التعليم حجر الأساس لكل مشروعات التطور والتقدم، وثمة آمال وتطلعات كبرى معقودة على التعليم بكل مستوياته عند كل الأمم والشعوب. وأثبتت التجارب الإنسانية أن تقدم الأمم العلمى والاقتصادى والاجتماعى مرهون بتطوير عملية التربية والتعليم. و هو الوسيلة الكبرى والفعالة لإنجاز مفهوم الاندماج والانسجام بين أطياف المجتمع، ويهيء الكوادر البشرية والكفاءات الإنسانية القادرة على بناء التطور والقيام بخطوات ملموسة فى مشروع التقدم. ومشروعات التنمية بكل مستوياتها هى بحاجة بشكل دائم إلى تطوير التعليم بكل مراحله. ومن هنا يمكننا القول إن الدعوة التى أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ عدة أيام بضرورة تطوير التعليم كطريق للتقدم تقتضى العمل على إعطاء مشروع إصلاح وتطوير التعليم أولوية وطنية. وبلاد مثل كوريا الجنوبية واليابان وبريطانيا وفرنسا وأمريكا وألمانيا وغيرهم بدأت نهضتها ونجاحها بالتعليم. وفى هذا الملف نستعرض التجارب الرائدة فى التعليم من جميع أنحاء العالم لعل يكون بها فكرة أو نموذج نسترشد به ونحن نؤسس لتجربتنا المصرية المستقبلية. ما أن يتحدث المرء عن نجاح وتميز التجربة الكورية الجنوبية، إلا ويكون التعليم هو محور الحديث عن هذا التميز وهذه الشهرة والتفوق، والدليل على ذلك المراكز المتقدمة التى تحققها فى معظم برامج التقييم الدولية مثل البرنامج العالمى لتقييم الطلبة ومؤشر منحنى التعليم لعام 2014، وهو نجاح ليس بالجديد ولكنه تأكيد لنجاحات سابقة تحققت عامى 2006 و 2009 إذ سجلت تفوقا ملحوظا فى مجال الرياضيات والقراءة والعلوم، متقدمة بذلك على جيرانها الاسيويين وعلى عدد من الدول الاوروبية ذات السمعة العالمية المتميزة فى مجال التعليم مثل فنلندا. وهو نجاح لافت فى دولة تسير بخطى واثقة فى مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية بها. ورغم أن التاريخ يسجل أن كوريا عرفت الدراسة النظامية منذ زمن بعيد حيث أنشئت أول مدرسة نظامية عام 372 ميلادية، الا أن الهيكل التنظيمى للعملية التعليمية ليس بهذا القدم حيث تزامن مع انتهاء الاحتلال اليابانى للبلاد عام 1945، بل وعقب تقسيم الكوريتين رسميا عام 1953 ما يعنى أن النجاح لا يقاس بعمر التجربة بقدر ما يقاس بكفاءتها وفعاليتها. وهنا لابد من الاشارة الى أن النظام التعليمى والتربوى فى كوريا الجنوبية اعتمد فى المقام الاول على النقل والاستفادة من النظم التعليمية فى الغرب، وكانت نقطة الانطلاق فى هذا المجال المعلم الذى ركزت الدولة من خلال وزارة التربية التى تغير اسمها فيما بعد ليصبح وزارة التربية والموارد البشرية على ايجاد المعلم المتكامل فى المهارات العلمية والمهارية والشخصية والنفسية، باعتبار أنه المسئول الاول عن تشكيل وعى وشخصية الطلاب. وفى سبيل اعداد هذا المعلم ركزت الدولة مجهودها فى التأكيد على أن المعلم مهنة مرموقة وتتمتع بمزايا مادية واجتماعية كبيرة، ومن ثم فإنه يجتذب أفضل العناصر، والدليل على ذلك اكثر من دراسة اوضحت أن كليات التربية واعداد المعلمين تعد الخيار الاول لافضل خريجى المرحلة الثانوية، كما أن المتقدمين للعمل فى مجال التعليم يخوضون عدة اختبارات قبل قبولهم من بينها مقابلات شخصية وذلك بهدف اختيار أفضل الكفاءات، ولا ينتهى الامر عند ذلك بل لابد من انتظامهم فى دورات تدريبية بشكل مستمر لضمان استمرار ادائهم المتميز، بما فى ذلك ارسالهم فى بعثات للخارج واستكمال دراساتهم العليا، حيث يرتبط تطور وضعهم المالى والوظيقى بالمشاركة فى هذه البرامج ومن الامور اللافتة فى هذا المجال الحرص على اختيار أفضل الخريجين على الاطلاق لتدريس المرحلة الابتدائية وذلك لتأسيس الطلاب على أعلى مستوى فى سن مبكرة جدا. وانطلاقا من هذا الاهتمام يشترك مع وزارة التربية والموارد البشرية فى الاشراف على التعليم معهد متخصص فى تطوير المناهج وهو معهد مستقل يرتبط برئيس الوزراء مباشرة، كما يوجد بالوزارة ايضا معهد لتطوير تقنيات التعليم عن بعد يضم عددا ضخما من الخبراء. وينقسم السلم التعليمى الى اربع مراحل هى الابتداية ومدتها ست سنوات والاعدادية ثلاث سنوات والثانوية ثلاث سنوات ثم المرحلة الجامعية ومدتها اربع سنوات. ويعد التعليم الزاميا ومجانيا فى المرحلتين الابتداية والاعدادية، بينما يدفع الطالب رسوما محددة للتعليم الثانوى لا تتعدى ما يعادل 1200 دولار، وهى رسوم موحدة سواء كانت المدارس حكومية أو خاصة وبغض النظر عن موقع المدرسة وتجهيزاتها. وهناك الى جانب التعليم الثانوى العام، التعليم الفنى والمدارس الملحقة بالشركات الصناعية. ويعد العام الدراسى طويلا نسبيا حيث يبلغ خمسة اشهر للفصل الدراسى الاول و4 اشهر للفصل الدراسى الثاني، وهناك اجازة صيفية مدتها شهر، وأجازة شتوية مدتها شهران، ونظرا لان النظام التربوى الكورى يضع ثقله فى اعداد المعلمين، فهناك الى جانب الاختبارات القاسية للقبول فى الكليات التربوية واختيار المعلمين، شرط صارم اخر وهو انه لا يحق لاى معلم التقدم لشغل منصب مدير مدرسة الا بعد قضاء 25 سنة فى الخدمة، وهو شرط يبدو قاسيا غير انه يوفر الخبرة اللازمة ويرفع من كفاءة العملية التعليمية فى دولة تولى التعليم اهتماما خاصا، الى الحد الذى تخصص فيه 21% من موازنتها العامة للتعليم، ويحتل وزير التربية منصب نائب رئيس الوزراء. هذا الاهتمام على مستوى الدولة يقابله اهتمام اكبر على مستوى اولياء الامور والطلاب، فالمدارس الابتدائية تستوعب مائة بالمائة من الاطفال فى سن القبول، كما أن المرحلة الثانوية رغم أنها غير ملزمة وغير مجانية الا انها تشهد اقبال نحو 94% من طلاب المرحلة الاعدادية، وهو ما يرجعه الخبراء الى مرونة نظام التعليم الثانوى باعتباره مرحلة مؤهلة للدراسة والحياة العملية. وهنا لابد من الاشارة الى التعليم المهنى يحظى باهتمام شديد حيث بذلت الدولة جهدا كبيرا لجذب أكبر عدد من الطلاب اليه فى بداية مرحلة النهوض الاقتصادي، وهو ما أثمرت نتائجه فيما بعد فى اكساب الطلبة مهارات وقدرات أساسية، واوجدت انسانا واعيا ملتزما باخلاقيات العمل وقيمة الوقت والانضباط. وهو امر يمكن ملاحظته من سلوك العائلات الكورية التى اظهرت الاحصائيات انها تنفق جانبا كبيرا من دخلها على اعداد ابنائهم لاجتياز اختبارات القبول فى الجامعات، ومن سلوك الطلاب ايضا الملتزمين بيوم دراسى طويل يمتد لما بعد ساعات الدراسة الرسمية للانتظام فى دروس التقوية بحثا عن التفوق، الامر الذى يعد دليلا على أن تجربة كوريا الجنوبية فى الاستثمار فى التعليم وتنمية الثروة البشرية بمثابة درس لكل الدول النامية.