة العالمى بالكويت عام 1996، وجائزة الصين فى الفن الإسلامى عام 1996، وزاره فى متحفه الخاص بالحسين الرئيس مأمون عبدالقيوم رئيس دولة المالديف، والدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو رئيس منظمة العمل الإسلامى السابق. كما كرمه هذا العام الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى حاكم الشارقة ما هو المغزى من الكتابة باللغات الأجنبية؟ الكتابة باللغات الأجنبية هى إحدى ابتكارات الفنان الفريدة التى لم يحدث من قبل أن يكتب كتابة حرة تقرأ من اليمين باللغة العربية ومن اليسار بالإنجليزية، ولم يقف عند الحروف اللاتينية فقط، بل استطاع كتابة لوحة باللغة العربية بحروف صينية، وكان هذا الاتجاه ليؤكد قدرات الخط العربى الجمالية والتكوينية، وله مقولة مشهورة دائما ما يقولها: (الجمال لا يخضع لقانون فى الخط العربى).