كان ابنى حسام عمره وقتها ثمانى أو تسع سنوات، وكنت قد علمت بما تصورته برنامجا صيفيا رائعا أعده المتحف المصرى لتعريف الصغار بميراثهم الحضاري، ويشمل اصطحاب الأطفال المشاركين فى البرنامج لزيارة جناح بعينه من أجنحة المتحف العريق صبيحة كل يوم، ليشرح أحد القائمين على البرنامج بعضا من المعلومات عن المعروضات الأثرية فى الجناح وما يتصل بها من تاريخ عريق، ثم يُصطحب الأطفال لقاعة بالمتحف، وهناك يرسمون ويلونون ويؤدون أعمالا يدوية من وحى ما عاينوه. لا يسع ولى أمر يعتز بمصريته، ويقدر المعرفة، ويدرك فى الوقت نفسه أن التعلم لا يكون بالتحفيظ والتسميع ولكن بإثارة الإهتمام والممارسة، غير أن يسارع لادراج طفله فى برنامج كهذا، لم تكن وقتها ثورة أو اعتصامات أو قناصة فوق الأسطح، مجرد دولة تفضل المقاولات عن البناء، وتمشية الحال عن التخطيط، وتسيير مرور أصحاب السيارات عن رعاية حياة المارة المترجلين، فأولئك لهم الله. فى اليوم الأول للبرنامج خضت مع حسام الصغير أهوالا متوقعة حتى وصلنا لبوابة المتحف،وهممت بالدخول فإذا بواحد من رجال الأمن الواقفين أمام المتحف يستوقفنى ليسأل: «أنت رايح فين؟» صعقت للسؤال، فأجبت بما لا يقل رزالة: «أيه اللى أنت واقف قدامه ده؟» كاد الأمر يتطور لشجار لو لم يكن لتدخل أحد الضباط، ويبدو أنه توسم فى مظهر الأفندي. غير أن سؤال رجل الأمن بقى يلح على خاطري، وسرعان ما توصلت لإجابة أظنها قاطعة: المتحف المصرى للسائحين الأجانب، وربما لبعض الرحلات المدرسية (وكنا وقتها فى الإجازة الصيفية). أن يذهب مواطن مصرى منفردا وبملء ارادته للمتحف فهو إما يقصد التحرش بالسائحات الشقراوات، أو ليضع قنبلة (فيقتل بضعة كفار أجانب، ويضرب الدولة الكافرة عبر ضرب السياحة، ويدمر بعض من أصنام الكفار القدامي). أى أن المواطن المصرى القاصد المتحف المصرى هو إما «خرتي» أو إرهابي، وكل منهما مُشوه ل«شكلنا الحضاري» بطبيعة الحال. الكل يفتخرون ويتباهون ب 5000 سنة حضارة، وكان السادات (وقد احتفت به الصحافة الغربية آخر الفراعنة) استصغرها فرفعها إلى 7000 سنة، واستقر الارتفاع حتى يومنا هذا. ولست أدرى فى الحقيقة من أين جاء الرئيس الراحل بالرقم، فقد بدأ المصريون القدامى الاستقرار فى حوض وادى النيل، وفى صناعة الوادي، كما علمنا العالم المصرى الموسوعى جمال حمدان، حوالى 7000 سنة قبل الميلاد، أى منذ نحو عشرة آلاف سنة، أما مينا نارمر، موحد القطرين، فيعود إلى 3100 قبل الميلاد، أى منذ حوالى 5000 سنة، وكان ذلك هو التاريخ المعتمد لبزوغ الحضارة المصرية القديمة. حديث الحضارة المصرية عندنا جله طبل وزمر وجهل مقيم. الفوضى الضاربة فى النظام التعليمى المصرى فى العقود الأخيرة دالة، فعندنا دبلومات بريطانية وأمريكية وفرنسية وألمانية، فضلا عن ثانوية عامة كارثية. قارن بين مقررات أى من دبلومات برج بابل هذا بالمقرر المصرى لتكتشف أن الطالب الأجنبى يدرس عن تاريخ مصر القديمة أضعاف ما يدرسه الأغلبية الساحقة من الطلاب المصريين، وجيوب أهلهم لا تسمح حتى بالتمسح ببرج بابل المقيم. وهو حديث غير معنى بالثقافة أو بالموروث الثقافي، وهى محتوى الحضارة (هذا إذا كان لمصطلح «الحضارة» نفسه من معني)، ولكن بال«الشكل الحضاري»، أى بمظهر خارجى متخيل لما هو «حضاري». بيد أنه لو تأملنا قليلا فى مدلول الاستخدامات الشائعة للعبارة، لوجدناه مطابقا لما تتصوره النخبة العليا للمجتمع المصرى عن غرب لا يكادون يعرفون عنه غير مظهره الخارجي، ما يثير إعجابهم فى زيارات الشوبنج وغيرها لأوروبا وأمريكا. ويكتسب الشكل الحضارى بهذا المعنى أهمية ملحة حين تكون العين التى تنظره عينا غربية. صورة مصر فى الخارج (ونعنى به الغرب) همٌ كبير من هموم نخبتنا الحاكمة، وتشويهها يبدأ من نشر صورة لركام قاذورات فى أحد الشوارع، وينتهى بكتابة مقال أو تقرير عن التعذيب فى السجون وأقسام البوليس. لسنا معنيين بالأصل، ولكن بالصورة، لا نكذب ولكننا نتجمل. فمسألة الشكل الحضارى عندنا جلها نفاق. ثانى أيام عيد الفطر المبارك قام عشرات من الأطفال فى شبرا بالإحتفاء بالعيد، وبنافورة جديدة، وهروبا من حرارة الجو الخانقة، فقفذوا يمرحون فى تلك البقعة الصغيرة من فضاء عام منقرض، بعد عقود من خصخصته (لعلها بدأت باستيلاء السادات على القناطر الخيرية)، لتستولى النخبة على شواطئ البلاد وحدائقها ومتنزهاتها ملكا خاصا مغلقا على أغلبية الشعب. قامت الدنيا ولم تقعد على المظهر غير الحضارى لأطفال شبرا، فما كان من المحافظ إلا أن أصدر قرارا بإغلاق النافورة حتى إقامة سور حديدى حولها. فقراء مصر عند نخبتها شكل غير حضاري، والحضارة فى اخفائهم من الصورة. قصة الحضارة والحضارات، واستبطاننا للأساطير الغربية حولها يطول نقاشها. فليس مجالنا هنا تعريف الحضارة، ولكن ليس من العسير التعرف على معنى البربرية، وهى بالضبط هى ما أوصلتنا إليه ثنائية الدولة البوليسية والدولة الدينية وقد بلغت بها سكرات الموت ذروة الانحطاط، لا فى مصر وحدها، ولكن فى أرجاء واسعة من الإقليم. يا سادة: التعذيب بربرية، وقتل المدنيين والأطفال بربرية، والتهجير بربرية، كما أن التشفى فى القتل والتعذيب والتهجيرهو بدوره بربرية. دعنا نعنى بالبربرية فى وسطنا، ولندع الحضارة تعنى بنفسها. لمزيد من مقالات هانى شكرالله