عقب استيلاء العثمانيين على القسطنطينية عاصمة بيزنطة عام 1453 وتغيير اسمها إلى استانبول/الآستانة، تبلورت «المسألة الشرقية» لدى الأوروبيين، وتعنى كيفية التخلص من الدولة العثمانية التى تحكم شعوبا مسيحية (شعوب البلقان)، وزادت المسألة رسوخا فى ثقافة الأوروبيين مع سيطرة العثمانيين على الشعوب العربية ابتداء من القرن السادس عشر وبين هذه الشعوب من هم مسيحيون ويهود. وقد انتهى الأوروبيون إلى أن خير وسيلة للتخلص من الدولة العثمانية العمل على تفكيكها إلى وحدات صغيرة على أسس طائفية: عرقية أو دينية أو مذهبية أو على أساس اختلاف اللهجة بين شعب البلد الواحد. ومن هنا نشأ علم الاستشراق الذى قام أصحابه (المستشرقون) بدراسة المجتمعات العربية حيث وضعوا شخصية مستقلة لكل أصحاب لهجة، ولكل أصحاب معتقد دينى أو مذهبي، ولكل عرق من الأعراق حتى ولو كانوا يعيشون فى وطن جغرافى واحد وتحت مظلة حكم سياسى واحد، وشاع مصطلح «الأقلية» للدلالة على كل جماعة تختلف عن التيار العام الغالب فى الوطن الواحد. ولم يتوان الغرب الأوروبى فى انتهاز أى فرصة للتعظيم من شأن الأقليات والنفخ فى ذاتيتها لإثارتها ضد الحكومة القائمة فى أى بلد من بلاد الإمبراطورية العثمانية بدعوى «الحريات»، وكانت البداية فى مؤتمر فيينا (1815) الذى انعقد لتصفية آثار الثورة الفرنسية حيث نصت اتفاقيات المؤتمر على الحرية الدينية والمساواة السياسية ثم تطور ذلك الاهتمام مع نشاط الحركة الصهيونية فى مطلع القرن العشرين إلى حماية الأقليات عامة واليهود بصفة خاصة، والعمل على منحهما المساواة فى الحقوق المدنية والسياسية فى الدول التى تنكر عليها هذه الحقوق. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أشارت اتفاقيات مؤتمر فرساى (1919) إلى الحقوق الثقافية والقومية للأقليات. وبعد تأسيس الأممالمتحدة بثلاث سنوات أصدرت إعلان حقوق الإنسان (10 ديسمبر 1948) بمنع التمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أوالاتجاه السياسي. وفى نوفمبر 1981 أصدرت المنظمة الدولية إعلانا بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمة على أساس اختلاف المعتقد الديني، لأن من شأن ذلك تعطيل الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على أساس من المساواة. وبعد تفكيك الاتحاد السوفييتى ونهاية الحرب الباردة (1991-1992) أصدرت الأممالمتحدة إعلانا فى 10 ديسمبر 1992 مؤكدا حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية. وبمقتضى هذه الترسانة من المباديء والإعلانات الدولية وتحت شعارات حماية الحريات وحقوق الإنسان، تسمح دول الغرب الأوروبي-الأمريكى لنفسها بالعمل على إثارة الطوائف ضد الحكومات الوطنية القائمة فى دائرة العالم الثالث اصطلاحا وفى العالم العربى بصفة خاصة بهدف تفكيكها إلى كيانات منفصلة يسهل السيطرة عليها وتوجيهها. وفى هذا السياق جاء شعار «الفوضى الخلاقة» الذى صكته كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة فى نهاية عام 2005، والمقصود به دعوة كل مجموعة إثنية (عرقية) ودينية للتحصن فى ثقافتها ولها أن تحارب الآخرين من أجلها. وبهذا تنشأ الفوضى فى المجتمع القومى الواحد أو الوطن الواحد فتتدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية للتحكيم بين المتخاصمين، ولا تجد إلا استقلال كل طائفة (أقلية) بنفسها عن الوطن العام وتكوين دولة مستقلة لها. ولقد كانت بداية تفكيك الوطن العربى من العراق بعد غزوه أمريكيا (مارس-أبريل 2003) حيث انتهى الأمر إلى صياغة دستور جديد يعترف بأن العراق دولة فيدرالية تضم قوميات مختلفة والعرب أحد القوميات فيها بجانب الأكراد، والتركمان، والشيعة، والسنة، والكلدان (المسيحيون). وبدأت الفتنة الطائفية بين العراقيين وتمزق العراق ولم يعد واحدا. ثم كانت الخطوة التالية فى السودان حين قامت الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال بسبب التعديل الدستورى الذى أضافه الرئيس جعفر نميرى بشأن تطبيق الشريعة الإسلامية, فاشتعلت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب وتدخلت أمريكا وفرضت اتفاقية نيفاشا فى 2005 لإيقاف الحرب تمهيدا للاستفتاء على تقرير المصير فى التاسع من يناير 2011، وانتهى الاستفتاء بفصل الجنوب عن الشمال. ويضم ملف استثمار الطائفية تفكيك بلاد عربية أخرى وكل منها يأتى دوره فى الوقت المناسب. وإذا بدأنا من بلاد المغرب فسوف يتم التفكيك اعتمادا على إحياء «الأمازيجية» وهم سكان البلاد الأصليين (البربر) قبل الفتح العربي-الإسلامى وتشجيعهم على المطالبة بوطن خاص، فضلا عن العمل على سلخ الصحراء المتنازع عليها بين المغرب والجزائر لإنشاء جمهورية جديدة «صحراوية» لمزيد من التفتيت. وفى مصر هناك أكثر من ملف يمكن استخدامه للتفكيك: استقطاب المسيحيين وتعظيم ذاتيتهم العقيدية واحتضان المهاجرين منهم فى مختلف بلدان أوروبا وأمريكا، وهذا ملف قديم يعود إلى زمن الاحتلال البريطانى حين أخذت إنجلترا لنفسها «حق حماية الأقليات فى مصر» بمقتضى تصريح 28 فبراير 1922 الشهير، ومحاولة تضمين الدستور أثناء وضعه (دستور 1923) نصا يقضى بتخصيص نسبة للأقباط فى البرلمان 1: 12 وفى الوظائف العامة، لكن عقلاء الأقباط رفضوا هذا التمثيل النسبى (فكرة المحاصصة الآن). وهناك ملف النوبة وسلخها من مصر على أساس عرقى حيث تتم استضافة بعض النوبيين (حسن أدول) للحديث عن مظالم أهالى النوبة منذ بناء السد العالي. وهناك ملف الأمازيج المصريين خاصة فى واحة سيوة والذين يتوزعون بين عشرة قبائل هم (الزناين/ الحدادين/ اللحمودات/ أغورمي/ آيت موسي/ الشرامضة/ السراحنة/ الشحايم/ الحواسيس/ أم الصغير) ولهم امتداد فى بنى سويف. أخيرا وفى أبريل عام 2012 أعلن قيام «التحالف المصرى للأقليات» ويتكون من يهود ومسيحيين وبهائيين وأمازيج، ويتم توظيفه من قبل رعاة «الشرق الأوسط العظيم» فى النظام العالمى الجديد. ووجد الغرب الأوروبى وأمريكا فى حكم الإخوان المسلمين (30 يونية 2012- 3 يولية 2013) فرصة ذهبية لاستثمار الطائفية لأن الإخوان ليس لديهم إلا تطبيق الشريعة الإسلامية وهذا يعنى استعادة مفهوم أهل الذمة ومن ثم تقسيم وطن المصريين إلى قسمين على أساس ديني. وفى سوريا فإن التفكيك يتم على أساس مذهبى بين العلويين (فرقة شيعية) والسنة، والدروز. وفى لبنان وهى دولة أقيمت على أساس طائفى ومحاصصة بين السنة والشيعة والموارنة (الكاثوليك) يسعى تنظيم «داعش» الذى أعلن الخلافة الإسلامية أخيرا إلى تغيير الصيغة الطائفية فى لبنان لصالح المسلمين مما يزيد من لهيب الصراع الذى تستفيد منه إسرائيل. وفى الأردن فإن ملف التفكيك عامر بالخلافات بين القبائل الحجازية التى وفدت مع الأمير عبد الله بن الحسين عند تأسيس الإمارة (1921) وهم يسيطرون على الحكم، فضلا عن الخلافات على أسس دينية بين مسيحيين ومسلمين تتم إثارتها فى الوقت المناسب. وفى اليمن يقوم التفكيك على أساس مذهبى بين الزيود (شيعة) وبين السنة (الشوافع). وفى دول الخليج العربى يكون التفكيك فيها على أساس الاختلاف المذهبى بين الشيعة والسنة (السعودية والبحرين والكويت)، أو على أساس الخلاف بين القبائليين الذين يسيطرون على الحكم ويتوارثونه وبين غير القبائليين المهمشين الذين يعرفون باسم «الهولة». ومن المثير أن تجد من يقول إن أعمال الفتنة الطائفية والحرب الأهلية الدائرة هى من عمل قوى خارجية، وهذا حقيقي. ولكن الصحيح أن نقول إن هذه القوى الخارجية تستثمر الوضع القائم لصالحها، وهذا يؤكد أن الحكومات الوطنية أخفقت فى إقامة وطن متماسك يعيش أهله على أساس المصلحة المشتركة التى تجمعهم بصرف النظر عن اختلاف أصولهم العرقية والدينية والمذهبية، وعدم إقامة دولة القانون حيث يكون جميع المواطنين متساوين فى الحقوق والواجبات فعلا وواقعيا وليس مجرد مباديء منصوص عليها دستوريا، وبحيث لا ينبغى أن يشعر مواطن ما بأنه مضطهد أو أنه لم يأخذ حقه القانونى بسبب دينه أو مذهبه أو عرقه. مادامت أن هذه الروح الطائفية تسكن فى ضمير بعض المسئولين فى مختلف مستويات الإدارة فإن الأصابع الخارجية سوف تنفذ من هذه الشقوق، لذاعلينا أن نسد هذه الشقوق بأسمنت وحدة الوطن الذى يتسع لكل من يعيش على أرضه.