رغم أن إنتاج د. محمد إبراهيم طه لا يتعدى سبعة أعمال ما بين قصة قصيرة ورواية، إلا أنه أصبح عنصرا مهما فى الحركة الأدبية المصرية، فيكفى أن يُقرأ اسمه على الغلاف ليعلم القارئ الخبير أنه سيستمتع بالعمل، كما أن أعماله الأخيرة «دموع الإبل امرأة أسفل الشرفة طيور ليست للزينة» عكست التحولات التى مرت بها مصر خلال السنوات الأخيرة دون أن يخوض بشكل مباشر فى مجال السياسة.. ومعه كان هذا الحوار. جاءت مجموعتك «طيور ليست للزينة» مختلفة كثيرا عن إنتاجك السابق، فلأول مرة تقسم المجموعة إلى قسمين، الأول «طيور ملونة» والثانى «طيور بيضاء» ورغم الواقع الأليم الذى تعالجه فى القسمين، فإن القسم الأول اتسمت معالجته بالسخرية بينما عالجت الثانى بالكثير من الشجن.. فما السر وراء هذا التقسيم؟ هو اختلاف نسبي، تقتضيه موضوعات الكتابة ومراحل معينة فى خبرات الكاتب، لكنه ليس خروجا عن سياق الكتابة الخاصة بي، فالقصص فى هذه المجموعة خاصة الجزء الأول تكاد تنهض على الشخصية الرئيسية التى تتمحور حولها الحكاية، الأمر الذى يقتضى أن يكون التناول مختلفا يميل أكثر ناحية الحكي، ومخلصا لآليات السرد التقليدية، أما خفة الظل التى تم بها التناول فهى موجودة معى منذ البدايات، لكنها كانت خافتة فى ظل سيطرة عالم من الشجن والحزن الشفيف على عوالمى الروائية، فشخصية عبدالوهاب غصن على سبيل المثال فى سقوط النوار، وعبدالمجيد راشد فى «العابرون» والحاج نار وعبده أبودراع فى «دموع الإبل» كلها نماذج ساخرة بغرابتها وسلوكها تجاه الشخوص الأخرى، وما حدث فى هذه المجموعة أننى أفسحت المجال لشخوص فى القسم الأول يتسم تكوينهم وسلوكهم بالغرابة، فجاء الحس الفكاهى وجاءت اللغة حارة ومتدفقة أقرب إلى الشفاهية، وخرجت القصص بالتالى طويلة نسبيا، الحكاية فيها مسيطرة وتتمحور حول الشخصية بما يمنح الكتابة فى النهاية نفسا روائيا، أما القسم الثانى فهو ست قصص قصيرة أقرب إلى حالات قصصية تميل إلى التلميح، أكثر التزاما بشروط الكتابة القصصية الصارمة، واللغة رصينة وشاعرية تنضح بالشجن لأنها تبدو ذاتية، ويبدو أننى حين أغوص بداخلى تخرج الكتابة محملة بالشجن، بينما حين أتأمل العالم تخرج المفارقة وخفة الظل، وما حدث على أى حال فى هذه المجموعة أننى استخدمت الكتابة الطويلة ذات النفس الروائى والتى قد تميل بالضرورة إلى شروط الرواية أكثر منها القصة القصيرة. رمزية المجموعة تبدأ من العنوان «طيور ليست للزينة» أهو رفض للأسر، وسعى للحرية أم أنه الإصرار على مجابهة الواقع وعدم الاستسلام له؟ شخوص هذه المجموعة تجابه حياة قاسية تخرجها عن التصنيف وتجعلها أقرب إلى الطيور البرية، طيور فرمها الواقع والحياة الصعبة فلم تستسلم لهما، وأصبحت متربة وحادة وشرسة وبائسة، لكنها تحيا بطريقتها وتتعاطى مع الحياة بطريقة مدهشة تلقائية وغريزية، تؤكد قيمة الحياة وأولوياتها فى القسم الأول، بعكس طيور القسم الثانى التى تتعامل برومانسية وبراءة فيكون الشجن والغياب والموت من نصيب هذه الطيور البيضاء الرقيقة. نلاحظ أيضا فى هذه المجموعة تحولا عن الاحتفاء بشخصيات نسائية إلى شخصيات ذكورية مثل عوض وسليمان أبو الورد وبرهومة، وأحمد أبو ترك عكس أعمالك السابقة التى اعتمدت فيها على شخصيات نسائية.. لماذا؟ ملاحظة حقيقية، لكنها ليست تحولا، فالأبطال الحقيقيون واللاعبون الأساسيون فى أعمالى السابقة كانت نماذج نسائية، بحكم النشأة فى عالم تحيطه الأنثى من كل جانب، الأم والخالة والعمة والجدة، فى مقابل ندرة النماذج الرجالية المؤثرة بذات الدرجة، بسبب الغياب إما بالموت أو السفر أو بالعمل أو بالمرض، لكنك حين تخرج إلى الحياة والشارع، تتغلب النماذج الذكورية. قمت باستدعاء بعض الشخصيات من أعمالك السابقة لتشارك بنفس صفاتها- فى أحداث قصص المجموعة.. ما الهدف من ذلك؟ تكرار شخصيات ثانوية، ممرضة، داية، حلاق، أو شخصيات نادرة، الأخرس، أو الأعرج، أو تكرار أسماء عائلات وأماكن بعينها مثل جامع البحر، أو شوارع ودروب وحارات وذكرها أو تكرارها من عمل لآخر، يضفى نوعا من المصداقية على العالم ويكسبه نوعا من الوحدة والترابط، ويؤكد خصوصية العالم القصصى والروائى للكاتب، ويبعد عنه فكرة أنه عالم ورقى مكتوب أو شخصياته كرتونية، ويجعل القارئ يعتقد أنه أمام عالم حقيقى وأحداث حقيقية وشخوص من لحم ودم حتى لو كان العالم متخيلا. جاءت المجموعة مختلفة أيضا عن أعمالك السابقة من حيث طريقة السرد، فالملاحظ هو استخدام ضمير المتكلم فى كل القصص, عدا قصة واحدة استخدمت فيها أسلوب الراوى الخارجي، وهو ما جعل الأحداث تميل فى القصص نحو شخصية واحدة على حساب الشخصيات الأخرى.. ماذا قصدت من ذلك؟ الضرورة الفنية هى التى استدعت أن يكون السارد فى القسم الأول واحدا، يروى بضمير المتكلم، من موقع الراوى المشارك أو المراقب أو المتورط بدرجة ما، لتمنح الحكايات والقصص صفة الصدق، رغم ما بها من فانتازيا وغرابة، فهى ليست منقولة عن أحد، إنما عن راو شارك وشاهد، راو أقرب إلى شاهد عيان، أما فى القسم الثانى فنحن أمام سارد بطل، متورط بالكامل، معنى بالحكى عن شجون شخصية وعائلية خاصة، والبوح عن أشياء قد تكون جارحة أو مهينة. ما زالت أعمالك تدور فى مجتمعات قروية، ألم تفكر بعد فى عمل يعالج مشكلات مجتمع المدينة؟ باستثناء «سقوط النوار» و«توتة مائلة على نهر»، لم تعد القرية النقية موجودة فى أعمالي، لأن القرية لم تعد نقية كما كانت، وفى مصر كلها باستثناء القاهرة لا توجد قرية خالصة، ولا مدينة خالصة، وضاقت الهوة أو ردمت فى بعض الأماكن بين القرية والمدينة، وانحسرت الكتابة عن القرية، التى شهدت عصرها الذهبى مع بزوغ ثورة يوليو بما قدمته للفلاحين من امتيازات، وبما رفعته عنهم من ظلم، وبما منحته لهم من مجانية التعليم والعلاج، وغابت رواية القرية الخالصة التى عرفناها فى «زينب» و«الأرض» و«الحرام»، ولم يبق أمام الروائى إلا أن يغوص أكثر فى شخوص ريفية، لم تعد تعمل بالزراعة بل تخلصت أيضا من زيها الريفي: الجلباب والصديرى والطاقية الصوف والكندورة، يعيشون مؤقتا أو دائما بالمدن فى شقق بها مياه وصرف صحي، فلاحون بالاسم فقط بينما هم موظفون وعمال وفنيون، نعمت أيديهم وتركت الشقوق أرجلهم إلى غير رجعة، يختلطون من حيث المظهر ربما مع أبناء المدينة الخالصين، وبات على الروائى أن يميز بينهم وبين أبناء المدن عن طريق الطباع والمعتقدات والقيم بعد صعوبة التمييز من الشكل الخارجي، وهذه هى المنطقة المشتبكة التى أكتب فيها. الملاحظ أن عمليك الأخيرين «امرأة أسفل الشرفة» و»طيور ليست للزينة» فيهما محاولة لتغيير الواقع الأليم على عكس العمل السابق عليهما وهو رواية «دموع الإبل» التى كانت عرضا للواقع أكثر من محاولة لتغييره.. ما سر هذا التحول؟ روح القلق والثورة على الواقع والسخط منه موجودة داخل العملين، لكنها لا تقدم آليات الخلاص الجماعى الذى ما زالت أعمالى بعيدة عنه، فتغيير الواقع هدف كبير لا تدعو إليه المجموعة بشكل مباشر، وما أشرتَ إليه لا يعدو أن يكون محاولات فردية، نوع من الخلاص الفردي، ربما يكون ذلك عيبا، لكننى أقدم الأدبى على الأيديولوجي.