أظنُّ أن الناس في بلادنا قد ملَّتْ من هذه الكلمة ومشتقاتها، بسبب ابتذال معناها مع كثرة استعمالها، والإسراف فى المخايلة بها . ولعل الناس في ذلك معذورون، فخلال سنوات مبارك الثلاثين، وخلال السنوات الثلاثة التالية عليها وحتى اليوم، استعمل المخادعون مفردات «الصدق» وبهرجوا به على الملأ ، حتى انعدمت الثقة فى الشخصيات العامة وصار صدقُهم عند معظم الناس مرادفاً للكذب.. أذكرُ أن شخصاً عرفته طيلة عشر سنوات، كان لا يكف خلالها عن ترديد عبارة: «مهما كانت عيوبى، فأنا لا أكذب أبداً. فلما دار الزمانُ دورته، وانكشف المستور بعد الهزَّات الشديدة التى أعقبت ثورة يناير 2011 ظهر للجميع أن هذا الرجل، وغيره كثيرون ممن كُنَّا نُحسن الظن بهم، هو مجرد قشرة من الكذب تغطى جوهراً كاذباً (أشراً) ليس فيه إلا الزيف المغلَّف بالزيف. ولكن، وعلى الرغم من ذلك كله، لا يمكننا أن نستوفى الكلام عن منظومة القيم إلا بالوقوف طويلاً عند زالصدقس. ليس فقط لأنه قيمةٌ فى ذاته، وفضيلةٌ إنسانيةٌ مختارة ومدعومة بالموروث الحضارى الطويل، العقلانى والدينى، وإنما أيضاً لأن الصدق هو القيمة المؤكِّدة لبقية القيم. فابتداءً من القيم الثلاث الكبرى (القيم العليا: الحق، الخير، الجمال) ومروراً بسُلم القيم الفرعية المشتقة منها والمتداخلة معها، لا يمكن أن تصح أىُّ قيمةٍ إلا بالصدق.. وإلا، فكيف سيكون الحقُّ حقاً، لو كان مشوباً بالكذب! بل إن «الحق» ذاته، هو نقيض «الكذب» الذى هو نقيض «الصدق». وهو ما يعنى أن الحق والصدق ، تقريباً، هما قيمةً واحدةٌ لها مُسميان مختلفان. وكذلك الحال في القيمة العليا الثانية «الخير» فهى الأخرى لا تقوم ولا تصح، إلا إذا زيَّنها الصدقُ. انظرْ إلى تعاسة المسعى فى هذا الشخص الكاذب قلبه، الذى يفعل الخير رياءً أو بحثاً عن المديح أو ذراً للرماد في العيون حتى لا ترى الناس معايبه. كيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يكون خيِّراً؟ وأى خيرٍ ذاك الذى يمازجه الكذب و يتلبّس به؟ وبخصوص القيمة العليا الثالثة، فإن للصدق جمالاٌ هو أحد شروطه، فالجميلُ لا يكون جميلاً وهو كاذب. ولن أزيد في بيان هذه النقطة البديهية، لوضوحها، وحتى لا تغضب النسوة العجائز من هاتيك «الفنَّانات» اللواتى صرن يُسرفن في تزييف جمالهنَّ، وصرنا نراهنَّ على الشاشات منتفخات الخدود والاستدرات، وملطَّخات بقواقع الألوان.. وذكر «الشاشات» يقودنا إلى الكلام عن نقطة مهمة، هى الصدق الإعلامى. صار الناسُ في بلادنا يستعملون أخيرا تعبير «الإعلام الفاسد» وهى صيغة دعائية استخدمها الإسلاميون الذين كانوا يحكمون ، أو يتحكّمون بُحكم قُربهم من الحاكمين (الإخوان) لإدانة القنوات التلفزيونية المعارضة لهم. وكانوا في الوقت ذاته يروِّجون لإعلامهم الدينى، أو بالأحرى إعلامهم الكذَّاب باسم الدين، ويشجِّعون القنوات المروجّة للأفكار الأشد إفساداً للمجتمع، كالبهرجة الساذجة بدعوى إحياء الخلافة الإسلامية، وكالمطالبة بزواج البنات ما دامت الطفلة تطيق النكاح.. وبالمناسبة، فإن هذه الفتوى البائسةُ مضحكةٌ من حيث فصيح اللغة، لأن «تطيق» تعنى أنها لا تقدر على احتماله، وهو عكس المعنى الذى يريده صاحب الفتوى! وفى آى القرآن : «وعلى الذين يطيقونه» (يعنى لا يستطيعون احتمال مشقته) وفى كلام الحلاج وهو يشكو من أحواله الروحية الطاحنة: يا أهل الإسلام أغيثونى، فليس يتركنى لنفسى فأهنأ بها، وليس يأخذنى منها فأستريح، وهذا دلالٌ أُطيقه ( يعنى لا أقدر عليه) وبعيداً عن هذا اللغط الدينى والسياسى الذى جرى ببلادنا مؤخراً، واستكمالاً للكلام عن قيمة الصدق وارتباطها المفقود اليوم بالحالة الإعلامية، أقول ببساطة إن إعلامنا الآن صار فى تمعظمه كاذبا.. ولهذا القول تفصيلٌ وتوضيح، نلخِّصه في السطور التالية. للإعلام في بلادنا أنواعٌ أهمها ثلاثة : التلفزيون، الصحف، المواقع الإلكترونية.. وهناك بالطبع الإذاعة المسموعة، والمنشورات الدعائية محدودة العدد، وإعلانات الشوارع. وهذه كلها وسائل «إعلام» لكن الثلاثة الأُوَل هى الأكثر تأثيراً وانتشاراً ، ولذلك سيكون كلامنا عنها تحديداً. هناك إعلامٌ حكومى (تلفزيونى وصحافى) وإعلامٌ خاصٌّ يملكه ويتحكم فيه أشخاصٌ هم أصحاب هذه الجرائد والقنوات، والقائمون بتمويلها والإنفاق عليها فى السر أو العلن.. وخلال ستين عاماً من التوجيه السلطوى للإعلام الحكومى (الإرشاد) ثم ثلاثين عاماً من الكذب المريع، ثم ثلاثة أعوام من الإعلام الفضائحى.. صارت وسائل الإعلام الحكومية بلا قيمةٍ ولا معنى فى معظم الأحيان، ولم يعد لها تأثيرٌ على الناس له إلا فى أضيق الحدود. وهو ما يظهر فى قول الناس فى بلادنا، وهم يسخرون: هذا كلام جرائد! وإذا سألت أحد المصريين اليوم: هل تتابع قنوات التلفزيون الحكومية؟.. فسوف يضحك من سؤالك، وقد يشكُّ فى قواك العقلية. أما الإعلامُ الخاصُّ فهذا كذبه مشهور، وهو فى مُخادعاته معذور. لأنه مموَّل من شخصٍ ذى مصالح خاصة، أو من جهةٍ لا يعلم أحد وجهتها الخفية، أو من دولةٍ ذات سياساتٍ مُتقلّبة كما هو الحال دوماً فى السياسة، أو من دويلةٍ تافهةٍ نتأت حول حقل غاز فارتضى حكامها بدور العاهرة الشمطاء المكشوفة. وبالتالى، فهذا الإعلام االخاصب هو بوقٌ لأصحابه لا محالة، وصامتٌ عن مخازيهم بالضرورة. وعلاوة على ذلك، فإن معظم العاملين في هذا (الإعلام) وليس كلهم بالطبع، هم أشخاصٌ تربُوا وترعرعوا واشتهروا فى هذه السياقات الكاذبة، أصلا. ومعلوم أن معظم القنوات التلفزيونية والجرائد الخاصة، تخسر، وتسعى لتقليل خسارتها بالإعلانات التى هى الهمُّ «الثانى» لهذه الوسائل الإعلامية ، بعد الهمِّ الأول الذى هو أغراضُ المالك. فإذا اقترن هذا الهم وذاك، ازداد التلاعب بالمشاهدين الذين لا يدركون كمية التلاعب الإعلامى بالعقول، ابتداءً من الصيغ التى تُنشر بها الأخبار، وانتهاءً بالإغراق فى التفاهة والسطحية، حتى يصير ذلك سمةً عامةً لمجتمع يلاحق التوافه والتافهين، ولا يُعمل عقله فيما يسمع ويرى.. وشيئاً فشيئاً، ومع استدامة الكذب والتلاعب بالعقول، ينفر غالبية الناس فى المجتمع، لاسيما البسطاء، من العمق والصدق والجدية. ويصير معظمهم تافهاً، يسهل توجيه ذهنه وأفكاه و مشاعره، ويحب التسلية السطحية، ويطيق القيم .. (يطيق، بالمعنى الفصيح للكلمة) فما الحلُّ، إذن؟ .. أعتقدُ أن كل كلامٍ يقال حالياً عن «إصلاح» المنظومة الإعلامية والارتقاء بها إلى «الصدق» والموضوعية، هو مجرد خداع لا طائل من ورائه. لأن الإعلام الحكومى اهترأ من داخله، وداخَله من الفساد ما لا يمكن علاجه ولو على المدى البعيد. والإعلامُ الخاصُّ، خاصٌّ بالأهداف الخاصة لأصحابه ومموليه، ولا يمكن أن نتوقع من هؤلاء أن يكونوا رعاةً للعقل الجمعى أودعاة للقيم المجتمعية، لأنهم فى نهاية الأمر رجال مالٍ وسياسة.. والمال والسياسة لا طاقة لهما بالقيم، ولا احتمال عندهما للعقلانية .إلا فيما ندر . فما الحل، إذن؟ .. أعتقدُ أن الذى يحتاج إصلاحاً وإدراكاً لقيمة الصدق وفهماً لأهمية الموضوعية، هو الجمهور. فالجمهور فى خاتمة المطاف هو المستهدف، والارتقاء به هو الذى سيُجبر الإعلام على الارتقاء كى يصل إلى القاعدة العريضة، أو يسقط من تلقاء نفسه. ولا شك عندى فى أن الارتقاء بجمهور الناس، هو مهمةٌ عسرةٌ تحتاج جهداً.. لكنها السبيل الوحيد. لمزيد من مقالات د.يوسف زيدان