قرأت باهتمام بالغ رسالة الحب القاتل للشاب الذي كتب إليك شاكيا من تصرفات زوجته التي لجأت إلي الأحجبة والأعمال السحرية لكي تجعله أسير شباكها, حتي إنها حاولت الانتحار لمجرد انه تجاهلها وقطع علاقته بها بضعة أيام.. والحقيقة أن هذه الرسالة فجرت بداخلي بركانا كان خامدا لسنوات, وتناثرت حممه علي الورقة التي أكتب إليك فيها رسالتي, فالقاسم المشترك بين رسالتينا هو اللجوء إلي الأوهام والخزعبلات التي تدمر البيوت وتعجل بالطلاق وتتسبب في تشريد الأبناء. فأنا رجل علي أعتاب الخمسين من عمري, وزوجتي سيدة فاضلة, ومن عائلة مرموقة, ووضعنا المادي فوق المتوسط, وقد ظللنا نحيا حياة هادئة ومستقرة لم يعكر صفوها شيء حتي خمس سنوات مضت, ثم إنقلبت أوضاعنا فجأة بعد جلسة في النادي الذي نشترك في عضويته, حيث حضرت لقاء لزوجتي مع مجموعة من صديقاتها, ودار الحديث حول الأبراج, ومدي توافقها مع بعضها, وعندما عدنا إلي البيت أعادت علي مسامعي ما دار في الجلسة, وراحت تفتش في مكتبة البيت وفي كل المكتبات العامة ولدي باعة الصحف عن كتب الأبراج وأصبحت تطالع أبواب الحظ بانتظام, وزاد يقينها بأنها علم, وليست خرافات وتفاهات. وهكذا صارت حياتنا مرهونة بالأبراج, حتي انها أخضعت كل من يتعاملون معنا لمفهومها وقناعاتها الشخصية في هذا الوهم الذي تتخيله حقيقة, أما من لا تعرفهم فإنها تبادر كلا منهم بسؤال عن تاريخ ميلاده, لكي تعرف إلي أي برج ينتمي ثم تصدر عليه حكمها, وتتوهم طريقة تفكيره وردود أفعاله.. وتطورت حالتها بشكل سريع جدا لدرجة أنها لاتغادر المنزل في اليوم الذي تجد فيه حظها عاثرا, وتؤجل قراراتها إذا قرأت مثلا أن برجها اليوم لايسمح لها باتخاذ قرار. .. كل هذا وأنا أتفرج عليها غير مصدق أن تتحول هذا التحول لمجرد حديث عن الأبراج في النادي. وقبل أربعة أشهر تقريبا طرق بابنا أحد معارفنا ومعه ابنه المهندس طالبا يد ابنتنا, ودار بيننا حوار عقلاني قطع تواصله سؤال زوجتي للعريس عن تاريخ ميلاده, فأجابها وقد بدت عليه علامة الدهشة من السؤال, فإذا بوجهها يتغير وتصمت تماما... ولا أدري ما الذي شغلها وقتها, فهذا الشاب مهذب ومن عائلة معروفة, ويشغل مركزا اجتماعيا كبيرا برغم صغر سنه, وملتزم دينيا وأخلاقيا. وقطعت هذا الصمت بموافقتي المبدئية عليه, إذ لم أجد ما يعيبه, لكن زوجتي كان لها رأي آخر, حيث وجدت أن صفات برجه لاتتوافق مع صفات برج ابنتنا, فالرجل الثور لايتوافق مع المرأة الأسد. والعلاقة بينهما غير ممكنة, لأن امرأة الأسد قوية الشخصية, ولاتدع فرصة لرجل الثور للتحكم فيها وفرض آرائه عليها بالقوة, وان ابنتنا لاتستطيع الحياة مع رجل يفرض رأيه عليها بالقوة, حيث ستكون في نظره امرأة متكبرة لاتحقق له مراده!! وهنا صرخت في وجهها, وقررت أن أضع حدا لإقحام الأبراج في حياتنا, وقلت لها إن هذه الخطبة ستتم رغما عنها, وأمرتها بأن تتخلص من جميع كتب الأبراج بالمنزل, وأمام ثورة غضبي نفذت ما طلبته منها لكنها قالت لي إن الأيام سوف تثبت لك صدق كلامي. واستطلعت رأي ابنتي فأيدت ارتياحها للعريس, وبالفعل أقمنا حفل خطبة كبيرا حضره كثيرون من الأهل والمعارف والأصدقاء, وظلت الأمور هادئة إلي حد ما, وظلت زوجتي بعيدة تماما عن ابنتنا وخطيبها, ولم تدل برأيها في أي أمر يخصهما! ثم كانت المفاجأة المذهلة بعد ثلاثة أشهر من الخطبة, فلقد جاءني خطيب ابنتي بصحبة والده, وأخبرني بأدب شديد أنه وابنتي اتخذا قرارا بفسخ الخطبة, فسألته عن السبب فقال لي إن ابنتي متكبرة وترفض سيطرته عليها, وأن هذا الأسلوب لايقبله, ولا يمكن معه أن يحقق ما يحلم به في المستقبل من زوجة مطيعة تأتمر بأمر زوجها! صدقني ياسيدي.. هذا ما قاله لي بالحرف الواحد, وقد استمعت إليه في ذهول, ثم تركني وانصرف متمنيا لابنتي حياة سعيدة مع من يقبل باملاءاتها, فأسرعت إليها لأعرف ماذا حدث بينهما, فإذا بها تقول لي إنه لا يحترمها, ويريد أن يلغي شخصيتها تماما, ليكون هو وحده المفكر وصاحب القرار في كل ما يخص حياة الأسرة! عندئذ أيقنت أن هناك شيئا ما خطأ, إذ يدخل هذا الكلام من باب التنجيم, ويقول رسول الله صلي الله عليه وسلم كذب المنجمون ولو صدفوا أي حتي ولو تحقق ما قالوه بالصدفة.. بل لقد حدثتني نفسي بأن ما حدث من فسخ خطبة ابنتي هو تمثيلية محبوكة من زوجتي التي ذكرتني بما قالته لي فجلست صامتا لا أجد ما أرد به عليها! واليوم مر علي فسخ الخطبة شهر كامل, لكني مازلت في حيرة من أمري.. هل أنا جاهل أم انني علي حق, وهل من المنطقي والمقبول أن أخضع حياتي للأبراج وأبواب البخت أم لا؟ لقد أصبحت أفكر ليل نهار في قصة الأبراج, ولم أصل بعد إلي أي نتيجة.. فأين الحقيقة؟ * الغيب نوعان.. مطلق لا يعلمه إلا الله, ونسبي قد يعلمه واحد ولا يعلمه الآخر.. المطلق مثل الأعمار وما قدر للانسان من أحداث لايتوقعها, والنسبي مثل ان تكون علي علم بشيء يخصك, ويستطيع من يسخر الجن أن يتعرف عليه من القرين الذي يخبره بكل ما يدور في نفسك من خبايا وأسرار, وهو ما قد يلجأ إليه البعض.. ومن ذلك قراءة الكف والحظ وغيرهما من الأمور التي حتي وان صادفت الواقع فإنها لاتعبر أبدا عن شيء من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي. والأبراج ماهي إلا نجوم تخيلها القدماء علي أشكال الحيوانات وغيرها مما كان محيطا بهم في بيئتهم.. والنجوم في السماء أكثر من أن تعد أو تحصي, لكن نجوم الأبراج ثابتة وتقع في دائرة البروج الموافقة لخط الاستواء علي الكرة الأرضية, وهي تدور ظاهريا علي مدي العام بسبب دوران الأرض حول الشمس. وليس للنجوم أو لغيرها علاقة بمصير الانسان وعلاقاته وكل مايخصه, بل ان الأبراج لا يربطها أي رابط, وحتي نجوم البرج الواحد ليس بينها أي علاقة, وأحيانا تكون بين هذه النجوم مسافات هائلة لا يتخيلها عقل. وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن أناسا سألوا رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الكهان, فقال لهم, ليسوا بشيء.. قالوا يارسول الله فإنهم يحدثون بالشيء أحيانا يكون حقا؟.. فقال الرسول تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذنيه قر الدجاجة فيخلط فيها أكثر من مائة كذبة. لذلك يجب ألا ننساق وراء الدجل, وأن تكون لنا وقفة مع كل ما يخالف الدين, وكلما أوكل الانسان أمره إلي خالقه زاد إيمانه وهداه الله إلي سواء السبيل, أما من يلجأون إلي غير الله طلبا لشيء فقد انحرفوا عن جادة الصواب, وعاشوا حياتهم في حيرة وقلق. والآن فإن زوجتك أمام خيارين أحدهما سهل, وهو الانقياد إلي تصديق الأبراج والاستسلام لما تبثه في عقلها ووجدانها, والآخر صعب وهو التمسك بالتعاليم الدينية وترك الأمر لله, فإذا هدتها الموازنة بينهما إلي الطريق السهل فإنها سوف تخسر نفسها وبيتها وتصبح أسيرة للشكوك والأوهام.. أما إذا اختارت الطريق الصعب فإنها تكون قد كسبت كل شيء. وأصبحت أكثر أمانا واطمئنانا. فلتنظر أيهما تختار؟! وإني أسألها: هل تدركين مخاطر هذا الفكر الخاطيء علي مستقبل ابنتك بعد فسخ خطبتها بحجة أن برجها الأسد لا يتوافق مع برج خطيبها الثور؟.. وهل كل الزيجات الناجحة بحث أصحابها قبل الزواج عن مدي توافق أبراجهم.. أم أن الزواج الناجح له شروط أهمها التوافق الأسري والاجتماعي والاخلاق والمادي؟ يا سيدي: أعلم أن كل شيء بقدر, وأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك, وما اصابك لم يكن ليخطئك, وانه لن يستطيع أحد أن يحدد ما سوف يحدث لك ولو للحظة واحدة, فالله وحده هو علام الغيوب وهو علي كل شيء قدير فدع الأمر له, واعلم أيضا أن التنجيم والسحر وغيرهما من الأمور المشابهة مجرد أوهام لا أساس لها ولا يجوز للمؤمن أن يشتغل أو ينشغل بها, فهي كفر وشرك بالله, وتثير في النفوس مخاوف وهمية وتتسبب في اساءة الظن بالآخرين, فالله سبحانه وتعالي هو النافع والضار.. فأسرع باحتواء زوجتك وابنتك, وأطلعهما علي صحيح الدين, وليتك تزود مكتبتك بالكتب الدينية التي تشرح صحيح الدين, فتنهلون منها ما يشبع عقولكم بزاد الإيمان ويقربكم من الله ويبعدكم عن التنجيم والابراج وما شابه.. ويبث في نفوسكم الأمان والطمأنينة.