رغم أن مصر والعراق تزامنتا - حضاريًا - وكانتا أول حضارات عرفها العالم القديم إلا أن مصر لن تسمح بأن تدمر حضارتها وكل تاريخها، بأيديها.. ومخططات الغرب والطامعين. ولقد بكيت - فعلاً لا قولا - يوم سقطت بغداد تحت الغزو الأمريكى، وهو فى رأيى تمامًا مثل الغزو المغولى الذى اجتاح بغداد على يد هولاكو قبل حوالى 800 عام أى عام 1258م. وفى الغزوة المغولية هذه تم تدمير بغداد، بالكامل بل لم يجد المغول وسيلة للعبور فوق نهر دجلة إلا تلك الكتب الثمينة التى كانت تعمر مكتباتها العامرة التى ازدهرت من أيام هارون الرشيد وأهمها المدرسة المستنصرية ومكتبتها. وفى الغزوة المعاصرة - الأمريكية - تم تدمير ونهب معظم الآثار - العظيمة التى كانت تجسد ما بقى للإنسانية من حضارات بابل وأشور وسومر وهى حضارات تعود إلى 7000 عام بالتمام والكمال.. ولقد كنت أحرص على زيارة متاحف بغداد كلما نزلت بها، وبالذات متحف العصر العباسى، والمتحف الوطنى للتراث والثقافة ومتحف بغداد.. وكم من ساعات طويلة أمضيتها داخل أروقة مكتبة الأوقاف المركزية ومكتبة الاكاديمية العراقية ومكتبة المستنصرية.. وأختتم كل ذلك بقضاء ساعات طويلة داخل المكتبة الوطنية.. أتابع وأبحث وأقرأ كنوز حضارة بلاد ما بين النهرين، التى هى بلاد الرافدين. وبالذات الحضارة السومرية التى أخرجت لنا تلك الكتابة الرائعة المعروفة باسم الكتابة أو الخط المسمارى، وهى نتاج واحدة تنافس الحضارة المصرية على عراقة الحضارات وليس فقط على تاريخ الكتابة واختراع الحروف!!. وبكيت مرة أخرى - دمًا ودمعًا - يوم أن تم احراق المتحف العلمى المصرى فى شارع قصر العينى، الذى كان ينافس شقيقه فى باريس، وكنت دائمًا ما أزور المتحف العلمى المصرى، الذى أنشأه بونابرت وجعله على غرار ما عرفه فى باريس.. وكما تم نهب الآثار والوثائق العراقية.. تم نهب الآثار والوثائق المصرية فى هذا المتحف العلمى المصرى، ولولا جهود الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمى حاكم الشارقة، الرجل الوفى لمصر والذى دائمًا ما يحاول رد الجميل لمصر وشعبها لأنه تعلم فى جامعتها، لما أمكننا تعويض بعض ما تم نهبه من هذا المجمع. ولكن دموعى ودمائى لم تنزل وتنزف عندما شاهدت ما حدث لمتحف الفن الإسلامى - فى باب الخلق - مصاحبًا للعمل الإرهابى الذى استهدف مديرية أمن العاصمة.. وهو متحف نفخر به. وقد وضعت بذرته الأولى أيام الخديو إسماعيل، ثم بدأ تأسيسه عام 1883 وافتتح فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى.. وتجاوره دار الكتب «الكتبخانة الخديوية» التى نبتت فكرتها أيام الخديو إسماعيل - على يد رائد التنوير رفاعة رافع الطهطاوى عام 1870 فى سراى مصطفى فاضل بدرب الجماميز.. ولما ضاقت بما بها من مخطوطات ومطبوعات أقيم المبنى التاريخى لدار الكتب فى باب الخلق عام 1904 وأيضا أيام الخديو عباس حلمى الثانى!! وهى الدار التى تولى إدراتها أعظم مفكرى مصر أحمد لطفى السيد وعبدالحميد أبوهيف وعمل بها حافظ إبراهيم وأحمد رامى.. ومازلت أتذكر المرات العديدة التى كنت أصعد فيها سلم دار الكتب هذه فى باب الخلق لأغوص بين كنوزها الثقافية الرائعة قبل أن تنتقل إلى موقعها الحالى على نيل القاهرة. وتعجبت، وتساءلت: لماذا دائمًا الإرهاب يخشى من الفكر والثقافة والعلم ولهذا كانت أياديه السوداء تطول هذه القلاع الثقافية والفنية، مثل المجمع العلمى المصرى.. ومثل متحف الفن الإسلامى.. وأيضا المتحف المصرى فى ميدان التحرير. أقولها صراحة: لأن الإرهاب يخشى العقول المتفتحة.. والأفكار المتوهجة التى تبنى.. أما هم فلا هم لهم إلا التدمير والاحراق.. والعبث فى عقول البشر. وابدًا لن نسمح للغزاة الجدد: أمريكان أو إخوان لكى يدمروا عقولنا فهذا العقل هو صانع أعظم حضارة فى التاريخ. ولن نكون أبدًا مثل العراق التى دمروها.