هل الفن يعكس الواقع؟ أم ينقده؟ أم يقوده؟ أم يعيد صياغته باعتباره مادة خاما له لا أكثر؟ هل على الفن أن يُجمِّل الواقع، ويرسم لنا ما يجب أن يكون فيقدم لنا واقعاً وردياً بعد أن يصفيه من كل شوائبه؟ وإلى أى مدى يحق للبعض أن يلوم الفن لأنه يقدم الحياة كما هي؟ أوإلى أى حد يحق للواقع أن يعترض على صورته وإن كانت صادقة، فيعترض المحامون على وجود شخصية محام فاسد - مثلا- فى أحد الأعمال، وبعض النساء على تقديم منحلات أو بائعات هوى على أساس أن ذلك إهانة لجنسهن؟ فى أثناء عرض مسلسلات رمضان هذا العام ثارت ضجة , ليست جديدة ربما , لكنها أعلى صخبا من المعتاد. محام رفع قضية على مسلسل «سجن النسا» لأنه يحض على الرذيلة ويغوى النساء للانحراف.وعلى نفس المسلسل وغيره احتجاجات من كل صوب. السجانات... معترضات . أطباء النساء.. معترضون . الطرق الصوفية معترضة . وكعادتنا لاننصر جانبا على جانب,بل نترك الأمر لأولى الأمر. يرى الكاتب والسيناريست محفوظ عبد الرحمن أن الفن الذى يقدم حاليا عبر الفضائيات لا يعتبر فنا حقيقيا يعكس الواقع ، ويؤكد صاحب «ناصر 56 وبوابة الحلوانى» أن الإنتاج الحالى يركز على العشوائيات ويظهر المجتمع المصرى فى صورة بالغة الانحطاط ، بما أفسد الذوق العام . بينما يحذر المخرج داود عبد السيد من مطالبة المبدع بتصدير صورة تجمل الواقع وتخالف الحقيقة وينتقد مخرج رائعة »الكيت كات«و»مواطن ومخبر وحرامي« اتجاه السلطة السياسية إلى القيام بدور الرقيب ومصادرة الأعمال الفنية . وبحثا عن علاقة الفن بالواقع، كان لقاؤنا مع الكاتب التليفزيونى والمسرحى محفوظ عبد الرحمن والمخرج السينمائى داود عبد السيد. بدأنا بسؤال الكاتب الكبير. هل الفن يعكس المجتمع ؟ أم ينقده؟ أم يقوده؟ الفن يتعامل مع الواقع ، ويعكس سلبياته ويقدم البدائل والرؤى المختلفة . قبل الكتابة يكون للكاتب رؤية مسبقة عن الواقع المعاش ، وتمكنه أدواته من تسليط الضوء على القضايا المختلفة ، وهناك كاتب تشغله قضية معينة ويكون مهموما بها طوال حياته، يتناولها بأساليب وطرق متنوعة ،تنعكس على مجمل أعماله ، سعيا إلى إيجاد حلول لها . أما كيفية تعبير الكاتب عن الواقع فقد يلجأ إلى طرق مختلفة مثل تناول قضية مثارة من خلال الدراما أو المسرح التاريخى . نجيب محفوظ قضى فترة طويلة من حياته يكتب عن القاهرة القديمة. هل يحق للفن إعادة صياغة الواقع باعتباره مادة خاما له ؟ لا أعتقد أبدا أن الإبداع الحقيقى يجب أن يكون رسالة مباشرة للإصلاح ، فهذا يحول الفن إلى رسالة أخلاقية لا تنتمى إلى الأدب أو إلى الإبداع، بل يجعله مجرد إرشادات وتوجيهات,بينما العمل الفنى فى أساسه رؤية إبداعية . هل على الفن أن يجمل الواقع ، ويرسم لنا ما يجب أن يكون فيقدم لنا واقعا ورديا بعد أن يصفيه من كل شوائبه ؟ لا أتصور أن نقوم بتوجيه الفن ليجمل أو يقبح الواقع،لكن الفن يعانى ظاهرة استغلال بعض المنتجين لواقعنا المتدهور ، خاصة فى المناطق العشوائية ، فيسلطون الأضواء على الحياة فيها ويفرضونها على المجتمع ،وتكون النتيجة عملا فنيا شديد القبح والسوء والبذاءة، متعللين فى ذلك بأنهم يقدمون الواقع بصدق فيفسدون الذوق العام للمجتمع . عندما كتب نجيب محفوظ عن الحارة فى رواياته خان الخليلى وزقاق المدق والثلاثية ، انتقده البعض لأن ما قدمه فى ذلك الوقت كان صادما للمجتمع ، برغم أسلوبه الراقى وأدواته الفنية ، وهاجمه النقاد بينما شجعه البعض أمثال الناقدين أنور المعداوى وسيد قطب ، والقاهرة التى كتب عنها محفوظ لا تقارن بحياة العشوائيات التى انتقلت إلى كل البيوت المصرية والعربية من خلال ما يعتقده البعض فنا واقعيا . محنتنا الحقيقية تكمن فى المنتجين ومن يدعون القدرة على الكتابة ويجدون فى العشوائيات مكانا خصبا لإنتاجهم الرديء، وقد يكون مقبولا تناول العشوائيات بحياتها البائسة فى عمل أدبى جيد ويقدم هذا العمل من خلال السينما أو على المسرح ، لا من خلال التليفزيون, حبث يسمع أطفالنا كلمات لا يليق أن يستمعوا إليها . الدول الغربية التى تعد قدوة لنا فى الحرية تحرص على إذاعة بعض الأعمال الفنية فى أوقات متأخرة من الليل ، حتى يجنبوا الأطفال مشاهدتها. هناك رقابة فعالة فى التليفزيونات الغربية الأوروبية منها والأمريكية . وما يحدث فى مصر لا مثيل له فى العالم . حرية الفن والإبداع لا تعنى الانحطاط . هل ترى أن هذا التركيز على القبح نوع من الانفصال عن الواقع ؟ بالفعل هنالك انفصال كامل بين الفن والواقع فمن خلال متابعتى للمجتمع أؤكد أن النماذج الصالحة تمثل الاغلبية عندنا، ولكن يتجاهلها من يدعون أنهم كتاب، والسبب فى ذلك ابتعاد الكتاب الحقيقيين عن الساحة الفنية ، وتزامن هذا مع ظهور جيل جديد من الكتاب الذين لا أعترف بقدرتهم على الكتابة المعبرة عن حال المجتمع ، وهذا الامر ظهر مع الانهيار الاقتصادى خلال منتصف السبعينيات من القرن الماضى ، وتفاقم أزمة البطالة، فاتجه البعض إلى التمثيل أو الغناء أو كتابة السيناريو وشجعهم وساعدهم دخول الانتاج العشوائى للاعمال الفنية . لا أعترض على تناول الفن لمظاهر القبح فى المجتمع، ولكن بشرط أن يكون ذلك بشكل فنى وأدبى معقول. فيلم العزيمة يعد من أهم الأفلام المصرية، كان من أوائل إنتاج ستوديو مصر ،أوقف انتاجه الاقتصادى طلعت حرب بسبب إعتراض بعض صناعه على مضمون الفيلم ، لتناوله حياة الحارات والفتوات ، وإقترح بديع خيرى استكماله وإعادة تقييمه واتخاذ قرار نهائى بشأن عرضه . هذا هو الدور الحقيقى للفن . إلى أى مدى يحق للبعض أن يلوم الفن لأنه يقدم الحياة كما هى ؟. إذا قدم الفن الحياة كما هى وبشكل حقيقى ، ودون أن يلعب دورا فى إفساد المجتمع بالمبالغة فى التركيزعلى مظاهر الفساد ، وتجاهل الإشارة إلى إيجابيات المجتمع ، وتقديم الخير والشر إلى المشاهد ، بذلك يقدم الفن مثالا يؤدى دوره التنويرى الطبيعى . حقق مسلسل «أم كلثوم» نجاحا ملحوظا الأمر الذى دفعك إلى كتابة «ناصر 56» بينما تعرضت أعمال السير الذاتية الأخرى إلى الهجوم والنقد الشديد...لماذا ؟. موجة الكتابة عن السير الذاتية جاءت بعد مسلسل أم كلثوم ، وناصر 56 كان أول عمل سينمائى سياسى . كان من نتائج نجاح هذه الاعمال ظهور اتجاه واضح للكتابة عن الشخصيات الفنية والسياسية ، وظهور أكثر من عمل فنى للشخصية الواحدة ، وطمع بعض المنتجين تسبب فى انتاج أعمال السير الذاتية والشخصيات السياسية والتاريخية دون المستوى ، لأن الكتابة التاريخية أصعب من الكتابة العصرية ، فالكتابة التاريخية تتطلب دراسة الشخصية بشكل كاف ، والإلمام بكافة تفاصيل حياة الشخصية وحياة المحيطين به، وتوثيقها من أكثر من مصدر تاريخى . داود عبد السيد: لا دور للفن.. إلا أن يكون جميلا.. وخّيِّرا * لكن المخرج والأديب السينمائى داود عبد السيد يرى الأمور بطريقة مختلفة: كيف تتعاطى مع وظيفة الفن، والدور الذى يلعبه فى المجتمع؟ لا يصح أبدا أن نسأل عن دور للفن، إلا أن يكون جميلا وخيرا ، ومرهِفا لإنسانية البشر، لأنك عندما تنظر إلى شجرة جميلة تجد نفسك وقد تأثرت بها، بصرف النظر إن كانت هذه الشجرة الجميلة مثمرة أم غير مثمرة، لأنك تنظر إلى جمالها، وليس إلى الإستفادة المرجوة منها سواء من خلال كونها مصدرا للأخشاب أو الثمار. هذا هو دور الفن ، وفى إعتقادى أنه الدور الرئيسى والأهم وبصرف النظر عن وجود أدوار أخرى له . وماذا عن الأدوار الأخرى للفن ؟ الإنسان لا يعيش سوى حياة واحدة، احيانا كثيرة يمكننا الفن من اكتساب خبرة ومعلومات عن عوالم ربما لم نصادفها أو نتعامل معها بشكل مباشر.. وكأن الفن هنا يقوم بنوع من التوثيق للواقع. الفن لا يحاسب بشكل أخلاقى لأنه خارج هذه اللعبة، الفن لا يعمل داخل منظومة أخلاقية ولكن منظومة فنية , هناك أدوار كثيرة للفن . كيف تنظر الى اعتراضات بعض فئات المجتمع على ما يقدمه الفن ؟. هناك ظاهرة أساسية، وظاهرة طارئة. الطارئ هو التدين الشكلي, وهو يمثل ظاهرة اجتماعية وثقافية واضحة ملخصها أننى أفعل ما أريد وفى نفس الوقت أعطى للناس الوجه المقبول الذى يريدونه ظاهرة أخرى فبعض الفتيات تغطى شعرها ، وفى نفس الوقت ترتدى بنطلونا ضيقا . وبالنسبة للمهن ، على سبيل المثال ، هناك بعض الأطباء غاية فى السوء ، لا يراعون قدسية المهنة، لكن اذا تحدثت عن هذا فأنت تنسف الصورة الذهنية عنهم كملائكة للرحمة الأمر نفسه بالنسبة لرجال الشرطة, أو المحامين مثلما جاء فى فيلم عادل إمام «الأفوكاتو», أو حتى السجانات كما جاء كرد فعل على مسلسل سجن النساء . تاريخيا هناك الكثير من العقبات واجهت أعمالا فنية مثل ما حدث مع فيلم شيء من الخوف و البريء. فلا جديد إذن ؟. طوال تاريخ السينما المصرية، هناك العديد من الأفلام والأعمال الفنية التى واجهت مشاكل عديدة، لكن لم يحدث أن تدخل رئيس حكومة بشكل مباشر ، ودون أن يلجأ إلى وزير الثقافة لإصدار توجيه إدارى إلى الرقابة بمراجعة فيلم ، مثل ما حدث مع فيلم زحلاوة روح, وإيقاف عرضه ، فهذا يعنى أن هناك اتجاها للقيادة السياسية ، وكأنها تقول: أنا المدفعية الثقيلة فى مواجهة حرية التعبير. الظاهرة الأخرى والموجودة منذ زمن بعيد أن المبدع مطالب طوال الوقت بتصدير صورة معينة، فمثلا عندما يقوم مخرج بتصوير فيلم تظهر فيه بعض الشوارع، أو الحواري، وهى مليئة بالقمامة، فبعد عرض الفيلم، يواجه المخرج نقدا وهجوما شديدين، وكأنه هو الذى أحضر هذه القمامة ووضعها فى الشوارع لافتعال مشهد غير واقعي، فبدلا من أن تقوم الحكومة بمهامها الحقيقية، ومنها تنظيف الشوارع والحوارى ، تطالب القائمين على صناعة السينما، والأعمال الفنية بتزييف الواقع، أو تجميله لإظهاره على غير حقيقته. هل يمكن القول إن تدخل القيادة السياسية، وقيامها بدور الرقيب، وسع القاعدة الشعبية للإعتراض على الأعمال الفنية؟ تدخلها لم يوسع القاعدة الشعبية ، لكن الأكيد أنه شجع الأصوات المتخلفة والفاشية التى تقف ضد حرية الرأى والإبداع .هذه الأصوات موجودة بالفعل داخل المجتمع ، وهى تزيد وتقل طبقا لتوجهات السلطة الحاكمة هل هناك ارتباط بين استيعاب المتلقى لدور الفن، وبين المستوى الثقافى والعلمى للمجتمع ؟ ذلك يرتبط بأشياء كثيرة، فحرية الفن ترتبط بالحريات الموجودة فى المجتمع بشكل عام، مثلا هناك ارتباط وثيق بين حرية الفن والديمقراطية ودعنى هنا أعود مرة أخرى لفيلم حلاوة روح. فمهما تكن درجة تباين، أو اختلاف الآراء حوله, ففى نهاية الأمرلو تركنا هذه الآراء تتفاعل مع بعضها البعض، من خلال هذا التفاعل ربما تظل هذه الآراء ثابتة، وربما تتغير، المهم أن تكون هناك عملية تبادل آراء وخبرات. حتى لو وصل كل منا إلى قناعة مختلفة تماما عن قناعة الآخر، المهم احترام رأى الآخر، والاستفادة من وجهة النظر المغايرة. هذه عملية ثقافية مهمة يجب الإبقاء عليها، وترسيخها فى المجتمع. المصادرة هنا ليست حلا، لأنها ضد الحرية والديمقراطية، وضد العملية الفنية نفسها. البعض يذهب إلى أن ما يقوم به الفن الآن، والاعتراضات الفئوية عليه، هو محاولة لتفتيت وحدة المجتمع؟ الفن يوحد المجتمع ولا يفتته . عندما يذهب أفراد المجتمع إلى صالة عرض سينمائي، ويجلسون معا لمشاهدة العمل الفنى نفسه، ويشعرون بمشاعر واحدة ، فالفن هنا يوحد. التفتيت يحدث عندما لا تتاح فرص المشاهدة لعدد كبير من إفراد الشعب المصري, إما بسبب الفقر أو الجهل، أو بسبب عدم توافر دور العرض السينمائى فى الأقاليم والمحافظات البعيدة، وتمركزها فى المحافظات الكبرى فقط . لا مانع من أن أشاهد الفيلم فى صالة عرض درجة رابعة ويشاهده آخر فى صالة عرض خمس نجوم أو حتى من خلال شاشة عرض فى الميادين العامة ، المهم أن تكون هناك مساواة فى فرص المشاهدة. كيف تقيم دراما رمضان هذا العام، والهجوم الذى تتعرض له؟ ما رأيته يؤكد أن هناك تقدما تكنيكيا كبيرا،على مستوى التصويروالإخراج، وهذا الأمر لا ينطبق على دراما رمضان هذا العام فقط ، لكنه أيضا ينطبق على الدراما المقدمة خلال الأعوام الثلاثة السابقة. الظاهرة الأخرى اللافتة هذا العام وجود تشكيلة درامية كبيرة ومتنوعة فى المسلسلات التى قدمت، بدءا من مسلسل سراى عابدين بصرف النظر عن الانتقادات التى وجهت للمسلسل من حيث استخدام التاريخ ودقة هذا الإستخدام, مرورا بمسلسل دهشة ليحيى الفخرانى وما قدمه من دراما صعيدية ، ومسلسل سجن النسا زوما قدمه من دراما اجتماعية, ومسلسل السبع وصايا حتى مسلسل دكتور أمراض نساء. هذا الكم الهائل من الدراما المتنوعة التى قدمت هذا العام يصعب النظر اليه كظاهرة واحدة، بصرف النظر عما يؤخذ عليها من اعتراضات كانت فئوية فى معظمها. الدراما تقدم المرأة المصرية فى صورة سوداوية وشديدة القتامة.. أليس فى تلك الصورة مبالغة ؟ واقع المرأة عندنا أسوأ بكثير مما تقدمه الدراما . والمتابع للإعلانات المقدمة هذا العام يجدها انقسمت إلى قسمين: الأول يدعوك للعيش فى المدن الجديدة المجهزة بكل سبل الراحة والرفاهية، وهى مادة توجه إلى عدد قليل من أفراد المجتمع . والثانى من هذه الإعلانات يحثك على التبرع للمؤسسات الاجتماعية المختلفة والمنشآت العلاجية، اللافت أنك تكتشف من خلال هذه الإعلانات وكأن مؤسسات المجتمع كلها أصبحت قائمة على فكرة التسول، ولا شيء غير ذلك . والمرأة أصيبت بالنصيب الأكبر من آثار التدهور الاقتصادى والانهيار الأخلاقى الذى أصاب مجتمعنا.