وصل انفلات المعلومات في مصر هذه الأيام إلي مستوي فاق في تأثيره ومخاطره ظاهرة الانفلات الأمني, بل يمكننا القول إنه تجاوزه حتي دخل في علاقة جدلية مع العنف السائد بالشوارع والميادين. والفضاء الإلكتروني والفضائيات, فأصبح كل منهما يتغذي علي الآخر في دورات متتابعة أنتجت لونا من العبث تضخم بصورة سريعة, حتي صار ديكتاتورا يتعملق كل يوم, ثم أصبح بيننا من يتملق وينافق هذا الديكتاتور الجديد الذي ما أن يتحرك يمينا أو يسارا حتي يخلف وراءه مواطنا مكلوما ومؤسسات مهتزة ووطنا جريحا ومستقبلا مكللا بالخوف والرهبة. لكي نتعرف علي ظاهرة الانفلات المعلوماتي وتأثيراتها علي الساحة الوطنية, لابد أولا من الإشارة إلي معني المعلومات, وفي هذا الصدد يمكن القول أن أبسط التعريفات لمعني المعلومات أنها المعاني والدلالات التي تتشكل من أمرين الظواهر والحقائق المحسوسة البيانات, والتعليمات المطلوبة لفهم وتفسير هذه البيانات وإعطائها معني, ثم تكتسب أهميتها من قابليتها للتوظيف والاستخدام علي أرض الواقع. ويمكن شرح وتبسيط هذا الإطار النظري للمعلومات من خلال ما يحدث في الحياة العملية, فكل قرارات الإنسان بدءا بقرار تحديد موعد استيقاظه في الصباح إلي تحديد موعد نومه ليلا هي قرارات تتغذي علي المعلومات, سواء كان الإنسان يعي ذلك أم لا, فهو حينما يقرر الاستيقاظ في السادسة مثلا, لابد أن تكون لديه معلومة تبرر له اتخاذ هذا التوقيت موعدا للاستيقاظ, كارتباطه بوسيلة مواصلات تنقله للعمل, وحينما يقرر الذهاب للنوم لابد أن يكون لديه معلومة تؤكد له أنه لم يعد لديه ما يجعله مستيقظا, وهكذا الحال في بقية تفاصيل حياته وعلاقاته وتفاعلاته مع محيطه المجتمعي سواء علي مدار اليوم أو الشهر أو السنة أو العمر كله, ومن هنا فإن الإنسان الفرد يعيش دوما وسط تيار من المعلومات تحدد له كل تصرفاته وآرائه ويتخذ علي أساسها كل قراراته, وإذا انتقلنا إلي المجتمع الواسع لا نجد جوهر الصورة مختلفا, فالمجتمع الكبير هو في النهاية مجموعات من الأفراد, وبالتالي فجميع قرارات المجتمع وكل تفاصيل الحياة فيه تتغذي طوال الوقت علي تيارات متنوعة من المعلومات التي تتدفق في أوصاله بلا انقطاع بوسائل وقنوات مختلفة, فتتوازي أحيانا وتتقاطع أحيانا, لكنها في النهاية تتجمع لتنشئ ما يمكن أن نطلق عليه المحتوي المعلوماتي المجتمعي المشترك الذي يضم التفاصيل الكاملة لحياة الأفراد والجماعات والمؤسسات. ويمكننا قياس مستوي الانضباط المعلوماتي داخل المجتمع بعدة معايير من أهمها: 1- مستوي توافر المعلومات بمعني القدرة علي إنتاجها بالصورة التي تحقق احتياجات طالبيها, في توقيت يتناسب مع الاحتياج الزمني لها. 2- جودة المعلومة: أي تكون المعلومات والبيانات علي درجة عالية من الدقة والسلامة والصحة, وتخاطب الاحتياجات الحقيقية لطالبيها. 3- شمولية المعلومة: بمعني أن تغطي المعلومة جميع أوجه النشاط أو القضية التي تتعلق بها قدر الإمكان. 4- الوصول للمعلومة: بمعني أن تكون هناك وسائل وإجراءات واضحة تتيح الوصول إلي المعلومات بدون قيود أو تكلفة تشكل عائقا كبيرا, لأن إتاحة المعلومة ودقتها وشموليتها وتكاملها يصبح بلا قيمة أو معني إذا كانت هناك قيود أو عوائق تحول دون الوصول إليها من قبل طالبيها. 5- حجم المعلومة: بمعني أن يكون حجم أو كمية المعلومات متناسبة مع الاحتياجات إليها, فلا يحدث فيضان من المعلومات والبيانات يغرق طالبيها والمحتاجين إليها في تفاصيل لا تهمهم فتفقدهم القدرة علي التركيز أو تدفعهم إلي مواقف غير سليمة بالمرة, ولا يكون هناك شح أو نقص في المعلومات يحدث تشويها للحقيقة المطلوبة بما يؤثر علي قرارات من يحتاجها. وإذا طبقنا هذه المعايير الخمسة علي ما يجري في مصر الآن سنجد أننا أمام خمس ظواهر معلوماتية سلبية, سببها ابتعاد المحتوي المعلوماتي المجتمعي المشترك عن معايير الانضباط, وانغماسه في حالة الانفلات, وذلك علي النحو التالي: 1- في معيار مستوي توافر المعلومات نحن أمام ظاهرة التقصير الشديد في إنتاج المعلومات الخاصة بالكثير من القضايا الساخنة والملحة علي الساحة, ففي أحيان كثيرة يتم البدء من الصفر في إنتاج المعلومات, بينما الاحتياج إليها يكون ملحا ووقتيا ويتسبب في مآسي جمة علي الأرض, كما هو الحال مع قضية المطالب الفئوية والاعتصامات والاحتجاجات المصاحبة لها, والتي تتوالد بوتيرة متسارعة في قطاعات شتي وتفاجئ القائمين علي صنع القرار بأمر واقع يكتشفون انه ليس لديهم معلومات كافية لرصده والتعامل معه بصورة فاعلة. 2- في معيار جودة المعلومة نحن أمام ظاهرة تدني جودة المعلومات المتداولة, وانظر مثلا إلي قضية التمويل الأجنبي, فالمجهول فيها أكبر من المعلوم, والمعلوم منها يفتقر الدقة ويغلب عليه التناقض لكونه صادر عن جهات مختلفة يعبر كل منها عن مصالحة ووجهات نظرة ولا يقدم معلومات مجردة محايدة ناضجة, والضحية في هذه الحالة هو المواطن الذي لم تصله معلومات حاسمة تحدد من المخطيء وفيم أخطأ وما الدليل علي أنه أخطأ وما الأثر المترتب علي الخطأ الذي ارتكبه. 3- في معيار شمولية المعلومة نحن أمام ظاهرة تجزئة ونقص المعلومات وهشاشتها, حيث لا توجد تقريبا قضية واحدة ضاغطة ولاهبة في تأثيرها تجمعت بشأنها معلومات شاملة تقفل باب الجدل حولها, بدءا من الشرعية الثورية والدستورية والبرلمانية وانتهاء بطوابير أنبوبة البوتجاز, ويتكرر ما يحدث مع أنبوبة البوتجاز مع الكثير من القرارات الخاصة بما يطرح في الأسواق من منتجات وخدمات تسد الحاجات الأساسية للمواطنين تتطلب معرفة حجم الاسواق للاحتياجات المختلفة من هذا المنتج سواء منزليا أو تجاريا أو تصنيعيا, ويتطلب ذلك مطابقة البيانات من مصادر مختلفة سواء من جهة المصنع أو المستورد أو مقدم الخدمة أو الموزعين أو المستهلك, والحاصل أن شيئا من هذا لا يحدث كما ينبغي. 4- في معيار الوصول للمعلومة نحن أمام ظاهرة اعتقال المعلومات وصعوبة الوصول إليها, ويمكن القول أن الغالبية الساحقة من الشعب مواطنين وثوار ونخبة ليست لديهم القدرة علي الوصول إلي المعلومات الحيوية التي توافرت وتم إنتاجها حول القضايا المثارة علي الساحة, وفي هذا الصدد نجد هناك كثيرين يوجهون انتقادات لاذعة للاتهامات التي يوجهها المجلس الأعلي للقوات المسلحة من وقت لآخر لبعض الحركات الثورية بتلقي تمويل أجنبي, ويبدو الأمر كما لو أن هناك معلومات تدفع المجلس لهذه الاتهامات لكن لا يمكن الوصول إليها. 5 في معيار حجم المعلومة نحن أمام ظاهرة الفيض الأشبه بأوحال السيل التي تطمر التربة وتدمرها بدلا من أن ترويها, وفي هذا السياق تلعب الفضائيات والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي الدور الأكبر في إغراق الشعب بفيض من معلومات غثة, وانطباعات وآراء سطحية يتم تسويقها علي أنها معلومات تجاه الكثير من القضايا, مما يضع الشعب تحت طائلة إشاعات واشياء انطباعية وبيانات عشوائية مصادرها غير معروفة, فتحدث بلبلة ولا تصنع معرفة أو تشكل وعيا. لقد تسبب الظواهر الخمس السابقة في إحداث حالة انفلات معلوماتي نجم عنها تأثيرا سلبيا للغاية علي علاقة الكل بالكل, فنحن الآن لدينا علاقة سلبية بين المجلس العسكري والثوار, فالمجلس يتحدث عن برنامج زمني لنقل السلطة, لكنه يتوقف عند معلومة ناقصة غير مكتملة هي مجرد إعلانات متكررة تحمل معلومات تنقصها القوة الكافية للأقناع, وكذلك الحال بالنسبة لكل ما يتصل بتحقيقات ووقائع الفساد والمواجهات مع المتظاهرين, وفي المقابل نجد الثوار يتحدثون عن مطالب وتوجهات الكثير منها أقرب إلي الانفعالات والانطباعات المسكونة بمشاعر فياضة إما تجاه الوطن ومستقبله أو تجاه من يسقطون منهم قتلي وجرحي في المواجهات, وقليلا أو نادرا ما يخرج عنهم ما يدل علي بذل جهد كاف في تجميع بيانات ومعلومات عما يتحدثون عنه من قضايا, بحيث تصل للمجلس في صورة مكتملة ناضجة وصالحة لأن تصبح أساسا لاتخاذ قرار, كقضية تطهير القضاء وإقالة النائب العام والتسليم الفوري للسلطة والعدالة الاجتماعية وغيرها الكثير, مما يتوقف عند العناوين ولا يدلف إلي المعلومات الخاصة بصلب القضايا. ولدينا علاقة سلبية بين الدولة والجمهور العام, وانظر مثلا إلي بعض الأزمات التي تبدأ وتنتهي وكأنها تحدث بضغطة زر دون أن يوضح أحد لماذا بدأت ولماذا انتهت, مثل أزمة البنزين الأخيرة, واختفاء البلطجة خلال الانتخابات ثم عودتها مرة أخري. هناك أيضا علاقة سلبية للغاية بين الفرد والجهة التي يعمل بها, ففي ظل هذا الانفلات تحول التمرد والرفض إلي فعل مطلوب لذاته يتم التكسب من ورائه, إما نفوذا ومزايا إضافية أو تحللا من مسئوليات قائمة, ولم يعد وسيلة لتحقيق غاية نبيلة أو هدف إصلاحي, وترتب علي ذلك وقوع الكثير من المؤسسات في قبضة قلة قليلة تمتهن الصياح والتنابذ بالألقاب واتهام الآخرين وإرهابهم. والخلاصة أن انفلات المعلومات أخدت تأثيرا سلبيا حادا ومباشرا ومستمرا علي كافة أوجه الحياة بمصر, وهو الآن يهدد بنقلها من الأخلاق للجريمة ومن الأمن للخوف ومن الهدوء للعنف ومن التنظيم للغوغائية, ومن الثقة للشك ومن الإنتاج للبطالة ومن التركيز للتشويش ومن العمق للسطحية ومن البناء للهدم, ولعل أكثر الأشياء مرارة وقسوة أن الانفلات أفضي كما سبق القول لحالة عبث اكتسبت قوة ذاتية حتي أصبح العبث ديكتاتورا, يحكم ويتحكم ويتخذ القرارات في بعض الأماكن, وشيئا فشيئا بدأ هذا الديكتاتور العبثي يجد من ينافقه ويروج له, متخذا الثورة ستارا للانتهازية والمنفعة.